المقالات المسفرة عن دلائل المغفرة
تأليف
نور الدين علي بن الشيخ جمال الدين عبد الله الحسيني السمهودي الشافعي ﵀
تحقيق
بن يطو عبد الرحمن
Bog aan la aqoon
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال الشيخ الإمام العالم العلامة والبحر الفهامة نور الدين علي بن الشيخ الإمام العلامة القاضي جمال الدين عبد الله الحسيني السمهودي، نفع الله به وبعلومه آمين:
أما بعد:
حمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، فهذه ثلاثة فصول هي للمغفرة، إن شاء الله، قواعد وأصول.
الفصل الأول: في تحقيق معنى قوله ﷺ: الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنب الكبائر، ونحوه من الأحاديث، مع ما تقرر من أن اجتناب الكبائر فقط، ليس بسبب لتكفير الصغائر، وتحقيق الرد على من خالف ذلك.
الفصل الثاني: في الكلام على ما ورد من إطلاق غفر جميع الذنوب من غير تقييد بالتوبة عند فعل بعض الطاعات على ما ذكره القرافي. من الفروق بين مكفرات الذنوب وأسباب المثوبات. وبيان أنّ من الأعمال ما يكفر الذنوب السابقات واللاحقات.
الفصل الثالث: في سرد الخصال المكفرة للسيئات المتقدمة والمتأخرة، ولقد لخصت في هذا الفصل الكتاب الجليل المسمى: بمعرفة الخصال المكفرة للذنوب المتقدمة. والمتأخرة لشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر، وقد أزيد بعض القواعد في الأثناء، فأقول في أولها، وفي آخرها: والله أعلم، وسميت ذلك: بالمقالات المسفرة عن دلائل المغفرة والله أسأل أن يغفر لنا به جميع الذنوب وينيلنا به المطلوب.
الفصل الأول
أعلم وفقني الله وإياك أن الإمامين البخاري ومسلم رويا حديث: الصلوات الخمس كفارة لما بينها، وزاد مسلم: ما اجتنبت الكبائر، فاستشكلت ذلك، لأنَّ اجتناب الكبائر وحده مكفر للصغائر، لقوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، ثم رأيت الإشكال المذكور في مختصر صحيح
1 / 175
البخاري للحافظ ابن حجر، فإنه قال في الكلام على رواية البخاري: قال القرطبي: صاحب المفهم: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب، وهو مشكل، زاد مسلم من رواية العلاء: ما اجتنبت الكبائر، فعلى هذا المقيد يحمل على ما أطلق في غيره، وقال ابن بزيزة في شرح الأحكام: يتوجه على حديث العلاء إشكال، وهو أن الصغائر، بنص القرآن، مكفرة باجتناب الكبائر، فما الذي تكفره الصلوات الخمس، نقل الحافظ ابن حجر عن شيخه البلقيني أنه قال: السؤال غير وارد؛ لأن مراد الله إن تجتنبوا الكبائر في جميع العمر، ومعناه الموافاة على هذه الحالة من وقت الإيمان أو التكليف إلى الموت، والذي في حديث العلاء أن الصلوات الخمس تكفر ما بينهما، أي في يومها إذا اجتنبت الكبائر في ذلك اليوم، فلا عارض بينهما. ولك أن تقول التعليق على الكبائر جميع العمر إلا الإتيان بالصلوات الخمس في كل يوم، فالتكفير حاصل بما تضمنه الحديث، فما الفائدة بالاجتناب المذكور في الآية مع أن هذه الزيادة ألحقت بالأصل، فاجتناب الكبائر مطلق في الآية والحديث، فمن له هذا التفريق، وكأنه أخذه من لفظة ما المذكورة في الحديث، وجعلها مصدرية ظرفية، أي مدة اجتناب الكبائر، ولكن ورد ذلك كما اقتضته الروايات المختلفة بلفظ: إذا بدل ما وهي تبين أن المراد اشترط ذلك، كما اقتضته الآية، ولا تسلم أن المراد، فمن الآية ما ذكره، بل المراد أن ثواب اجتناب الكبائر في وقت يكفر الصغائر فيه، فقال: قال
1 / 176
البيضاوي في تفسيره: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه: كبائر الذنوب التي نهاكم الله عنها، قرئ على إرادة الجنس، نكفر
عنكم سيئاتكم: نغفر صغائركم ونمحها عنكم.
واختلف في الكبائر: والأقرب أن الكبيرة كل ذنب رتب الشارع عليه حدًا، وصرح بالوعيد فيه، وقيل ما حرمته بقاطع، وقيل صغر الذنوب وكبرها، إضافة إلى ما فوقها وما تحتها، فأكبر الكبائر الشرك، وأصغر الصغائر حديث النفس، وبينهما وسائط، يصدق عليها الأمران، فمن عن له الأمران، ودعت النفس إليهما، بحيث لا تمالك، فغلبها عن أكبرهما كفر عنه ما ارتكب لما استحق من اجتناب الكبائر. وجعله حديث النفس من الصغائر مراده حيث حصلت المؤاخذة به، وذلك حيث يقارنه فعل ما حدث به نفسه لحديث الشيخين: إن الله ﷿ تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به، وحديث مسلم: من هم بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، وفي رواية: كتبها الله عنده حسنة فما تركها من جراي أي من أجلي، فقضية ذلك أنه إذا تكلم بما همَّ به كالغيبة أو شرب المسكر أنضم إلى المؤاخذ بذلك المؤاخذة بالهم وهو المراد بحديث النفس، أما التصميم على فعل المعصية وهو العزم، فالعمل مؤاخذ به، وإن لم يفعل على الصحيح كما ذكره النووي، وأصرح مما ذكره البيضاوي في الدلالة على المقصود قول الإمام الغزالي في الكلام على التوبة إنَّ حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها، وإن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر، بموجب قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ﴾، ولكن اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة، إذا
1 / 177
اجتنبها مع القدرة والإرادة كما يتمكن من امرأة ومواقعتها، فكفّ نفسه عن الوقاع، ويقتصر على النظر والمس؛ فإنَّ مجاهدته نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرًا في تنوير قلبه [من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره. فإن كان عِنّينًا] (*)، ولم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرًا، ولكن امتنع لخوف أمر آخر، فهذا لا يصلح للتكفير أصلًا، وكل من لا يشتهي الخمر بطبعه لو قدم له لما شربه، فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار، وهذا ظاهر يدل
عليه قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾، ولا شك أن اجتناب الكبائر إذا اقترن به القصد حسنة، وإنما قيد بذلك، وإن كان الخروج عن عهدة النهي لا يتوقف عليه، أنه لا يثاب على الاجتناب بدون ذلك، فالأولى في الجواب على الإشكال المتقدم أن يُقال: قوله في الحديث: ما اجتنبت الكبائر ليس قيدًا لأصل التكفير، بل لشمول التكفير سائر الذنوب، وكأنه قال: الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب التي بينها، وتكفيرها للجميع كائن في المدة التي اجتنبت فيها الكبائر، ومقيدًا باجتناب الكبائر، وإلا فليست الصلوات الخمس كفارة لجميع الذنوب بل للصغائر فقط، وهذا وإن كان خلاف الظاهر من عود القيد لأصل التكفير، لكن قرينة الآية اقتضت العدول عنه إلى ذلك جمعًا بين الأدلة.
