وكان النبي قد أرسل من «الحديبية» عثمان - رحمه الله - سفيرا إلى قريش، فأبطأت عودته وقيل: إن قريشا قد فتنته، فبسط النبي يده للبيعة على الموت، وبايعه أصحابه لم يتخلف منهم أحد، وأنزل الله في سورة الفتح:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما .
وفي يوم «الحديبية» ذاك تمت الهدنة بين النبي وبين قريش عشر سنين على أن يدخل في عقد قريش من العرب من شاء ويدخل في عقد النبي منهم من شاء، وتكف الحرب بين الفريقين، وعلى أن من جاء قريشا من أصحاب النبي لاجئا إليهم لم يردوه ومن جاء النبي من قريش مؤمنا به أو لاجئا إليه رده عليهم.
وعلى أن يأتي النبي وأصحابه من قابل معتمرين فتترك لهم قريش مكة ويدخلونها لا يحملون من السلاح إلا السيوف في أغمادها، ثم لا يقيمون فيها إلا ثلاثة أيام.
وهذه الشروط التي قامت عليها الهدنة هي التي أحفظت فريقا من المسلمين، ولكنهم لم يفطنوا لأن الهدنة بينهم وبين قريش ستكفيهم مكرها من جهة وستطلق أيديهم فيمن لم يحالف قريشا من العرب يسالمونهم إن سالموا ويحاربونهم إن حاربوا، وستريحهم إلى حين من خصومة هؤلاء الأعداء الألداء، ذلك إلى ما وعدهم الله من الفتح القريب ومن مغانم كثيرة يأخذونها.
ومهما يكن من شيء فقد طابت قلوب المسلمين آخر الأمر وعرفوا أنهم قد أسرعوا إلى الحفيظة والغضب، وأنهم لو استأنوا بأنفسهم لكان خيرا لهم وأرضى لنبيهم، ولكن الله ونبيه قد عوداهم العفو عن مثل هذه الهفوات.
15
ولم يكن أمر النبي مع اليهود أهون من أمره مع قريش؛ فهم كانوا على قلتهم في المدينة جيرانا للنبي والمسلمين. ولم يكونوا جيران خير، كان كفرهم شديدا ومكرهم أشد، وكانوا على اتصال بالمنافقين من أهل المدينة يشجعونهم ويغرونهم بالنفاق، وكانت بينهم وبين كثيرين من هؤلاء المنافقين علاقات حلف في الجاهلية فكان هذا يزيدهم كفرا وطغيانا، وكانوا بعد هذا كله أهل كتاب يقرءون التوراة أو يقرؤها أحبارهم على أقل تقدير، ويرون أنهم على شيء من الدين، وأنهم سبقوا المسلمين إلى هذا الدين، فلهم سابقة علم بشئون النبوات، وكانوا يعظمون موسى ويرون المسلمين يعظمونه ويسمعون تعظيمه في القرآن فتأخذهم الكبرياء، ويظنون أنهم أهدى سبيلا من المسلمين كما ظنوا من قبل أنهم أهدى سبيلا من النصارى، وكانوا يتيهون بدينهم وما عندهم من علم قليل على المسلمين، كما كانوا يتيهون بذلك على العرب في الجاهلية. وكانوا أصحاب جدال لا ينقضي وأصحاب عناد لا قرار له، وكانوا ذوي جرأة على الحق وافتنان في الباطل، يعلمون أن المسلمين لا يقرءون التوراة في لغتها العبرانية فيحرفونها كما يشاءون وكما تشاء أهواؤهم، لا يحفلون بما في ذلك من نكر ولا يأبهون لما له من عواقب. وكانوا يسألون النبي عن أشياء، فإذا أجابهم النبي بما كان الله يوحي إليه ماروا في ذلك وأسرفوا في المراء.
ثم كانوا لا يفون بالعهد إذا عاهدوا ولا يصدقون في القول إذا قالوا، ولا يستطيع أحد من المسلمين أن يأمن لهم في قول أو عمل.
ثم لم يلبثوا أن بينوا عن غدرهم تبيينا لا يترك سبيلا إلى الشك في أن جوارهم غير مأمون: هم فريق منهم - وهم بنو النضير - بقتل النبي، وقد أقبل عليهم ذات يوم يستعينهم على بعض الحق - كما كان الحلف يقضي بذلك - فأظهروا حسن اللقاء وهموا بالغدر وأزمعوا أن يلقوا عليه من عل صخرة تودي به لولا أن أنبأه الله بما كادوا له، فانصرف عنهم ثم أجلاهم عن المدينة ولم يرزأهم شيئا.
Bog aan la aqoon