4
وأمر السنة بعد ذلك مختلف عن أمر القرآن أشد الاختلاف؛ ذلك أن القرآن قد وصل إلينا متواترا مجمعا عليه، من أجيال المسلمين منذ حياة النبي إلى الآن، وإلى آخر الدهر ما بقي في الأرض مسلمون. توارثته الأجيال كما تلاه النبي، وكما كتبه عنه كتاب الوحي وكما جمع أيام أبي بكر، وكما نسخ في المصاحف أيام عثمان، وعلى ما كان بين المسلمين من اختلاف وانقسام وافتراق إلى فرق متباينة في الرأي، من خوارج وشيعة وجماعة، ثم على ما كان من الاختلاف بعد ذلك بين المسلمين في أصول الدين وفروعه وانقسام المتكلمين في الأصول إلى الكثرة المعروفة، وانقسام الفقهاء وأصحاب الفروع كذلك إلى شيع تتباعد حينا وتتقارب حينا، وعلى ما نزل بالمسلمين من الأحداث وما تتابع عليهم من الخطوب، وما كان من تنقل الحكم فيهم بين الأحزاب أولا وبين الأمم والأوطان ثانيا.
على هذا كله ظل القرآن كما هو، لم يختلف المسلمون في نصه، فهو باق على الدهر لا يضره أن يختلف المسلمون في فهم نصوصه وفي تأويلها، ولا كذلك السنة لأن النبي لم يأمر بكتابتها، بل يروى أنه كان يكره ذلك؛ فالاعتماد في روايتها على الذاكرة، وعلى ذاكرة الصالحين من المؤمنين. وكان أصحاب النبي يتشدد أكثرهم في رواية الحديث عن النبي، بل كانوا لا يقبلون حديثا عن النبي إلا أن يشهد اثنان من عدول المسلمين أنهما سمعاه من النبي أو رأياه يعمله. وكان عمر رحمه الله أشد الخلفاء في ذلك، فكان ينذر من يتحدث عن النبي بالعقاب إلا أن يأتي بعدل من المسلمين، يشهد معه بأنه سمع من النبي أو رأى منه مثل ما يروي المتحدث؛ هنالك كان عمر يقبل الحديث ويعمل به.
ولكن الأمور لم تمض على ذلك دهرا طويلا، فلم تكد الفتنة تظل المسلمين حتى اشتد الخلاف بينهم، وجعل بعضهم يكفر بعضا وجعلت الأحزاب على مر الزمن تكثر الحديث عن النبي؛ يريد كل حزب أن يثبت أنه أشد استمساكا بسنة النبي من غيره، ونشأ القصاص الذين كانوا يجلسون لوعظ الناس مرغبين ومرهبين، فأكثروا من الحديث وأضاف كثير منهم إلى النبي ما لم يقل، يرغبون في فضائل الأعمال وينفرون من سيئاتها ولا يجدون حرجا في أن يضيفوا إلى النبي ما لم يقل ما داموا لا يريدون إلا النصح للمسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنبي أول ناصح للمسلمين، وأول آمر بالمعروف وناه عن المنكر، فكل أمر بالخير أو نهي عن الشر يمكن عند كثير من القصاص أن يحمل على النبي. ثم نشأ الأشرار من المتكلفين وذوي النيات السيئة فأسرفوا في رواية الحديث وأكثروا من الكذب وعرف ذلك خيار المسلمين فأخلصوا أنفسهم لتصحيح الحديث، وتنقيته من كل مكذوب أو مشكوك في كذبه. وذهبوا في ذلك مذاهبهم المعروفة، فجعلوا يتتبعون رواة الحديث ينقدون حياتهم ويتحرون أمرهم، فمن وجدوا فيه مطعنا بالكذب، أو الانحراف عن العدالة في السيرة، أو ضعف الذاكرة أو قلة التثبت مما يروي، أو الأخذ عمن لا يصح الأخذ عنه، أعرضوا عنه ونبذوا حديثه، ونبهوا على ما فيه من علة، حتى نشأ عند المحدثين علم خاص بتصحيح الحديث.
وعلى رغم هذا كله ظل من الواجب على كل مسلم - حين يروى له الحديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم - أن يحتاط قبل الأخذ به، وأن يعرضه على القرآن، فإن كان لا يناقض القرآن في قليل ولا كثير، ولا يناقض المألوف من سيرة النبي وعمله، أخذ به وإلا وقف فيه.
وكذلك يفعل الصالحون من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فقد قيل لعائشة - رحمها الله - إن بعض أصحاب النبي يروي عنه أنه قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. فأنكرت هذا الحديث وقالت: اقرءوا قول الله عز وجل:
ولا تزر وازرة وزر أخرى . وقيل لها: إن بعض أصحاب النبي يزعمون أن النبي رأى ربه، فأنكرت هذا أشد الإنكار وقالت لمحدثها: اقرأ قول الله عز وجل:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .
Bog aan la aqoon