فإن قيل: فإذا اجتنبت الصغائر باجتناب الكبائر، فما الذي تكفره الصلوات الخمس؟
قلنا هذا حينئذ من قبيل من فعل أمورًا، كل واحد منها مكفر، فإن المكفرات لا تنحصر فيما ذكر [وحكمها أنّها إن ترتبت فالمكفّر السّابق، وإن وقعت معًا فالمكفّر واحد منها يشاؤه الله تعالى وأمّا البقيّة فثوابها باق له وذلك الثواب على كل منها يكون بحيث يعدل تكفير الصّغائر لو وجدت على ما تقدّم، كما لو فعل واحدًا من الأمور المكفّرة ولم يكن قد ارتكب ذنبًا. وسيأتي مزيد كلام يتعلق بهذا في الفصل الثّاني في الكلام على صوم عرفة.
هذا ما ظهر في الجواب عن الإشكال المتقدّم بعد التأمّل. ثم رأيت في كلام البغوي ما يقتضي أنّ الحديث بيان للمراد من الآية فإنه قال: " ﴿إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أي من الصّلاة إلى الصّلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان". ثمّ ساق الحديث المتقدّم من رواية مسلم من طريق أبي هريرة بلفظ: "الصّلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر" فعلى ما اقتضاه كلامه لا يحصل التّكفير إلاّ بفعل كلّ من هذه الأمور واجتناب الكبائر، وكأنّه اكتفى في الآية بذكر اجتناب الكبائر عن فعل هذه الأمور لأنّ التّارك لها لم يجتنب الكبائر لأن ترك هذه الأمور من جملة الكبائر.
ثم رأيت ما ظهر في الجواب عن الإشكال المتقدّم وما اقتضاه كلام البغوي مصرّحًا به،] (*)، قال الزركشي، في قواعده: قال المحب الطبري، في أحكامه: اختلفت العلماء في أمر تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر؟ على قولين: أحدهما: نعم، وهو ظاهر قوله ﷺ: ما اجتنبت الكبائر ظاهره الشرطية، فإذا اجتنبت الكبائر كانت فكفرات لها، وإلا فلا. قال: وقد ذكره ابن عطية، في تفسيره: أن هذا قول الجمهور. وقال بعضهم: لا يشترط، والشرط في الحديث الاستثناء، والتقدير مكفرات لما بينهن إلا الكبائر.
_________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع، واستدركته من طبعة ابن حزم بتحقيق محمد شايب شريف
1 / 178
قال الطبري: هذا ظاهر بالإطلاق، وحديث خروج الخطايا من أعضاء الوضوء مع قطر الماء. ثم قال الزركشي: واختلفوا في أن التكفير هل يشترط في التوبة؟. قال: ولعلّ الخلاف مبني على التأويلين، فمن جعل اجتناب الكبائر شرطًا في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة، ومن جعل هذه الخصوصية لمجتنب الكبائر، ومن لم يشترط التوبة وعدم الإصرار، ويدل عليه الذي قبل امرأة ثم ندم. فأخبره
النبي ﷺ أن صلاة العصر كفّرت عنه، وكان الندم قد تقدم منه، والندم توبة، لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة، فإنَّ التوبة بمجردها تجب ما قبلها، ولو اشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة، وقد ثبت أنها مكفرات، فسقط اعتبار التوبة معها.
والحاصل أن قوله: ما اجتنبت الكبائر هو قيد في التكفير، حتى ولو كان مصرًا على الكبائر لم يغفر له شيء من الصغائر، أو هو قيد في تعميم المغفرة، فعلى هذا تغفر الصغائر، وإن ارتكبت الكبائر. والأقرب الثاني، وإلا لم يكن بذلك تأثير في التفكير؛ لأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، بدليل قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ. . . .﴾، وهذا ما ذكره الزركشي.
فمن اجتنب الكبائر لا يقع تعذيبه على الصغائر باتفاق القولين إلا على رأي من شرط التوبة أيضًا. وفي كلام العلامة نجم الدين النسفي، وصدر الشريعة، وغيرهما من علماء الحنفية ما حاصلة: أن العقاب على الصغائر جائز الوقوع، سواء اجتنب مرتكبها الكبيرة أم لا، لدخولها تحت قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. . .﴾، ولقوله تعالى: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. . .﴾، والإحصاء إنما يكون للسؤال أو المجازاة إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. قالوا: وخالف في ذلك المعتزلة
1 / 179
فلم يجيزوا وقوع التعذيب إذا اجتنبت الكبائر للأدلة عن السمعية قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾، ثم أجابوا عن ذلك بأن الكبيرة مطلقة حتى الكفر: لأنه الكامل، وجمع الاسم بالنظر إلى أنواع الكفر، وإن كان الكل ملّة واحدة في الحكم، وإلى أفراده القائمة بأفراد المخاطبين على ما تمهد من القواعد أن مقابلة الجمع بالجمع انقسام الآحاد كقولنا: ركب القوم دوابهم. قالوا: ويدل على أن المراد بالكبائر الكفر.
