علم الكلام عند الزيدية ، حقيقته وأبعاده ، نظرة سريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد ......
أخي القارئ هل تسائلت يوما (أو سئلت) عن ماهية علم الكلام عند الزيدية ؟! ، وبتعبير أدق وأصح : هل اعترض عليك معترض وقال أن الزيدية ابتدعت في علم الكلام ، فبنت عليه عقائدها ، وأصلت وفرعت ، وبنت وشيدت ، وهذا مخالف لما كان عليه السلف من أهل البيت والصحابة وخيار التابعين ؟!! . إذا كان نعم قد تعرضت لمثل هذه الأسئلة ، أو مرت عليك أمثال هذه الاستشكالات (ولو مع نفسك) ، فإنا مقدموا لك مناقشة الحافظ الكبير محمد بن إبراهيم الوزير (ع) لهذا الموضوع ، وفيه تأمل كيف أنه (وهو الأقرب والأخبر) بين عقيدة ومنهج الزيدية في علم الكلام، وكذلك تأمل وتدبر أبعاد عقيدة أهل البيت (ع) مع علم الكلام من أقوالهم ، ثم تأمل خلاصة أبحاث مفكرين وأكاديميين متخصصين حول ماهية وأبعاد علم الكلام عند الزيدية . ((تنبيه : هذا الموضوع فرع من مبحث ((الحافظ ابن الوزير بين الزيدية وأهل السنة والجماعة)) ، على الرابط ، وهو مسودة نظرة تأملية فاحصة تتناول هذا الموضوع بعناية بإذن الله تعالى :
http://al-majalis.com/forum/viewtopic.php?t=903&start=0
[ الزيدية وابن الوزير وعلم الكلام ]
نهج ابن الوزير رحمه الله تعالى ، منهجا واضحا في علم الكلام ، من عدم ضروريته لإثبات عقائد الدين وأصولها ، وإن كان لا يمانع من الخوض فيه ، ويعتقد أن طرق الاستدلال بالكتاب وصحيح السنة وسليم فطرة العقول أولى وأحوط وأفضل ، ويستدل بأن الرسول صلوات الله عليه وآله وسلم لم يخض فيه ولا علمه أحدا من الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عنهم .
ويعتقد بأن الإيمان الجملي يغني عن الغوص في علم الكلام ، وأن الولوج في الكلام والمغالاة فيه يكون صاحبها معرضا لاحتمالية غير السلامة ، على عكس من كفته الجمل في عقيدته الإلهية .
قلت : ونحن ذاكروا نبذة عن علم الكلام ، لما استفحل وصم الشيعة الزيدية به من متابعة للمعتزلة فيه ، والمخالفة لأهل البيت المتقدمين ، ولأن الأمر جلل وفيه من الافتراء على الزيدية ما ينزههم المنصفون عن الخوض فيما لم يكلفوا به من الفلسفات ، وعلى راس هؤلاء المنصفين الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير رحمه الله تعالى ، فنقول اعلم أن علم الكلام نوعان :
الأول : علم الكلام الذي انتهج فيه أصحابه اتجاها مذموما ، وهو المغالاة والتكلف في الدين ، وذلك بالخوض في العلوم العقلية التي لم ينزل الله بها من سلطان ، ولا كلفنا بمعرفتها فضلا عن الإيمان بها ،كالخوض في الحركات والسكون ، والإرادات والمحالات ، والموجودات والمعدومات، والهيولى ، والأجزاء التي لا تتجزأ ، والكلام في التولدات ، والتعمق في ذات الله سبحانه وتعالى ، والخوض في أن الإنسان ليس جسدا ، والطفرات والجينات والذرات وربطها بالدين الإسلامي الحنيف ، وهذا اشتهر به المعتزلة من المسلمين، وهذا لا ينتهج به أهل البيت من الزيدية ، بل لم يؤثر عنهم الإهتمام به ، إلا أن يكون ردا على الخصوم فهو وارد ، بل إنه نادر ، وهو لن يكون إلا كما فعل ابن تيمية مع الأشاعرة والمعتزلة ، وكما يفعل ابن الوزير في كتابه العواصم .
