فقال ابن يسار: لقد طال حكمه حقا، وهو قاس صارم يريد أن يعيد الأموية إلى ما كانت عليه أيام معاوية، ومروان، وعبد الله. شحيح بالمال، جماع له، كأنه يريد أن يصون كل دينار ودرهم لحماية الخلافة، والذود عنها إذا خرج عليها خارج، فلم يعط أحدا من بني مروان عطاء إلا إذا خرج للغزو بنفسه، أو أخرج من ينوب عنه، ورد عليه يوما محمد بن زيد للعطاء فقال له: «مالك عندي شيء، وإياك أن يغرك أحد فيقول لك: إن أمير المؤمنين لم يعرفك، فوالله لقد عرفتك، أنت محمد بن زيد بن عبد الله ابن عمر بن الخطاب، فلا تقيمن وتنفق ما معك، فليس لك عندي صلة»، فعاد الرجل إلى المدينة يخفي حنين، وبعث إليه أحد عماله بسلة خوخ فكتب إليه: قد أعجب الخوخ أمير المؤمنين، فزدنا منه، واستوثق من الوعاء حتى لا يسرق في الطريق. وأخبرني غلامه فيروز أن بعض المشرفين على ضياعه بعث إليه خادما بطائرين ظريفين، فدخل عليه وهو جالس في سرير في عرصة الدار، فقال للخادم: أرسل الطائرين لأنظر إليهما، فأرسلهما، ولما أراد الخادم الانصراف طلب جائزته، فقال له هشام: ويلك وما جائزة طائرين؟ قال: أي شيء تجود به. قال: خذ أحدهما. فعدا في الدار خلفهما، فقال له هشام: ماذا تصنع؟ قال: أختار خيرهما. قال: أتختار خيرهما وتدع لي شرهما؟ لا، والله لا نلت منهما ريشة، لعن الله ناقة حملتك إلينا! وهذا هو الرجل الذي تخضع الدنيا لأمره، وتجبى إليه ثمراتها، ولقد كان مرة في أحد بساتينه، والزراع يجمعون الزيتون، فرآهم يهزون الأشجار ليتناثر زيتونها، فصاح: القطوه لقطا، ولا تنفضوه نفضا فتفقأ عيونه، وتنكسر غصونه. هذا هو هشام: بخل فكرهه الناس، وقسا فحقد عليه الناس، وطال عهده فضجر منه الناس.
فقال ابن كثير: إنه الصخرة الصماء التي تتحطم حولها آمالنا، والتي يجب أن تزول من الطريق، فقال ابن يسار: إنه مصاب بذبحة الصدر، ولولا دواء مزجه له طبيبه «فرات بن شحناثا» لقضي عليه منذ سنوات، واستراحت الدنيا منه ، ومن صلفه وشحه؛ فزفر عيسى ابن معقل طويلا، ثم قال: ألا يستطيع فتى أحوذي أن يروي خنجره بدمه؟
فأجاب ابن كثير: إن الأمر لا يحتاج إلى كل هذا، فقد يكفي أن نوعز إلى خادمه فيروز أن يريق ما في زجاجة الدواء، ويضع مكانه ماء بلونه، فإذا أدركته النوبة وأسعف بالدواء لم يغنه الماء شيئا، فصاح جميعهم: هذا رأي صائب؛ مر فيروز أن يفعل هذا يا ابن يسار، وهنا عاد ابن كثير إلى الحديث فقال: لنوجز الآن ما استقر عليه رأينا ليعمل كل منا على إنفاذه، وليبلغه ابن يسار إلى الإمام محمد بن علي، فقد رأينا أولا أن نبث بين الناس بغض بني أمية، والسخط على حكمهم، وأن نبتدع الأقاصيص والأخبار التي تشوه سيرتهم، وتثير الضغينة عليهم، ثم أن نغري الوليد بالاستمرار فيما هو آخذ فيه بكل ما مكنتنا من وسائل، وأن نذلل له السبيل إلى الخلافة؛ فإنه لن يمكث بها أياما حتى تدول، ثم أن نقلل من مدة هشام، وأن نقطع الخيط الذي يصله بالحياة، وعلينا أن نفكر في كل لحظة في اليوم الذي تنجلي فيه هذه الغمة حتى كأنه الغد، وأن نسخر من العقبات التي يضعها أجراء بني أمية في طريقنا، هلم الآن فقد طال بنا الجلوس.
ويخرج الزوار فيمرون بالحارس لدى الباب، فيتجه إلى ابن كثير وهو يقول في سخرية ودهاء: الآن لا تسقط دنانيرك أيها الشيخ! - كان بثوبي فتق فأصلحته. - أخشى أنك تعمل أنت ومن معك لفتق لا يرتق. - قد يكون الهدم إصلاحا في كثير من الأحيان. - إلا أن تهدم دارا على ساكنيها، احذر يا شيخ فإني أجد في أعطافك ريح الثورة، والثورة نار مجنونة، تأكل أول ما تأكل مشعليها، اذهبوا فإني لا أرى في وجوهكم خيرا.