قراءة: كبائر ما تنهون عنه، ثم أوردوا على أنفسهم أن مقتضى الآية السابقة أن
من اجتنب الكفر كفرت ذنوبه كلها، لوجوب تحقق الجزاء عند تحقق الشرط، وهذا أبلغ مما قاله الخصم؛ لأنه يخصه بالصغائر لإبقائه لفظ الكفر على ظاهره من العموم. ثم أجابوا بأن المراد إن تجتنبوا الكفر يجعلكم محلًا لتكفير سيئاتكم صالحًا؛ لأنه علق في الآية السابقة مغفرة ما دون الشرط على المشيئة، فلو قلنا: إن ذنوب من اجتنب الشرك تكفر من غير تعليق بمشيئة الله تعالى لزم التناقض فوجب التأويل. ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ﴾ للكفار. وإن كان ما قبله في المؤمنين، والمراد: ﴿سَيِّئَاتِكُمْ﴾، التي اكتسبها في خلال الكفر تكفر بالإسلام. انتهى كلامهم، وهو موافق لمن اشترط في التكفير التوبة مطلقًا، ولكنه ضعيف على ما تقدم. والجواب كما ذكروه أنه كمال التوبة تجب ما قبلها مع أن ما قبله داخل تحت قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. . . .﴾، وقوله أيضًا: ﴿لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. . . .﴾، ولم يلزم منه تناقض لقيام الدليل عليه بمقتضى وعده تعالى بذلك، فكذلك الصغائر تكفر باجتناب الكبائر، وإن كانت داخله، فما ذكر لقيام الدليل عليه بمقتضى وعده أيضًا، ويكون المراد من قوله تعالى: ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ﴾ الذنوب المستمرة التي لم تسقطها التوبة، ولم يكفرها فعل شيء من المكفرات في الدنيا جمعًا بين الأدلّة. أو تقول من اجتنب الكبائر فهو ممن شاء الله أن يغفر له بعض ذنوبه التي هي مما دون الشرك بمقتضى الوعد الكريم؛ لأنها إذا كفرت فقد غفرت، ولا يضر كون هذه المشيئة قد شرط لوجودها أمر آخر مقدور لله تعالى، وهو الاجتناب، لأنه لا يكون إلا بخلفه تعالى والله أعلم.
وأما حمل الكبائر على الكفر، فهو خلاف الظاهر، والذي يحمل على الكامل إنما هو المطلق، وأما العام فيشمل جميع أفراده على أنه إذا كان الحمل على الكامل يقتضي تعارض الأدلة المؤدي إلى إخراج لفظ أحدهما عن ظاهره، فيتعيّن عدم
المصير إليه. وأيضًا فالقاعدة في كلام الله تعالى ورسوله ﷺ على ما صرح به الفخر الرازي أنه متى تردد بين حملة على ما هو أقل فائدة، وما هو أكثر فائدة، فحمله على ما هو أكثر فائدة أولى وأما جعل الخطاب في الآية للمشركين مع كونه خلاف الظاهر مردود بالأحاديث الواردة في ذاك والله أعلم.
وقد اقتضى ما قدمناه عنهم أن المخالف لهم في ذلك إنما هم المعتزلة وبه صرح صاحب الانتصاف من الكشاف، فقال في الرد على الزمخشري: إن القول بأن اجتناب الكبائر يوجب تمحيص الذنوب
1 / 180
وتكفيرها عن المؤمنين مردود عند أهل السنة، فإن الصغائر عندهم حكمها في التفكير حكم الكبائر، يكون بأحد الأمرين: إما التوبة النصوح المقبولة، وإما بالمشيئة لا غير. وأما اجتناب الكبيرة عندهم فلا يوجب تكفير الصغيرة. ولعل مراده بنفي الوجوب عند أهل السنة: عدم جزم الإنسان بتكفيرها عنه بمجرد الاجتناب لعدم تحققه للاضطراب في بيان الكبيرة، وغير ذلك، أو بقي الوجوب على الله كما تطلقه المعتزلة، وأما نفي الوجوب بمعنى أن هذا الأمر محقق الوقوع إذا وجد شرطه بمقتضى إخبار الله تعالى فمردود لدلالة السمع عليه، ولما قدمناه من كلام الأئمة من أهل السنة وكلام أصحابنا في الشهادات صريح فيه، ولهذا قال الفاكهاني في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني عقب إرادة كلام الانتصاف وهذا فيه نظر؛ لأن أهل السنة لا ينكرون تكفير الصغائر باجتناب الكبائر كما قال تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾، الآية، ولا يخالف في ذلك المعتزلة، ولا نخالفهم، وإنما الخلاف بيننا وبينهم في هذه الآية هل التكفير قطعي أم ظني؟ وهم يقولون قطعي فلا ينبغي أن ينقل عن أهل السنة أنهم لا يعتقدون تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، قال ابن عطية عند قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾: اختلف العلماء في هذه
المسألة: فجماعة من الفقهاء وأهل الحديث يرون أن الرجل إذا اجتنب الكبائر وامتثل الفرائض كفرت صغائره قطعًا بظاهر الآية، وظاهر الحديث، وأما الأصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء والمشيئة الثابتة، ودلّ ذلك على أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض بتكفير صغائره قطعًا، لكانت لهم في حكم المباح الذي يقطع بأن لا تبعة فيه، وذلك نقض لعرى الشريعة، ومحمل الكبائر عند الأصوليين في هذه الآية أجناس الكفر، والآية التي قيدت الحكم ترد إليها هذه المطلقات كلها، وهي قوله تعالى: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. .﴾، ما ذكره الفاكهاني، وما ذكره من أن هذا حكم المظنون ينبغي أن يكون هو الراجح لما سيأتي
1 / 181
في التنبيه الآتي، لكن لك أن تقول إن أراد به ما سيأتي في كلام الغزالي من أنه لا طريق للمكلف إلى علم، فمسلم أو غيره فممنوع، لتظاهر الآيات والأحاديث على ذلك، ولهذا قال القرطبي في تفسيره ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾: لما نهى الله تعالى في هذه السورة عن أشياء هي كبائر على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودلّ هذا على أن الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة في التنبيه الآتي، لكن لك أن تقول إن أراد به ما سيأتي في كلام الغزالي من أنه لا طريق للمكلف إلى علم، فمسلم أو غيره فممنوع، لتظاهر الآيات والأحاديث على ذلك، ولهذا قال القرطبي في تفسيره ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾: لما نهى الله تعالى في هذه السورة عن أشياء هي كبائر على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودلّ هذا على أن الذنوب كبائر وصغائر، وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء، وأن المسّة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعًا بوعده الصدق وقوله الحق أنه يجب عليه ذلك. ونظير هذا الكلام في قبول التوبة فالله يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، لكن بضميمة