وفيه يقول ابن الوزير رحمه الله تعالى ، منزها أهل البيت الزيدية المتقدمين والمتأخرين عن هذا النوع من العلم المتكلف الذي ما أنزل الله به من سلطان ، بعد أن ذكر فرائد قصائدهم في الرد على غلاة المعتزلة ، وذكر على لسان السيد الإمام الواثق بن المطهر عليه السلام بعد أن نقل قصيدته التي مطلعها ( لا يستزلك أقوام بأقوال * ملفقات حريات بإبطال ) ، ما نصه : ( ثم سرد أسماء الأئمة عليهم السلام ، راويا عنهم الموافقة على إنكار هذه المذاهب المبتدعة ، فذكر علي بن الحسين ، وولديه الباقر وزيدا وجعفرا الصادق ، والقاسم وابنه محمدا ، وحفيده الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ، وولديه أحمد الناصر ، ومحمدا المرتضى ، والناصر الأطروش ، والقاسم بن علي ، وأحمد بن سليمان ، والمنصور بالله ، وأحمد بن الحسين ، والإمام الحسن بن محمد ، والمطهر بن يحيى ومحمد بن المطهر . نقلت ذلك من شرح هذه القصيدة المسمى " باللآلئ الدرية في شرح الأبيات الفخرية " للسيد العلامة شيخ العترة ترجمان الموحدين محمد بن يحيى القاسمي ، وقد طول في شرحها ، وبين في ذلك طرق الرواية عنهم عليهم السلام فافاد وأجاد رحمه الله تعالى ) اه .
العواصم والقواصم : 3/418 - 419
ثم يؤكد ابن الوزير أن الزيدية وأهلها براء مما ينسب إليهم من الخوض في المذاهب الكلامية المبتدعة ، فيقول ما لفظه : ( وما زال علماء أهل البيت على هذا قديما وأخيرا ، ومن الشواهد ومن الشواهد لذلك أنه ليس لهم في علم الكلام مصنف مبسوط ، كتواليف المتكلمين الحافلة ، إلا بعض ما صنفه أهل العجم منهم في ذلك متابعة لقاضي القضاة ، وهو السيد مانكديم ، وهو الكتاب الموجود في ديار الزيدية اليوم المسمى " شرح الأصول الخمسة " ، ويدل على انفراده بذلك من بين سلفه ، أنه لم ينقل فيه عنهم حرفا واحدا ، وإنما نقل كلام شيوخ الاعتزال ، ومذاهبهم ، وأدلتهم ، إلا أن يكون حكى مذهبهم وأدلتهم في فروع الكلام السمعية كالأسماء ، والشفاعة ، والإمامة ) اه .
العواصم والقواصم : 3/419
فهذا رأي ابن الوزير في هذا النوع من الكلام المبتدع ، بل ورأي أئمة الزيدية الذي حكاه عنهم ابن الوزير وساق قصائدهم وتقريراتهم في البراءة من التمذهب به والاعتقاد به ، فإذا تقرر هذا فاعلم أن ابن الوزير عندما يرد على المسائل الكلامية الصرفة الدقيقة في كتابه العواصم والقواصم فإنه يحكي مذاهب المعتزلة ، ويوجه الخطاب في ردوده على المعتزلة ، فيتوهم القارئ أنه يرد على الزيدية ، فافهم ذلك .
أدلة أخرى على براءة الزيدية من التأثر والانشغال بعلم الكلام الفلسفي :
1- انظر استبسال السيد حميدان بن يحيى القاسمي عليه السلام في كتابه ( تنبيه الغافلين على مغالط المتوهمين ) ، في الرد على أقوال الفلاسفة في العقل والنفس ، وعلى من جمع بين الفلسفة والإسلام في العقل ، وعلى أقوال الفلاسفة في معنى العلم ، والإبطال لما ابتدعه أهل الهيولى والصورة ، وانظر كلامه عليه السلام في حدود العقل والغلو المتكلف .
مجموع السيد حميدان : ص 23 إلى ص 50
2- عقد السيد العلامة المجتهد علي بن محمد العجري رحمه الله تعالى ، مبحثا خاصا في كتابه ( الأنظار السديدة في الفوائد المفيدة ) بعنوان : (الفائدة الثانية عشرة : في بيان الاستغناء عن فن المنطق وبيان مفاسده ) ، وجاء فيه ما نصه : ( لم يعول قدماء أئمتنا عليهم السلام وكثير من متأخريهم على علم المنطق ، ولم يذكروه في كتبهم ولا بنوا عليه شيئا من قواعد دينهم ، وما ذلك إلا للاستغناء عنه بالأدلة العقلية والنقلية ، ولما يؤدي إليه ، ويلزم على التمسك بقواعده من المفاسد . ) اه .
