وكان لا يحب أن يزاحمه أحد في فنونه وألاعيبه، فقد زعموا أن رجلا بالمدينة حاول أن يسلك مسلكه، وأخذ يحاكيه في مذهبه ونوادره، حتى استطابه الناس، وأعجبوا به، وعلم أشعب بخبره فرقبه حتى عرف أنه يختلف إلى مجلس لبعض فتيان قريش يحادثهم ويضحكهم، فسار إليه، ثم قال له: بلغني أنك قد نحوت نحوي، وشغلت عني من كان يألفني، فإن كنت مثلي فافعل كما أفعل، ثم غضن من وجهه، وعرضه، وشنجه حتى صار عرضه أكثر من طوله، وصار في هيئة لم يعرفه بها أحد، ثم أرسل وجهه وقال: ثم أفعل هكذا، وطول وجهه حتى كاد ذقنه يتجاوز صدره، وصار كأنه وجه الناظر في سيف لامع، ثم نزع ثيابه وتحادب فصار في ظهره حدبة كسنام البعير، وأصبح طوله مقدار شبر أو أكثر، ثم قام فتمدد حتى صار أطول ما يكون من الرجال؛ فضحك القوم حتى أغمي عليهم، وبهت الرجل فما تكلم بنادرة، ولا زاد على أن يقول: يا أبا العلاء، على الله عهد ألا أعاود ما تكره، وإنما أنا تلميذك وخريجك.
وكان أشعب في ذلك الحين قد جاوز التسعين، ولكنه بقي مستكملا قوته، حافظا لفنه ودعابته، وكان دقيق الجسم ناحله، أزرق العينين أحولهما، أصلع الرأس حتى كأن رأسه كرة من الشمع اللامع، وحينما ورد على الوليد حظي عنده فأمر خدمه أن يلبسوه سروالا من جلد قرد له ذنب طويل، وأن يشدوا في رجليه أجراسا، وفي عنقه جلاجل.
دخل الوليد على ندمائه باشا مبتهجا كأن وفد هشام لم يثر في نفسه هما، ولم يكدر له صفوا، فشرع ابن سهيل يقول: لقد أحسنت إجابتهم يا مولاي، وكشفت خديعتهم، ولكني أخشى ألا يقف هشام عند هذه الغاية، وأخشى أن يكون ما فعله اليوم إنما هو تحفيز لهجوم، وطليعة لمكيدة جديدة.
فقال عياض: إن هشاما لا يستطيع أن يمس الوليد، ولكنه سيصب غضبه علي وعليك يا أبا وهب، فقد بلغني من مولاه يعقوب - وهو جاسوس لي عليه - أن حديثا جرى منذ يومين بشأن الوليد وندمائه، وأن جواسيسه نقلوا إليه بعض شعرك الذي تمدح به الأمير، وتذكر ما يرجى منه إذا ولي الخلافة، وترمي فيه هشاما بأقبح الصفات ؛ فغضب حتى كاد يعود حوله عمى، ثم صاح: والله لأقصن جناحيه، ولأفرقن عنه قرناء السوء الذين يمالئونه علي! والرجل بطاش منتقم، يقتنص العصفور من بين براثن النسور، ولا يترك أعداءه للمقادير، وهنا قال عبد الصمد ابن عبد الأعلى: وكل حقده علي أني لم أخضع لأمره، ولم أقنع الوليد بالتخلي عن ولاية العهد، فأسرع عياض وقال: إن لي ولك عنده ذنوبا لا يحصيها العد، ولكنا لن نبالي به، ولن نأبه لوعيده، وسنكون ألصق بالوليد من جلده، وأقرب إليه من عقوده، ولو لقينا في سبيل ذلك الموت، ولله غيب هو مظهره، ولعلها غمرات ثم ينجلين، وظلمة يتبعها سفور الصباح، إن الرجل مضطرب مصاب بمرض يسمى ولاية العهد، ووجوب انتقالها إلى ابنه مسلمة.