أخرى، وهي إقامة الفرائض للأحاديث، فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعًا. وقول ابن عطية: لو قطعنا لمن اتصف بهذا الوصف بحصول التكفير عنه القطع بفعله المعصية، ولا يتحقق اجتناب للكبائر وخلوصه عن عهدة الفرائض، بل لا يقطع بأن ما ارتكبه ليس من الكبائر للاضطراب فيها على ما سيأتي. ثم لو سلم وجود طريق إلى العلم بذلك فلا نسلم أن الصغائر حينئذ تكون في حكم المباح؛ لأنه عند الإقدام على الصغائر يتحقق الإقدام على معصية، ولا يتحقق وجود اجتناب الكبائر وامتثال الفرائض منه بعد ذلك، وهو سبب التكفير؛ لأن الشخص لو قطع بأن الإسلام والتوبة تكفر الذنوب فلا يلزم منه ما ذكر لعدم تحقق وجود الإسلام والتوبة أو التوبة بعد الذنب حالة تعاطيه، على أنه قد سلم هذا الحكم المظنون، فلو لزم ما ذكره على قدر القطع لربما قبل بلزوم مثله على تقدير الظن؛ لأنه مكلف به في الخروج عن العهدة، وأيضًا قال الواحدي: الصحيح أن الكبيرة ليس لها حد يعرفه العباد، بل أخفاها الله تعالى ليجتهدوا في اجتناب المنهي خشية الوقوع فيها كإخفاء الصلاة الوسطى وليلة القدر حينئذ فلا سبيل للعبد إلى القطع بتكفير بعض ذنوبه بهذه الطريقة، بل قد يظن ذلك، وأن القطع بأن حكم تكفير الصغائر باجتناب الكبائر وامتثال الفرائض في كلام الغزالي ما يدل على ذلك، فإنه قال بعد كلام طويل على الكبيرة ما لفظه: فإذا يرجع حاصل الأمر أنا نعني بالكبائر ما لا تكفره الصلوات الخمس بحكم الشرع، وذلك مما انقسم إلى ما علم أنها لا تكفره قطعًا، وإلى ما ينبغي التوقف فيه، والمتوقف فيه بعضه مظنون بالنفي والإثبات، وبعضه
1 / 182
مشكوك فيه ومرسل، لا يزيله إلا نص كتاب أو سنة، فلا مطمع فيهما خطاب رفع الشك فيه محال، ثم قال: فأن قلت فهذا إقامة برهان على استحالة معرفته، قالوا: وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبة في
المشيئة، ثم ذكر نحو ما قدمناه عن الحنفية من الاستدلال بهذا يقتضي أن خلافهم ليس بلفظي والله أعلم. فكيف يرد الشرع بما يستحيل معرفة حدّه، فأعلم أن كل مالا يتعلق به حكم في الدنيا فيجوز أن يتطرق إليه الإبهام؛ لأن دار التكيف هي دار الدنيا والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث أنها كبيرة بل موجبات الحدود معلومة بأسبابها (كالسرقة والزنا وغيرها)، وإنما حكم الكبيرة أن الصلوات الخمس لا تكفرها، وهذا أمر يتعلق بالآخرة والإبهام أليق به حتى يكون الناس على وجل وحذر فلا يتجرؤون على الصغائر اعتمادًا على الصلوات الخمس، وكذلك اجتناب الكبائر. كلام الغزالي. وأما ما وقع للأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني والقاضي أبي بكر والإمام ابن القشيري من أن كل ذنب كبيرة، وتقسيمهم الصغائر نظراُ إلى عظمة من عُصي بالذنب، فقد قالوا كما صرح الزركشي أن الخلاف بينهم وبين الجمهور لفظي. قال القرافي: وكأنهم كرهوا تسمية معصية الله صغيرة إجلالًا له ﷿ مع أنهم وافقوا في الجرح على أنه لا يكون بمطلق معصية، وأن من الذنوب ما يكون قادحًا في العدالة وما لا يقدح، وهذا مجمع عليه، وإنما الخلاف في التسمية والإطلاق، والصحيح التغاير لورود القرآن والأحاديث به، لأن ما عظم مفسدته أحق باسم الكبيرة، بل قوله تعالى: ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ. . .﴾، الآية صريحة في انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر، فلذلك قال الغزالي: لا يليق إنكار الفرق بينهما، وقد عرف من مدارك الشرع. أ. هـ. قال القرطبي عقب ما قرضا عنه: وأما الأصوليون، فقالوا لا يجب على القطع تكفير الصغائر، وإنما يحمل ذلك على غلبة الظن وقوة الرجاء ولا صغيرة عندنا. وقال القشيري: الصحيح أنها كبائر، ولكن بعضها أعظم وقعًا من بعض، فإذا نظرت أن نفس المخالفة لمن عصيت كانت الذنوب كلها كبائر، وعلى هذا يخرج كلام القاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وأبي المعالي والله أعلم.
1 / 183
تنبيه: قال السبكي: قبول التوبة عن الكفر مقطوع به تفضيلًا، وفي القطع بقبول توبة العاصي قولان لأهل السنة، وقد نحمل في كلامهم الخلاف في وجوب ذلك، وليس المراد ما قالته المعتزلة، إنما مراده القطع بوقوع ذلك تفضيلًا كما ذكرناه، وأن ذلك ثابت بأدلة سمعية مقطوع بها على أحد القولين، ومظنونة على الثاني وهو الأصح، وعبارة ابن عطية في وجوبها لأهل السنة قولان، وهو محمول على ما قلناه. أ. هـ. وما ذكره أنه هو الأصح هو ما اختاره إمام الحرمين، فقال: والمختار أن تكفير التوبة للذنب مظنون. وقال النووي: إنه الأصح، قال الأبياري في شرح البرهان: الصحيح عند القطع بالمحو، وسندنا الإجماع عليه، وإن اختلفوا في القطع والظن، فمن قال إنها غير ماحية فقد خرق الإجماع، فإن قبل فبعض الأئمة جازم بالظن فكيف يصح القطع؟ قلنا: الأئمة إذا اجتمعت على حكم مظنون يكون حجة، وظن جميعهم يزيد على ظن بعضهم. أ. هـ.
1 / 184
وكأنه يشير إلى تخريج ذلك على أن الإجماع وإن أستند إلى ظلني يكون قطعيًا. وقال الحليمي: لا يجب على الله قبول التوبة. لكنه لما أخبر عن نفسه أنه يقبل التوبة عن عباده. لم يجز أن يخلف وعده علمنا أنه لا يرد التوبة الصحيحة فضلًا منه. أ. هـ. وأعلم أن وقوع الاختلاف في أن محو الذنوب بالتوبة قطعي أو ظني يرجح ما تقدم عن ابن عطية من أن تكفيره باجتناب الكبائر ونحوه ظني، والله أعلم بالصواب وإليه المآب.