الأنظار السديدة في الفوائد المفيدة : ص48
3- ذكر السيد العلامة علي بن محمد العجري أن الإمام القاسم بن محمد عليه السلام ، قال فيما معناه : ( إن جميع العلوم الإسلامية مستغنية عن المنطق ... ونحن نعتمد على ما ورد في الكتاب والسنة ولغة العرب ... ) اه
الأنظار السديدة في الفوائد المفيدة : ص48
4- قال أمير المؤمنين الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه السلام ، منزها نفسه عن عقيدة غلاة المعتزلة ، ما لفظه : ( فهذا وفقكم الله دين المؤمنين وديني وما عليه اعتقادي ، لست بزنديق ولا دهري ، ولا ممن يقول بالطبع ، ولا ثنوي ، ولا مجبر قدري ، ولا حشوي، ولا خارجي، وإلى الله أبرا من كل رافضي غوي ، ومن كل حروري ناصبي ، ومن كل معتزلي غال ، ومن جميع الفرق الشاذة ) اه .
مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين : جوابه على أهل صنعاء ، ص95
5- قال السيد حميدان بن يحيى القاسمي رحمه الله تعالى ، معنفا غلاة متكلمي المعتزلة :
زال أهل التفعيل والانفعال*********وأديل التطريف بالاعتزال
حرفو محكم النصوص فصاروا********قدوة في التلبيس والإضلال
( إلى أن قال )
ما أتى في التكليف قول بهذا ********في مقال يروى ولا فعال
بل أتى الأمر بالتفكر في الص********نع وترك اتباع الرجال
العواصم والقواصم : 3/ 411- 412
نعم ! وغير هذا كثير ، ولولا الميل للاختصار لأسهبنا في هذه القضية ، لما وجدنا الكثير من أتباع الرجال ينسبون الزيدية إلى مخالفة أهل البيت في ابتداع علم الكلام المذموم ، واتباعهم لغلاة المعتزلة في هذا ، والله المستعان . وسنعضد كلام أئمة الزيدية السابق بكلام مثقفي ومفكري الأمة الذين دونوا آراءهم الخاصة عن الزيدية ، ولكن بعد أن نتكلم على النوع الثاني من أنواع علم الكلام .
الثاني : علم الكلام الذي انتهج فيه أصحابه طريقا محمودا ، وهو الإيمان بالعقل القرآني ، بلا إفراط ولا تفريط ، والإفراط هو اتباع منهج الغلاة بإعطاء العقل منزلة فوق منزلته التي أنزله الإسلام إياها ، والتفريط هو اتباع منهج المهملين لشأن العقل القرآني في أن يكون دليلا فطريا على معرفة توحيد الله وتنزيهه ، ورد المتشابه من الكتاب والسنة إلى المحكم ، ومنهم أهل الجمود الطاهرية ، نعم! وهذا النوع من الكلام هو الذي عليه الزيدية ، بل حتى وفرقة أهل السنة والجماعة وإن كانوا لا يسمونه علم كلام .
ومثاله : أن الزيدية عندما يتكلمون عن قادرية أو حياة أو وجود ، أوعدم مشابهة الله عز وجل لشيء من الأشياء ، فإنهم يجعلون للعقل مجالا في التفكر في لماذا أطلقنا هذه صفات على الله عز وجل ، ويعلل الزيدية هذا بأن يكون المكلف على بينة من عقيدته ، ولا يهتز بمجرد هبوب رياح الآيات والأحاديث المتشابهات والشبه والبدع .
ومع إثباتهم لدور العقل إلى جانب الكتاب والسنة ، فهم لا يغالون في تكليف العقل ورفع مقداره ومكانته التي يستحقها ، بحيث يتجاوز أدلة الشرع القطعية ، وإنما يجعلون منه وسيلة لفهم نصوص الكتاب والسنة .
