وإطرائى للعلم لا يعني احتقاري للأدب، ولكن أدبنا في مصر قد بقي إلى الآن، باستثناءات صغيرة، يغتذي بدمه ويجتر نفسه، ولذلك لم تكن له قوة التوجيه والإنهاض للشعوب العربية، بل كثيرا ما أيد هذا الأدب سلطان المستبدين واتجاهات الرجعيين، ووقف متعاليا على سواد الشعب يكاد ينفصل عن المجتمع ويتجاهل مشكلاته، ومن هنا هذه الظاهرة الواضحة فيه، وهي خلوة من النزعة الإنسانية.
ذلك أن الكاتب لا يكون إنسانا إلا إذا اشتغل بعواطفه بمشكلات المجتمع، حتى يحس بعواطفه، وينطق بألسنة أفراده، مع الإحساس الصادق بآلامهم وآمالهم، وهو هنا يحتاج إلى أن يدرس طرق الاستعمار والاستغلال ويتابع أخبار الصحف، ما يكتب فيها وما لا يكتب، ويعرف أمراض الفقر، وهندسة المدن، ونفقات العلاج، وإحصاءات الطلاق، وهو لهذا يحتاج إلى دراسة العلوم؛ لأنها هي التي تزيد الإنتاج وتغير المجتمعات، وتلغي الفاقة، وتعمم السعادة.
والأديب المصري الحق يعرف أن العلم يستخدم في القصر الأحمر، أو القصر الأزرق، أو غيرهما مما يملكه الأثرياء في مصر؛ فيثمر نظافة ناصعة، وإضاءة مشرقة، ودفئا وبردا، وفنا وبهجة، ولكنه، أي: العلم، لا يدخل ولم يدخل إلى الآن بيوت الفقراء.
العلم هو الذي يجعلنا إنسانيين في الأدب؛ لأنه يحملنا على التأمل ثم التفكير، كما يحملنا على المقارنة، فيكون الغضب، ويكون الإلحاح في المطالبة بالإصلاح، وأديب بلا علم هو أديب بلا إنسانية. •••
والحركات الأمامية في الأمم الأوروبية والأمريكية يتزعمها أو يوحي بها العلم، وما من أديب تحس الحيوية في أدبه إلا كان علميا.
أذكر برنارد شو الذي نقرأ مؤلفاته فنجد رجلا علمي الذهن يتحدث عن التطور، وعن الإنسان بعد مئة ألف سنة، وعن ضبط التناسل، وعن بناء المنازل، وهو يتحدث عن هذه الشئون كما يتحدث عن دنشواي في مصر، وهو إنساني لأنه يعرف مقدار الهناء بالعلم ومقدار التعاسة التي نعانيها نحن وغيرنا لأننا حرمناه.
وقد يقال: إن الأديب يمكن أن يكون إنسانا ولو جهل العلوم، وهذا حق، ولكن إنسانيته عندئذ تكون عقيمة، قصارها عاطفة دامعة فيها تحسر وتندم، ثم أسف وعجز، ثم رثاء واستسلام.
ولكن الأديب العلمي يعرف العلاج؛ ولذلك هو إنساني، وإنسانيته كفاح وليست استسلاما أو أسفا.
وقد يقال أيضا: إن العلم يستخدم للشر، وهذا صحيح، ولكن الأديب الإنساني يكافح هذا الشر ولا يكافح العلم؛ لأن العلم هو أعظم قوى التطور في عصرنا؛ إذ هو الذي يغير المجتمعات، بل إنه ليوشك أن يغير طبيعة الإنسان، أجل، إن طبيعة الإنسان ستتغير بالعلم؛ إذ ما هو التطور إن لم يكن التغير في الطبيعة، طبيعة الكون، وطبيعة الدنيا، وطبيعة النبات والحيوان والإنسان؟ •••
لذلك أنا أرجو أدباءنا ألا يتكبروا على العلم؛ لأنهم لن يستطيعوا خدمة بلادهم إلا بمقدار ما يعرفون من القوى العلمية التي تستطيع أن تعمم الهناء والخير والثقافة والصحة لأبنائنا، بل هم لا يستطيعون أن يكونوا إنسانيين منتجين إلا بالعلم، وهذا المؤتمر العلمي العربي الذي عقد بالإسكندرية يجب أن ينبه الأدباء كما ينبه الحكومات والشعوب. •••
Bog aan la aqoon