1 / 185
الفصل الثاني
أعلم، وفقني الله وإياك، أنه قد ورد إطلاق غفران جميع الذنوب عند فعل [بعض] الطاعات من [غير] تقييد بالتوبة، كأحاديث الوضوء تكفر ذنوب، من توضأ، هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه. وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة. من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه. من صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له، ما تقدم من ذنبه. من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ونحوها. قال الزركشي: وقد حملوا على ذلك الصغائر، فإن الكبائر لا تكفرها إلا التوبة، ونازع في ذلك صاحب الذخيرة، وقال: فضل الله أوسع من ذلك، وكذلك قال ابن المنذر في الإشراف في كتاب الاعتكاف في قوله ﷺ: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له من تقدم من ذنبه، قال: يغفر ذنوبه صغيرها وكبيرها، وحكاه ابن عبد البر عن بعض المعاصرين له، قيل: يريد به أبا محمد الأصيلي المحدث، فقال: يقول إن الكبائر والصغائر تكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث، قال: وهو جهل بين، موافقة للمرجئة في قولهم، ولو كان كما زعموا لم يكن للأمر بالتوبة معنى، وقد أجمع أنها فرضت لقوله ﷺ: كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. أ. هـ. قوله ﷺ: كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر. أ. هـ. قوله وهو جمل إلى الآخر ليس بالخالي عن الإفراط؛ إذ الفرق بين القول بعموم التكفير وبين ما ذهب إليه المرجئة في غاية الوضوح، ولو صحَّ ذلك ذهابًا إلى قول المرجئة كلزوم مثله بالنسبة إلى التوبة، فإنه يسلم أن التوبة تكفر الصغائر والكبائر، وهي من جملة أعمال العبد، وكما جاز أن يجعل الله تعالى هذا العمل الذي هو التوبة سببًا لتكفير جميع الذنوب، يجوز أن يجعل غيره من الأعمال كذلك.
وقوله: ولو كان كما زعموا إلى آخره مردودًا؛ لأنه لا يلزمن تكفير الذنوب الحاصلة عدم الأمر بالتوبة، وكونها فرضًا إذ تركها من الذنوب المتجددة التي لا
يتناولها التكفير السابق بفعل الوضوء مثلًا، ألا ترى أن
1 / 186
التوبة من الصغائر واجبة على ما ذكره الأشعري، وحكى إمام الحرمين وتلميذه الأنصاري الإجماع عليه، ومع ذلك فجميع الصغائر مكفرة بنص الشارع وإن لم يتب منها، على ما تقدم، وتحقيق ذلك أن التوبة واجبة في نفسها على الفور، ومن أخرها تكرر عصيانه بتكرر الأزمنة المتسعة لها كما صرخ به الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ولا يلزم من تكفير الله تعالى لذنوب عبده، بمعنى مغفرتها، سقوط شيء أوجبه الله عليه وهو مطالب به حالة المغفرة، فلا يلزم من كون الشيء مكفرًا جميع الذنوب سقوط التكليف بالشرط الذي كلف بها تكليفًا مستمرًا. وقريب من هذا ارتفاع الإثم عن النائم إذا أخر الصلاة عن وقتها مع الأمر بقضائها، لكن قد توقف السبكي في وجوب التوبة من الصغائر عينًا، وقال: لعل وقوعها يكفر بالصلاة واجتناب الكبائر بمقتضى أن الواجب إما التوبة أو فعل ما يكفرها، قال: وبتقدير الوجوب فيحتمل أنها لا تجب على الفور، وقال الزركشي عقب نقل ذلك: فيجتمع له في المسألة ثلاثة احتمالات: وجوب التوبة عينًا على الفور كالكبيرة، وهو مذهب الأشعري، ووجوبها لكن لا على الفور بخلاف الكبيرة، ووجوب أحد الأمرين التوبة أو فعل المكفر، قال: وكأن يرد الخلاف بين الأشعري وأبي هاشم إلى هذا، ونقول: ليس مراد الأشعري تعين التوبة، بل محو الذنب، وخالفه ولده تاج الدين، قال: والذي أراه وجوب التوبة عينًا، وعلى الفور من كل ذنب، نعم إن فرض عدم التوبة عن الصغيرة، ثم جاءت مكفرة كفرت الصغيرتين، وهما ترك الصغيرة وعدم التوبة منها. أ. هـ. وينبغي أن يكون مراده بتكفير عدم التوبة تأخيرها إلا أنّ التوبة تسقط بالمكفرات تصريحه بوجوبها عينًا، فهي كالصلاة وغيرها من الأفعال الواجبة، والمراد بالتوبة الندم على المعصية من
1 / 187
حيث أنها معصية، وإنما يتحقق بالإقلاع، وإن لم يكن قد انتهت، وعزم ألا يعود إليها، وذلك تدارك ما
يمكنه تداركه حيث يوجد المكفر، وأما الاستدلال بحديث ما اجتنبت الكبائر فممنوع؛ لأنه ورد في فعل خاص فلا يتعداه؛ إذ الأصل بقاء ما عداه على عمومه، وهذا مما لا مجال للقياس فيه حتى يخص بالقياس على ذلك، بل ورد في بعض الأحاديث ما يدل على غفران الكبائر أيضًا، فلا يليق نسبة قائل ذلك إلى الجهل، نعم تكفير الكبائر إنما هو مظنون؛ لأنه أدلته ظنيّة، فيقوى بذلك الرجاء في كرم الله تعالى، وقد قال فيما حكاه عنه ﷺ أنا عند ظنّ عبدي بي. . . الحديث.
