ذلك أن الهدنة التي عقدت بين النبي وقريش يوم الحديبية لم ترح النبي والمؤمنين من الجهاد، ولم تتح لهم سلما كاملة قد كف الله أيدي قريش عن المؤمنين، وكف أيدي المؤمنين عن قريش بهذه الهدنة إلى حين، ولكن مكر قريش ما زال كما هو ينبث في قبائل العرب مغريا ومحرضا. ونحن لم نذكر لك من الجهاد بين النبي وبين مشركي العرب من غير قريش شيئا، وإنما أشرنا إليه إشارة لا تصوره ولا تحققه، لأننا لا نكتب السيرة في هذا الحديث وإنما نصور في إيجاز شديد ما ليس بد من تصويره لنعرض عليك مرآة صادقة للعصر والبيئة اللذين عاش فيهما النبي وأصحابه ولنشأة الإسلام وانتشاره قليلا قليلا حتى شمل جزيرة العرب كلها قبل أن يختار الله نبيه الكريم لجواره.
والواقع أن الجهاد بين النبي وبين المشركين من العرب كان متصلا وكان شاقا، كان النبي يريد أن ينشر الإسلام من جهة وكان أعداؤه المشركون يحاولون أن يمنعوه من ذلك ما استطاعوا إلى منعه سبيلا، يغيرون على المدينة حينا ويتهيئون للإغارة عليها حينا آخر.
ولم يكن بد للنبي وأصحابه من أن يردوهم إن أغاروا ومن أن يسبقوهم ليكفوهم إن هموا بالإغارة. وكان في أهل البادية من العرب مكر وكان فيهم غدر أيضا وكانوا يؤثرون المال على كل شيء. وكان كيد قريش وإغراؤها يصبان عليهم في كل وقت يغرونهم بالمال أحيانا وبغير المال أحيانا أخرى، فكان منهم من يأتي النبي يزعم أنه قد أسلم وأن قومه من ورائه قد أسلموا، وأنهم في حاجة إلى من يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، فكان النبي يرسل إليهم النفر من أصحابه فلا يكادون يبعدون بهم عن المدينة حتى يظهروا ما أضمروا من الغدر ويوقعوا بمن أرسل النبي معهم من المسلمين، فيقتلون بعضهم ويأسرون بعضهم يتقربون بأسره إلى قريش ويقدمونه إليها ويأخذون جائزتهم على هذا الغدر كالذي كان من «لحيان» يوم «الرجيع» حين أرسل النبي معهم مفقهين لهم في الدين فلما بعدوا بهم عن المدينة أظهروا الغدر . فقاتلهم المسلمون حتى قتل منهم من قتل وأسر منهم من حملوه إلى قريش فقتلته.
ولم يحدث هذا مرة واحدة وإنما حدث غير مرة، ذلك إلى ما كان يحدث من تجمع وتهيؤ لغزو النبي، فيعلم النبي علمهم ويضطر إلى أن يسبقهم إلى الغزو ليوقع بهم مرة وليشعرهم بقوته وتأهبه ويقذف في قلوبهم الرعب مرة أخرى.
فكانت حياة النبي والمسلمين جهادا كلها، واضطر النبي أحيانا إلى أن يرسل السرايا، وأحيانا أخرى إلى أن يخرج بنفسه لهذه الأغراض التي بيناها، أضف إلى ذلك أن قريشا لم تقم على هدنتها تلك إلا قليلا، ثم نكثت عهدها وأغارت على بعض حلفاء النبي من خزاعة فلم يكن بد من أن تعود الحرب بينها وبين النبي والمؤمنين جذعة.
وأحست قريش أن النبي قد غضب لحلفائه واعتبر الهدنة بينه وبينها منقوضة، فأرسلت أبا سفيان إلى المدينة ليعلم علم النبي وأصحابه من جهة، وليشد أمر الهدنة ويقويه من جهة أخرى. ولكن أبا سفيان جاء إلى المدينة وعاد إلى مكة فارغ اليدين لم يبلغ مما أراد شيئا. وجعل النبي يتهيأ لعقاب قريش حتى كان العام الثامن للهجرة فخرج النبي إلى مكة في جيش لم يجتمع له مثله من قبل قوة وكثرة عدد، حتى إذا كان غير بعيد من مكة خرج أبو سفيان في نفر من قريش يتحسسون الأخبار، فلما رأوا نيران الجيش راعهم ما رأوا وعرفوا أن قد حاق بهم مكرهم السيئ. وأخذ أبو سفيان إلى النبي، أخذه العباس بن عبد المطلب الذي جعل ينصح له في الطريق ويحثه على الإسلام حتى أدخله على النبي
صلى الله عليه وسلم
فشهد بين يديه: لا إله إلا الله، وأظهر التردد في الشهادة بأن محمدا رسول الله، ولكنه اضطر آخر الأمر إلى أن يعلن الشهادة. فأمنه النبي على نفسه وعلى كل من دخل داره من قريش، وعلى كل من دخل المسجد الحرام منها، وعلى كل من لزم داره وأغلق بابه منها أيضا.
وعاد أبو سفيان إلى قريش بهذا الأمان فلم يسعها إلا الإذعان ؛ فقوم دخلوا دار أبي سفيان وقوم دخلوا المسجد الحرام وآخرون لزموا دورهم وغلقوا أبوابهم وأصبح النبي فدخل مكة بعد أن أمر قواده ألا يقاتلوا أحدا إلا من عرض لهم بسوء. ولم يخالف عن هذا الأمر من القواد إلا خالد بن الوليد - رحمه الله - كان فيه شيء من عنف فأعمل السيف فيمن لقيه ورفع ذلك إلى النبي فتبرأ مما صنع خالد وأرسل من أصحابه من كفه عن القتل والقتال ودخل النبي والمسلمون مكة، فأقبل النبي على المسجد الحرام فحطم ما كان حول الكعبة من الأوثان وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.»
ثم أمر «بلالا» فأذن فوق الكعبة إعلانا للإسلام وإعلاء لكلمة الله، واجتمعت قريش - فيما يقول الرواة - للنبي
Bog aan la aqoon