فسار الثوار حتى بلغوا دار بكير بن ماهان، وأقام معهم إسماعيل بن يسار أياما، ثم عاد إلى دمشق لينهض العزائم، ويثير الهمم.
موت وحياة
مرت شهور والوليد بن يزيد لا يزال يزور قصر سلمى في كل أسبوع لبيع الثياب، حتى بليت الثياب، ومل الحمار، ومرت شهور وهشام مازال يتحرق غيظا على الوليد، وعلى أنصاره الذين تحدوه، واختطفوا ابنه مسلمة، وجعلوا رده ثمنا لفك من اعتقلهم من أصحاب الوليد، ومرت شهور ويزيد بن عنبسة لا يزال يلح على سعيد بن خالد في أن يزوجه سلمى، وهو يرجئه ويراوغه، ويرده خائبا محسورا، وفي ذات يوم أعلمته «صدوف» إحدى جواري الوليد - وكانت جاسوسة له عليه - أن الوليد يزور سلمى في كل أسبوع في هيئة بائع ثياب، فيتبادلان الحب والصبابة، فزاد حقده على الوليد، واخذ يدبر له الغوائل.
وساقته قدماه يوما إلى دار الخلافة، فلما بلغ قاعة الحكم رأى «يعقوب» حاجب هشام لدى الباب فسأله عن الخليفة، فقال: إنه بالقاعة مع كثير من رجال بني أمية، وهم يتحدثون في أمر ذي بال، وقد حجب الباب، وأرسل رسولا إلى دارك. - نبئه بقدومي يا يعقوب، فإني أود أن أحدثه أيضا بأمر ذي بال، ودخل يعقوب وعاد سريعا بالإذن، فلما مثل ابن عنبسة أمام هشام رآه مطرقا، وقد اربد وجهه، وانتفض عرق لصدغه الأيسر كان ينتفض كلما غضب، ورأى عنده يزيد بن الوليد والزهري، ومحمد بن هشام المخزومي، وأخاه إبراهيم، وبني القعقاع العبسي، ثم العباس بن الوليد، ويزيد بن خالد.
سلم ابن عنبسة فرفع هشام رأسه متثاقلا وقال: وعليك السلام يا ابن عنبسة! هلم إلينا فإننا بصدد أمر خطير سيكون له ما بعده، ونرجو أن نخرج بعد أن نكون قد نصحنا لله ورسوله، ولصالح المؤمنين، هذا ابن أخي الوليد قد شرد على الله شراد البعير، وجالس قرناء السوء، وركب رأسه جامحا، ثم هو لا يزيده النصح إلا إسرافا في العناد، ولقد عاهدت أخي يزيد بن عبد الملك، وحلفت له أوثق الأيمان أن تكون الخلافة له من بعدي، ولم أكن حين أقسمت أعلم أني أقسمت على أن أترك زمام الخلافة وهي معقد آمال المسلمين، ومعقل أمنهم في يدي مثله، ولكني أقسمت حين أقسمت وأنا أرى غلاما أزهر الوجه، نبيل السمات، توحي مخايله بصدق الأمل فيه، وتنطق ملامحه بالثقة به، ورب سم كامن في الزهر النضير! وموت راكد في الماء النمير! وأنا الآن يا بني مروان بين خلتين: إما أن أترك الأمة بعد موتي تنساق إلى الدمار بولاية الوليد، وهنا النازلة الفادحة، والقاصمة القارعة، وتمزيق أوصال الدولة، وفناء بني أمية بالموت أو بالذل والهوان، وإما أن أحمي ما ورائي، وأتخذ الأهبة للقاء ربي، وأصون تراث آبائي، فأخلع الوليد من ولاية العهد، وأختار للمسلمين رجلا يحمي ذمارهم، وللخلافة من يبعث فيها العظمة والقوة والشباب.
فقال يزيد بن الوليد: لا يصلح لها إلا ابنك مسلمة. - دعك من هذا الآن يا ابن العم، فلن يحسن في هذا الأمر إلا أن ننسى أنفسنا وأبناءنا، والذي نفس هشام بيده لو علمت أن صلاح هذا الأمر في اعتزالي لاعتزلت، ولو علمت أن غير مسلمة أقوى بالخلافة كاهلا، وأضبط يدا لقدمته عليه، فأسرع إبراهيم المخزومي قائلا: لن تصلح الخلافة إلا بك يا أمير المؤمنين، وإذا كان لنا في الله رجاء فهو أن تبقى فيك، ثم في ابنك مسلمة من بعدك، فإنه بضعة منك، فيه ما فيك من دين وسياسة وحزم؛ فصاح أبناء القعقاع: لن نرضى بمسلمة بديلا، أما الأيمان التي عقدتها لأخيك لتولية ابنه من بعدك فإن الله يحلك منها.
Bog aan la aqoon