وأعلم أنه قد ورد في بعض الخصال بسبب تكفير الذنوب وحصول الثواب، وبعضها سبب لحصول أحدهما فقط، ومن المهم تحقيق القول في ذلك، وقد ذكره القرافي في قواعده، فقال: وأعلم أن كثيرًا من الناس يعتقد أنّ المصائب سبب في حصول المثوبات، وليس كذلك، وتحقيق الفرق بين المكفرات وأسباب المثوبات أن المثوبة لها شرطان: أحدهما: أن يكون من كسب العبد ومقدوره، فما لا كسب له فيه، ومالا هو في قدرته، أو هو من جنس مقدوره إلا أنه لم يقع مقدوره كجناية على عضو من أعضائه لا مثوبة له فيه، وأصل ذلك قوله ﷾: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾، فحصر ما له فيما له من سعته وكسبه، وقوله ﷿: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، فحصر الجزاء فيما هو معمول لنا ومفعول. وثانيهما: أن يكون ذلك المكتسب مأمورًا به، فما لا أمر فيه كالأفعال قبل البعثة، وكأفعال الحيوانات العجاوات، فإنها مكتسبة مرادة لها، واقعة باختيارها، ولا ثواب لها فيها لعدم الأمر به، وكذلك الموتى يسمعون في قبورهم المواعظ والقرآن والذكر والتسبيح والتهليل ولا ثواب لهم على الصحيح، لأنهم غير مأمورين بعد الموت ولا منهيين، هذا حديث أسباب المثوبات.
أما الكفارات فلا يشترط فيها شيء من ذلك، بل قد تكون كذلك مكتسبة مقدورة
من باب الحسنات، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾، وقد لا تكون كذلك كما تكفر التوبة والعقوبات السيئات وتمحو آثارها، ومن ذلك المصائب المؤلمات لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾، ولقوله ﷺ: لا يصيب المؤمن من وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من ذنوبه؛ فالمصيبة كفارة للذنوب جزمًا سواء اقترن بها السخط أو السخط والرضى، فالسخط معصية أخرى، ونعني بالسخط عدم الرضا بالقضاء لا التألم بالمصائب المقضيات، والصبر فيه قربة من القرب
1 / 188
الجميلة، فإذا سخط حصلت سيئة، ثم تكون هذه السيئة قدر السيئة التي كفرتها المصيبة أو أقل أو أعظم بحسب كثرة السخط وقلته، وعظم المصيبة وصغرها، فإن المصيبة العظيمة تكفر من السيئات أكثر من المصيبة اليسيرة. فالتكفير واقع قطعًا سخط المصاب أو صبر، غير أنه إن صبر اجتمع التكفير، وإن سخط فقد يعود الذي كفر بالمصيبة كما جناه من السخط أو أقل منه أو أكثر، وعلى هذا يحمل ما في بعض الأحاديث من ترتيب المثوبات على المصائب؛ أي إذا صبر ليس إلا، فالمصيبة لا ثواب فيها قطعًا من جهة أنها مصيبة؛ لأنها غير مكتسبة، والتكفير يقع على المكتسب وغير المكتسب، ومنه قوله ﷺ في صحيح مسلم وغيره: لا يموتن لأحدكم ثلاثة من الولد إلا كن له حجابًا من النار، قال قلت: يا رسول الله واثنان قال: واثنان. . الحديث. فالحجاب راجع إلى معنى التكفير؛ أي تكفير مصيبة فقد الولد ذنوبًا، كان شأنها أن يدخل بها النار، فلما كفرت تلك الذنوب بطل دخول النار. والتكفير في موت الأولاد ونحوهم، إنما هو سبب الآلام الداخلة على القلب من فقد المحبوب، فإنّ كثر كثر التكفير، وإنّ قل قل التكفير، ولا جرم يكون التكفير على قدر نفاسة الولد في صفاته، (ونفاسته في بره وأحواله)، فإن كان الولد مكروهًا يسر فقده فلا كفارة بفقده (ألبتة) وإنما أطلق
ﷺ التكفير بموت الأولاد بناءً على الغالب أنه يؤلم، فظهر لك الفرق بين المكفرات وأسباب المثوبات، فهذه مباحث، وعلى هذا لا يجوز أن يقال للمصاب بمرض، أو فقد محبوب، أو غير ذلك: جعل الله لك هذه المصيبة كفارة؛ لأنها كفارة قطعًا، والدعاء بتحصيل الحاصل لا يجوز؛ لأنه قلة أدب مع الله تعالى، وقد بسطت هذا في كتاب المنجيات والموبقات في الأدعية، بل يقال: اللهم عظم له الكفارة، فإن تعظيمها لم يعلم بمثوبة بخلاف أصل التكفير، فإنه معلوم لنا بالنصوص الواردة في كتاب الله والسنة، فلا يجوز طلبه، فعلم ذلك ونظائره، قلت وفيه نظر من وجوه.
الأول ما ذكره أن المصائب لا تكون سببًا في حصول المثوبة، أخذه من شيخه عز الدين بن عبد السلام؛ فإنه قال: ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور، وهو خطأ صريح؛ فإنَّ الثواب والعقاب إنما هو على الكسب، والمصاب ليس منها بل الأجر على الصبر والرضى. وهذا منظور فيه؛ لأنَّ الثواب والعقاب الخاص بكسب العبد هو الذي يريد وجه الله مجازاته على عمله، وإلا يجوز أن ينيله بمحض الله تعالى المصائب سببًا لإنالته المثوبات لعبده بمحض فضله، لأنه من قبيل المجازاة على المصيبة؛ لأنها ليست من عملهم، والجزاء إنما يكون من العمل، وقد عدّ ﷺ من الشهداء الغريق والميت هدمًا ونحو ذلك، وليس المراد سوى إنالتهم الثواب عند المصيبة، وأما الصبر والرضى فأمر زائد كما قرره القرافي لا حاجة تدعو إلى صرف الأحاديث عن ظواهرها، لما تقدم من جواز ذلك [، نعم لا يسمى ذلك أجرًا بمعنى ما يقابل العمل. هكذا ظهر لي، ثمّ رأيت نحو ذلك] (*) في كلام الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر، فإنه ذكر حديث: ما من مصيبة تصيب المسلم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله تعالى بها عنه، ثم قال في رواية مسلم: ما من مصيبة يصاب بها المسلم، ولأحمد: ما من وجع أو مرض يصيب المؤمن. ولابن حبان ما من مسلم
_________
(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: ما بين المعكوفين ليس في المطبوع، واستدركته من طبعة ابن حزم بتحقيق محمد شايب شريف
1 / 189
يشاك شوكة فما فوقها وفي رواية أحمد
