كان في مكة يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك ويأمر بالعدل وينهى عن الجور، ويجهر بأن الناس جميعا سواء عند الله لا يمتاز بعضهم من بعض إلا بالبر والتقوى، ويحذر الذين يشركون بالله ويجعلون له أندادا عذابا شديدا بعد الموت، وينبئ بأن لهذه الدنيا التي يعيش الناس فيها نهاية لا بد من أن تبلغها يوم تقوم الساعة، ويهول من أمر الساعة هذه تهويلا شديدا تنخلع له القلوب، وينبئ بقربها وبأنها تفجأ الناس على حين غفلة منهم؛ فتذهل الآباء والأمهات عن أبنائهم، وتنسي الإنسان كل شيء إلا نفسه، ويضطرب لها الكون اضطرابا أي اضطراب، فالسماء منفطرة، والكواكب منتثرة، والبحور مفجرة، والقبور مبعثرة، ويومئذ تعلم كل نفس ما قدمت من عمل وما أخرت.
وعلى هذا النحو كان يهول من أمر الساعة وما يكون بعدها من حساب الناس على ما قدموا وما أخروا من أعمالهم، وقد سجل كل عمل أتاه الإنسان في كتاب ينشر أمامه يحصي له حسناته وسيئاته، والنار معروضة عليه والجنة مزلفة له؛ فهو يرى الجحيم كأبشع ما يكون ويرى النعيم كأروع ما يكون، يتمنى هذا ويشفق من ذاك، ولكن كتابه قد نشر بين يديه يحكم له بالنعيم أو يحكم عليه بالجحيم، لا يظلم مثقال ذرة مما عمل، تضاعف له حسناته ولا تضاعف له سيئاته وإنما تحصى عليه كما هي لا يزاد فيها، وقد ينقص منها إن ثقل ميزان الحسنات. فالإنسان على نفسه بصيرة وإن ألقى معاذيره. ويومئذ يروع الكافرون حين يرون الكتاب منشورا فيقولون:
يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا .
فإذا قضي بين الناس بمقدار أعمالهم ذهب أصحاب النعيم إلى نعيمهم خالدين فيه أبدا، وذهب أصحاب الجحيم إلى جحيمهم خالدين فيه أبدا إن كانوا مشركين بالله لا يخلصون له قلوبهم ولا نفوسهم ولا ضمائرهم، وماكثين فيه دهرا يقصر أو يطول لا يقاس ذلك إلا بعفو الله عن الذين أذنبوا واقترفوا السيئات بعد أن آمنوا.
وكانت قريش تسمع هذا كله فتنكره أشد الإنكار وتبغض من يتلوه عليهم أشد البغض؛ فهو ينبئهم بأن المشركين من آبائهم مخلدون في العذاب، وبأنهم سيلحقونهم في النار ويشاركونهم في هذا العذاب المقيم إن لم يجحدوا آباءهم ويجحدوا دينهم هذا ويؤمنوا بالله وحده لا يشركون به شيئا ولا يجعلون له ندا، ويؤمنوا بأن محمدا هذا الذي يتلو عليهم ما يتلو من القرآن رسول الله قد جاءهم من عنده بالحق والبينات. وليس لهم بد بعد هذا الإيمان من أن يلائموا بين حياتهم وبينه ومن أن يأتوا ما يأمرهم به النبي ويجتنبوا ما ينهاهم عنه، فإن خالفوا عن ذلك فالله لهم بالمرصاد والنار لهم معدة يسلكون فيها مع المشركين من آبائهم لا يقبل منهم عدل ولا صرف ولا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون.
وكان العتاة منهم والجبارون ربما سخروا من النبي ومما يتلو عليهم، وربما سألوه أن يأتيهم بآية تثبت لهم صدقه، فكان يتلو عليهم من القرآن ما يرد على سخريتهم، وكان ينبئهم بأنه لا يأتيهم بآية إلا هذا القرآن الذي يتلوه عليهم والذي جاءه من عند ربه، ويتحداهم هو فيسألهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وكان عجزهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن هو الدليل على أنه ليس من كلام الناس، وإنما هو من كلام الله الذي لا سبيل إلى تقليده ولا إلى محاكاته، فضلا عن الإتيان بمثل ما يأتي به، وكان يتلو عليهم فيما يتلو هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء:
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . وكانوا لا يفهمون ولا تسيغ عقولهم أن تتصل الأسباب بين الله وبين واحد من الناس يوحي إليه هذا الكلام الذي كان يتلوه عليهم ويتحداهم به ويسألهم أن يأتوا بمثله، فيطلبون إليه آيات تكرههم على أن يؤمنوا له؛ يسألونه أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا، أو أن ينشئ لنفسه جنة من نخيل وعنب فيفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو يسقط السماء عليهم كسفا، أو يأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يبتكر لنفسه بيتا من زخرف، أو يرقى في السماء فيأتيهم منها بكتاب يقرءونه. وكان الله يأمره أن يجيب على هذا التحدي بهذه الجملة اليسيرة الرائعة:
سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .
وكان بعضهم يأتيه أحيانا بالعظام البالية فيفتها بيده وينثرها في الهواء، ثم يسأله ساخرا: من يحيي العظام وهي رميم؟ فكان جوابه حاضرا من القرآن في هذه الآيات الكريمة من سورة يس:
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون .
Bog aan la aqoon