ولكنهم على كل حال لم ينتصروا في تلك الوقعة يوم أحد، فكانت عليهم الدائرة: قتل منهم من قتل، وجرح منهم من جرح، وفر منهم كثير ولم يثبت إلا النبي ونفر قليل من أصحابه، وأصيب النبي نفسه إصابة ضعيفة، ورزئ بعمه «حمزة» وكثير من أصحابه، واستطاع أبو سفيان قائد قريش أن يقول للنبي ومن بقي معه من أصحابه: اعل هبل، الحرب سجال، يوم بيوم بدر. وقد أجاب عمر أبا سفيان عن أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
بأن الله أعلى وأجل، وبأن الله قد أبقى من المسلمين من سيكونون له ولقومه بلاء أي بلاء، وعلى رغم الهزيمة التي امتحن الله بها المسلمين في ذلك اليوم، وعلى رغم ما رزئ به النبي وما أصابه من الأذى وما أصاب أصحابه من الثكل والجراحة فقد أبى النبي أن يقبل الهزيمة كما قبلتها قريش يوم بدر؛ فأمر أصحابه أو من قدر منهم على الرحيل أن يتبعوا قريشا، ومضى على رأسهم في إثر المنتصرين، لم يحفل بقلة أصحابه وكثرة عدوه وإنما مضى في إثرهم لا يلوي على شيء حتى أمن كرتهم على المدينة، فعاد موفورا. وقص الله وقعة «أحد» كما كانت مؤنبا لمن فشل في المسلمين، وعاتبا على من انصرف عن الحرب إلى الغنيمة مخالفا بذلك عن أمر النبي، وعافيا مع ذلك عن أولئك وهؤلاء، وآمرا للنبي أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم في الأمر، ومعزيا للمسلمين بعد ذلك عمن فقدوا من أصحابهم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، ومهيئا للمسلمين لما سيمتحنون به في أنفسهم وأموالهم، ولما سيسمعون من الأذى الذي يؤذيهم به المشركون والذين أوتوا الكتاب من اليهود.
قص الله هذا كله كأحسن ما يكون القصص في سورة آل عمران. على أن قريشا قد أطمعها انتصارها فلم تكد تستريح من غزوتها تلك وتفرغ لما كانت فيه من التجارة والحياة اللاهية اللاعبة، بل فكرت في غزو المدينة مرة أخرى. وجعلت تتأهب لذلك وتؤلب العرب وتحالف القبائل واليهود موقنة بأنها لن تأمن ما بقي للنبي وأصحابه شوكة، فليس لها بد من أن تزيل هذه المدينة أو أن تتهيأ لزوال مكة.
وكذلك أقبلت قريش بعد عام وبعض عام - ومعها كثير من قبائل نجد، وقد أحكمت أمرها مع اليهود - غازية للمدينة تلك الغزوة التي قصها الله في سورة الأحزاب والتي سميت بهذا الاسم.
وقد عرف النبي والمسلمون تأهب قريش وأحابيشها وحلفائها من أهل نجد لغزو المدينة، فتشاوروا في هذا الأمر وأشير على النبي أن يحتفر خندقا يمنع المشركين من بلوغ المدينة، فتأذن في أصحابه بذلك وشاركهم في احتفار الخندق، كما شاركهم من قبل في بناء المسجد يعمل بيده كواحد منهم، ويحتمل في ذلك من المشقة ما يحتملون، ويلقى فيه من العناء ما يلقون صابرا جادا مثبتا قلوب أصحابه مغريا لهم بالصبر والجد، حتى بلغوا من احتفار الخندق ما أرادوا.
وأقبلت قريش في جموع كثيرة جدا من أحابيشها وأحلافها: جموع تأتي من أسفل من المسلمين وهم قريش ومن جاء معهم، وجموع أخرى تأتي من فوقهم وهم أهل نجد من حلفاء قريش وجلهم من غطفان.
ورأى المسلمون ذلك فأكبروه واستكثروه، ولا سيما أنهم علموا أن بني قريظة من اليهود قد نقضوا عهدهم وغدروا بحلفائهم من المسلمين، وخلطوا أمرهم بأمر قريش وحلفائها بغيا وغدرا ونقضا للحلف والجوار.
وكان المسلمون يعلمون إلى هذا كله أن بين أظهرهم من المنافقين فريقا إن لم يظهروا تأييدهم لقريش فهم يضمرون خذلانهم للمسلمين ويأبون على كل حال أن ينصروهم. فلا غرابة في أن يصف الله عز وجل موقف المسلمين من هذا كله أبرع الوصف وأنفذه إلى القلوب في هذه الآيات الكريمة من سورة الأحزاب، وأن يذكر المسلمين بذلك بعد الموقعة ليعرفوا حسن بلائه فيهم وعظيم نعمته عليهم:
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا .
Bog aan la aqoon