إلا كانت كفارة لذنبه، ووقع في رواية ابن حبان المذكورة إلا رفعه الله درجة، وحط عنه بها خطيئة، ومثله لمسلم في بعض طرقه، وهذا يقتضي حصول الأمرين معًا، حصول الثواب ورفع العقاب، وشاهده ما أخرجه الطبراني في الأوسط، من وجه آخر، عن عائشة ﵂ بلفظ: ما ضرب على مؤمن عِرق قط إلا حط الله تعالى عنه خطيئة وكتب له حسنة، ورفع له درجة وسنده جيد. وأما ما أخرجه مسلم من طريق عمرة عنها إلا كتب الله تعالى له بها حسنة أو حطَّ عنه بها، فكذا وقع فيه بلفظ، فيحتمل أن يكون شكًا من الراوي، ويحتمل التنويع وهو أوجه، ويكون بمعنى إلا كتب الله بها حسنة، أو لم يكن عليه خطايا، أو حط عنه خطيئة، أو كانت له خطايا، ووقع لهذا الحديث سبب أخرجه أحمد وصححه ابن عوانة، والحاكم من طريق عبد الرحمن ابن شيبة العبدري: أن عائشة ﵂ أخبرته أن رسول الله ﷺ طرقه وجع، فجعل يتقلب على فراشه ويشتكي، فقالت له ﵂: لو صنع هذا بعضنُا لوجدت عليه، فقال: إنَّ الصالحين شدد عليهم، وإنه لا يصيب المؤمن. . . الحديث، ثم قال في هذا الحديث تعقب على الشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث قال: ظن بعض الجهلة أنَّ المصاب مأجور وهو خطأ صريح، ووجه التعقب أن الأحاديث الصحيحة صريحة في ثبوت الأجر بمجرد دخول المصيبة، ثم رأيت الأسنوي قد قال إن الشافعي ﵁ قد نصّ في الأم على ما يرد مقاله ابن عبد السلام السابقة، فإنه قال في باب طلاق السكران: فإن قال قائل: فهذا مغلوب على عقله، والمريض والمجنون مغلوب على عقله، قيل المريض مأجور مكفر عنه بالمرض، مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله. وهذا إثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم، فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب. أ. هـ. قال الأسنوي: وهذا حكم بأجر المريض مع زوال عقله، ومن المعلوم انتفاء الصبر
والرضى في تلك الحالة.
وقد يقال الذي أنكره الشيخ عز الدين، وشنع في الرد على قائله إنما هو تسمية ما وعد به الشارع على ذلك أجرًا، يعني ما يقال به العمل، فإنَّ تعليله يرشد لذلك، وإلا فبعيد أن ينكر ما قدمناه، ويلزم عليه أن حال المذنب الخطأ أكثر فائدة وانتفاعًا بحصول المصائب به ممن ليس عليه ذنب إذا اشتركا في الصبر وعدمه، وأنّ حال الأول أكمل، وهو بعيد من الحكمة الإلهية. وقد رأيت بعد سنين من جمع هذا الكتاب في التمهيد لابن عبد البر. . .
1 / 190
حكاية الإجماع على أن الذنوب تكفرها المصائب والآلام والأمراض والأسقام، ثم روى بسنده إلى أن معمر بن عبد الله بن مسعود أن الوجع لا يكتب به الأجر، قال: وكان إذا حدثنا شيئًا لم نسأله حتى يعبر لنا. قال: فكبر ذلك علينا؟. قال: ولكن تكفر به الخطيئة. أ. هـ. فكان هذا هو أصل مأخذ ابن عبد السلام، والله تعالى أعلم.
الثاني قوله: وكذلك الموتى يسمعون في قبورهم المواعظ والقرآن والذكر والتسبيح والتهليل، ولا ثواب لهم على الصحيح؛ لأنهم غير مأمورين بعد الموت ولا منهيين، منظور فيه، بل سماع الميت هذا الأمر سبب في إثابة الله تعالى له بمنزل الرحمة عليه فضلًا منه تعالى؛ لأنه في مقابلة عمل له حتى يحتاج إلى الأمر في ذلك، ولهذا نقل الرافعي والنووي عن القاضي أبي الطيب وأقرانه: أنه سأل عن قراءة القرآن في المقابر، فقال: ثواب القراءة للقارئ، ويكون الميت كالحاضر ترجى له الرحمة والبركة، فيستحب قراءة القرآن في المقابر. ولهذا أيضًا رجح النووي ما أفتى به القاضي حسين من صحة استئجار من يقرأ القرآن على رأس القبر مدة، مع أن شرط صحة الإجارة حصول المنفعة لمن عقدته الإجارة، قال فإنَّ موضع القرآن موضع بركة وتنزل كالمطر، فينعم القارئ ومن حوله، على
أنه قد استشكل ما ورد من صلاة موسى ﵊ في قبره، ومن صفة حج الأنبياء بعد وفاتهم مع أنهم ليسوا في دار عمل.
قال القاضي عياض: للمشايخ عن هذا أجوبة، ثم ذكر أن منها أنهم كانوا قد توفوا، فهم في مدة الدنيا التي هي دار عمل حتى إذا فنيت مدتها، وتعقبتها الآخرة، التي هي دار الجزاء انقطع العمل، وأوضح ذلك السبكي، فقال: الجواب عن ذلك أحد الجوابين، ثم ذكر أنَّ ما حاصلة أن البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا في الاستكثار من الأعمال وزيادة الأجور، وهو جواب المتقدم نقله عن القاضي عياض. وقد نقلنا جوابه الثاني وبقية كلام العلماء في ذلك في كتاب الوفاء بما يجب بحضرة المصطفى ﷺ.
الثالث: ما ذكره في حديث موت أحد الأولاد رجوعه إلى التكفير الخ. منظور فيه بحديث: ما من
1 / 191
مسلمين يقدمان ثلاثة لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله تعالى الجنة بفضل رحمته إياهم. . . الحديث، الحديث رواه الحاكم وغيره وصححه، وظاهره أنَّ البالغ ليس كذلك، وأنَّ الأمر فيه كسائر المصائب.
الرابع: قوله لا يجوز أن يقال للمصاب بمرض أو فقد محبوب أو غير ذلك جعل الله تعالى هذه المصيبة كفارة - الخ - منظور فيه؛ لأن طلب ما تحقق حصوله من العظيم يشمل إظهار الفاقة والافتقار إليه، وهنا ما فهمه العارفون من أمر الله تعالى الطلب منه، ولهذا قال سيدي تاج العارفين ابن عطاء الله: لا يكُن طلبك تسببًا إلى العطاء منه، فيقل فهمك عنه، وليكن طلبك لإظهار عبوديته، وقيامًا بحقوق العبودية، كيف يكون طلبك اللاحق سببًا في عطائك السابق. أ. هـ. وقال أبو نصر السراج: سألت بعض المشايخ عن الدعاء ما وجهه لأهل التسليم، فقال تدعو ائتمارًا بأوامر الله تعالى، وتنزيها للجوارح الظاهرة بخدمته؛ لأنه ضرب من الخدمة. أ. هـ. ولهذا كان أشرف الخلائق وأعظمهم أدبًا مع ربه تعالى المصوم
المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يسأل الله تعالى مع ذلك المغفرة والرضوان، ويستعيذه من النار.