فصرخ الوليد: دون هذا وتسيل الدماء، إن ولاية العهد قد كتبت في سجل القدر، ولن يستطيع هشام أن يمحو مداها، ولو استعان بأمواج البحار، ثم قام في اختلاج واضطراب إلى ندمائه، فأخذ يقبلهم واحدا واحدا، والدموع تنهمر من عينيه، وهو يقول: أنا أعلم أن المكروه سيصيبكم من أجلي، ويل لي! وويل لكم مني، أليس مما يمزق القلب أسفا أني لا أقدر أن أدفع عن أصدقائي وخلصائي؟ إنني إزاء بطش هذا الرجل أضعف من ذات خمار، ولقد عرف كيف ينتقم مني فيكم، وعرف كيف يحرمني بفقدكم طيب الحياة، إنني أعلم أن كلمة واحدة من فمي تنقذكم جميعا، ذلك بأن أذهب إلى هشام وأقول له: إني تخليت راضيا عن ولاية العهد، ولكني لن أفعل شيئا من هذا؛ لأني أعلم أني أحب إليكم من أنفسكم، وأنكم تفدونني بأرواحكم، وأن أكبر آمالكم أن أصبح خليفة، وأن أشفي نفسي بدماء أعدائي، ثم ضحك طويلا حتى كادت تسقط عمامته، وقال: موتوا مطمئنين أيها الأوفياء، ثم التفت إلى ابن سهيل وقال: ما أجملك مصلوبا يا أبا وهب، وقد امتدت ذراعاك في الهواء كأنك لا تزال تذكر عناق الحسان، لا تجزع يا حبيبي، ومت آمنا فسأقتل بك عشرين فتى من فتيان بني أمية، أما أنت يا ابن مسلم فمما تطيب له نفسك أن تعلم أن سيفا منذ طبعت السيوف لم يقطع عنقا أشرف ولا أكرم من عنقك، فلا تبتئس أيها الصديق، وسر إلى الموت كريما، فسأقتل بك خمسين فتى من فتيان بني أمية، وهنا صاح أشعب بصوت يشبه نقيق الضفادع قائلا: أما أنا أيها الأمير فسوف أموت فرحا مسرورا؛ لأنك ستقتل بي مائة عجل من عجول بني أمية! فأغرق القوم في الضحك، وقام الوليد يعدو وراءه، ففر منه وهو يقفز أحيانا، ويمشي على رأسه أحيانا، ولجلاجله صليل ورنين، ثم صاح به الوليد: ماذا كان جواب الرسالة التي بعثتك بها يا قرد السوء؟ ولم لم تخبرني بما تم فيها بالأمس؟ - انتظرتك حتى تفرغ من مجالسك يا أبا العباس، وكنت أظن أن ذلك لن يكون إلا في العام المقبل. - سأكون في العام المقبل خليفة؛ فلا أحتاج إلى الاستشفاع بك. - ولكنك ستكون بطبائعك الوليد بن يزيد الذي نعرفه جميعا، فلا تستغني عن شفاعتي؛ فضحك القوم، وقال ابن سهيل: ما تلك الرسالة أيها الأمير؟
فتأوه الوليد وغشيت وجهه سحابة من الحزن، وقال: رسالة إلى سعدة. - ألا تزال تذكرها؟ - دعني بالله يا ابن سهيل، ولا تثر لواعج نفسي، فإنني كلما ذكرت عهدها طار بي الشوق إليها، وهزني نحوها الحنين، إنني رجل منكود الحظ، شقي الطالع، لا أكاد أصل في سلم السعادة إلى درجة أشرف منها على الحياة حتى يسقط بي السلم في هوة لا ينادى وليدها، ولا يرجى فقيدها، لقد كان حبنا سماويا لم ينعم بمثله زوجان فوق الأرض الفانية، ولقد مرت بنا سنوات كأنها بسمات الروض لأشعة الصباح، عشنا فيها تظلنا دوحة الحب سعيدين هانئين. - إلى أن رأيت أختها سلمى. - إلى أن رأيت أختها سلمى يا ابن سهيل، ويلاه؛ ليت هذا اليوم لم يكن؛ ذلك كان يوم أن ذهبت لأعود أباها سعيد بن خالد، وإنه ليوم بالغ الأثر، شديد الخطر، تبدلت فيه حياتي، واضطربت من بعده أيامي، لمحت فيه سلمى، وقد برزت بوجه لم تشرق الشمس على أجمل منه، وقامت حولها جواريها ليسترنها عني ففرعتهن طولا، فاهتز لها قلبي، وخفقت جوانحي، ورحت بها صبا متبولا، لا يستقر لي قرار، ولا ينطفئ أوار. - لذلك طلقت سعدة لتفوز بأختها. - نعم طلقتها في لحظة جنون، وكنت أظن أن الوصول إلى سلمى بعد ذلك من أهون الأمور، وأنه ليس علي إلا أن أخطبها من أبيها، فيجيب شاكرا مسرورا. - ولكن هشام وقف بينك وبينه، وحال بين الثمرة اليانعة وجانيها. - نعم يا أبا وهب فرجعت صفر اليدين، أندب محبوبتين، وأعاني آلام غرامين، فلا على سعدة حصلت، ولا بسلمى ظفرت. - والآن تريد أن تعود إلى مودة سعدة بعد أن هجرتها وهجرتك، وبعد أن أصبحت ذات بعل؟ - إن غرامي بها يكاد يصل إلى حد الجنون، وإن لي أملا في أن ينفصم عقدة زواجها، فأعود إليها كما كنت زوجا وافر الحظ سعيدا. - عجيب كل أمرك أيها الأمير، وأعجب ما فيه أنك بعد أن عاودك الهيام بسعدة لا تزال تحب سلمى. - لا أزال أحبها؟ إنني أحبها كما يقول ابن أبي ربيعة: «عدد الرمل والحصى والتراب»، إن لي في الحب يا ابن سهيل مذهبا لا تعرفه.
ثم اتجه إلى أشعب وصاح: ماذا كان جواب الرسالة أيها القرد الأحمق؟ فتقدم منه أشعب وهو يتصنع الخوف، وقال: ذهبت إليها بالأمس يا سيدي فلما أذن لي عليها، رأيت صورة رائعة الحسن ما وقعت على مثلها عيناي، فملكتني الدهشة، وتعثر بي لساني، فلما اطمأنت نفسي، واستقر بي مجلسي، وقفت أقول وأنا أرتعد رعبا: يا سيدتي، هذه رسالة مولاي إليك، وهو يقول لك فيها:
أسعدة هل إليك لنا سبيل؟
وهل حتى القيامة من تلاقي؟
بلى، ولعل دهرا أن يواتي
Bog aan la aqoon