فإن قيل ذلك من أجل التشريع. قلنا: فيكون تشريعًا لذلك، ولو بالصفة الواقعة منه (ﷺ)، وهي سبق المغفرة، وقدمنا أن النووي في شرح مسلم قال: قوله ﷺ: اغفر لي ذنبي كله من باب العبودية والإذعان والافتقار إلى الله تعالى. وقد روى الحاكم وصححه: أن النبي ﷺ حين قدم المدينة، سأل عن البراء بن معرور ﷺ فقالوا: توفي قي صفر، وأوصى بثلثه إليك يا رسول الله، وأوصى أن يوجه للقبلة لما احتضر، فقال رسول الله ﷺ: أصاب الفطرة، وقد رددت ثلث ماله على أولاده، ثم ذهب فصلى عليه، وقال اللهم اغفر له وارحمه وأدخله جنتك، فقوله: وقد فعلت، يفهم أنه قد طلب ذلك منه وقد فعله. وقد روى الطبراني بإسناد رواته يحتج بهم في الصحيح كما ذكره الحافظ عبد العظيم المنذري في ترغيبه عن سلمى أم رافع مولى رسول الله ﷺ أنها قالت: أخبرني بكلمات، ولا تكثر علي، فقال: قولي الله أكبر عشر مرات، يقول الله هذا لي، وقولي سبحان الله عشر مرات، يقول الله هذا لي، وقولي اللهم اغفر لي، يقول الله قد فعلت. فقد اشتمل هذا الحديث على سؤال المغفرة بعد الإعلام بوجودها مكررًا، وقد أورد القرافي على نفسه أمرًا بالدعاء بالنبي ﷺ فقد اشتمل هذا الحديث على سؤال المغفرة بعد الإعلام بوجودها مكررًا، وقد أورد القرافي على نفسه أمرًا بالدعاء بالنبي ﷺ بالوسيلة والفضيلة والمقام المحمود مع اختباره ﷺ أنه أعطيها، ثم أجاب بأنَّ العلماء ذكروا أنه ﷺ أعطي هذه الأمور مرتبة على دعائنا، وأنه سبب لها، وأعلم بحصول ذلك السبب، وقال: والمحرم إنما هو الدعاء بما علم حصوله
من غير دعاء. وما نقله عن العلماء، هو قول بعضهم، وقال بعضهم: إنَّ الأمر بذلك إنما هو لإنالتنا الثواب فقط. قال شيخ الإسلام ابن حجر: وقد تعقب ما ذكره القرافي بما ورد من جواز الدعاء بما هو واقع كالصلاة على النبي ﷺ، وسؤال الوسيلة، ثم قال: وأجيب عنه بأن الكلام فيما لم يرد فيه شيء، وأما ما ورد فهو مشروع ليثاب من امتثل الأمر فيه على ذلك. أ. هـ.
وقد يُقال ما أورده من الاستدلال من ذلك أن الأمور العقلية، فلو صح لزم أطراده وعدم الاستثناء منه، ومطلق الدعاء مأمور به، يثاب على امتثاله.
1 / 192
فيقاس ذلك على ما أذن فيه، وقد رد السبكي على ابن تيمية؛ لأنه لا يتجرأ على الجناب الرفيع إلا بما أذن فيه، وما لم يأذن إلا الصلاة عليه، وسؤال الوسيلة بأن عمر ﵁ كان يعتمر عن النبي ﷺ عمرًا بعد موته من غير وصية، وحكى في الإحياء عن علي بن الموفق في طبقة الجنيد أنه حج عن النبي ﷺ حججًا، وعدها القضاعي سبعين حجة، وعن محمد بن إسحاق النيسابوري أنه ختم عن النبي ﷺ أكثر من عشرة آلاف ختمة، وضحى عنه مثل ذلك. أ. هـ.
فالظاهر أن مستند هؤلاء إنما هو القياس على ما ورد، وقد تمسك بعض الناس أيضًا بكلام ابن تيمية السابق في أنه لا يجوز أن يقال في حق النبي ﷺ زاده الله شرفًا، وقد وقع في كلام النووي، حيث قال: في خطبة كتابته المنهاج وزاده فضلًا وشرفًا لديه، ومواهب الله لا تتناهى فيسأل له ذلك فيقاس على ما أذن له فيه. وفي خطبة الرسالة لإمامنا الشافعي ﵁ ما نصهُّ: محمد عبده ورسوله ﷺ ورحم وكرم. وفي. . . حديث لا تنساني يا أخي من دعائك، وقول بعضهم: إنه لا يجوز سؤال الرحمة له ﷺ إلا مقرونة بالصلاة والسلام عليه، نسبه القاضي عياض في
الإكمال للجمهور، ويعارضه إقرار النبي ﷺ للأعرابي على قوله كما في الصحيحين: اللهم ارحمني ومحمدًا، والله تعالى أعلم.
ويقال في جواب القرافي: تكفير ليس بقطعي، عامًا تقدم عن الحنفية وابن عطية، فمراد هذا الداعي تحقيق هذا الأمر المضنون، أو يقال: قد قرر القرافي أن المصاب إذا سخط فقد يعود الذي كفر بالمعصية بما أخف من السخط، فمعنى قول الداعي: جعل الله هذه المصيبة كفارة؛ أي محققة لا يقارنها ما يكون سببًا في عود ما ذكر بأن يغفر لك؛ أو كفارة لما يقع منك بعد ذلك؛ لأنّ قدرة الله صالحة لذلك، فيجوز سؤاله إياه، أو يقال المراد من التكفير في قوله كفارة التعظيم والتكثير، فإنَّ المقام يرشد إليه فليس ذلك من الدعاء بتحصيل حاصل على ما قررناه ضعف ما ذكره القرافي في آخر قواعده من أنه لا يجوز أن يقال: اللهم اغفر للمسلمين جميع ذنوبهم؛ لأنهم لابد من دخول طائفة منهم النار، وأما قوله تعالى: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن
1 / 193