ومثال أدلة العقول في إثبات عقائد الزيدية ، ما ذكره الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام ، في كتابه زبد الأدلة ، عندما قال :
( فإن قيل: ما الدليل على أن الله تعال عدل حكيم؟
قلت: لأنه لا يحمل على الجور إلا الحاجة والجهل، وقد ثبت أنه تعالى عالم غني، فثبت أنه عدل حكيم؛ لأن من علم قبح القبيح وكان غنيا عنه لم يفعله أصلا شاهدا وغائبا.
فإن قيل: أفعال العباد منهم أو من الله تعالى؟
قلت: بل منهم؛ لأن الله تعالى أمرهم ببعضها، ونهاهم عن بعضها، وهو لا يأمرهم ولا ينهاهم عن فعله؛ لأنه تعالى عدل حكيم.
فإن قيل: ما الدليل على أنه لا يقضي إلا بالحق؟
قلت: لأن المعاصي باطل، والقضاء بالباطل قبيح، والله تعالى لا يفعل القبيح، وقد قال تعالى: { والله يقضي بالحق }
فإن قيل: ما الدليل على أن الله تعالى لا يعذب أحدا إلا بذنبه، ولا يثيبه إلا بعمله؟
قلت: لقوله تعالى:{ فكلا أخذنا بذنبه }، ولقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}.
فإن قيل: ما الدليل على أن الله تعالى لا يكلف أحدا من عبيده ما لا يطيقه؟
قلت: لأن تكليف ما لا يطاق قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح، ولقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها}. ) اه
فإن قيل: ما الدليل على أن الله تعالى لا يشبه الأشياء؟
قلت: لأنه لو أشبهها لجاز عليه ما جاز عليها من التغيير والزوال، والانتقال من حال إلى حال، وذلك أمارات الحدوث، وقد ثبت أنه تعالى قديم. ) اه .
نعم! هذه باختصار بعض مسائل العقيدة التي يجب على المكلف معرفتها بدون تقليد ، بل لابد من استقصاء الأدلة والبراهين عليها ، ليكون المكلف محصنا من رياح التغيير والتبديل .
وفي نظري أن أكثر المذاهب الإسلامية تستخدم أمثال هذه الاستدلالات النقلية والعقلية ، على عقائدها ومشاربها .
وإلى هذا يشير ابن الوزير عليه السلام ، عندما قال : ( والأمر الثاني مما أردته بقولي " أصول ديني عن كتاب الله لا العرض " ، النظر في الأدلة التي أمرنا الله تعالى أن ننظر فيها ، أو حثنا على النظر فيها ، كقوله تعالى : { أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا}، وقوله تعالى : {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة- إلى قوله-ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير } ، .... ومما يأتي عليه العد ، وهذا أمر لا يصلح أن يكون فيه خلاف بين المسلمين البتة ، ومن أداه الغلو على تقبيح الاكتفاء بهذه الأدلة ، وجب على جميع المسلمين النكير عليه ، والإغلاظ له ، وقد ظهر لي أنه قول أئمة الكلام ، فضلا عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وسائر علماء الإسلام ) اه .
العواصم والقواصم : 3/436- 437
وبعد هذه المقدمة التي تكلمنا فيها عن أنواع علم الكلام ، وما هو المذموم وما هو المحمود ، وما هو مسلك الزيدية في الاحتجاجات والاستدلالات العقلية ، نعود لنتفحص رأي ابن الوزير ، وعلى من من أصحاب الكلام انتقد وأزرى ، أعلى الغلاة أم المعتدلين ؟ ولا شك في أنه يقصد الغلاة الذين أدخلوا على الإسلام ماليس منه ، وأقحموا الناس بآراء ليسوا مكلفين باقتحامها .
وفيه اعلم رحمنا ورحمك الله تعالى أن ابن الوزير (ع) كان يميل إلى الاكتفاء بالجمل في العقائد الإلهية ، إذ تكررت منه هذه اللفظة في عدة مواضع من عواصمه ، فقال مادحا لهم ، بعد أن ذكر أن متقدمي ومتأخري الزيدية لا يعولون على علم الكلام المبتدع فيما نقلنا سابقا من كلامه ، مالفظه :
( وإذ هذا كلام أهل البيت من الزيدية والشيعة ، فما ظنك بأهل البيت من أهل الأثر ، والفرق الأربع ، ويوضح ذلك تأليفهم المختصرات المشهورة في ذلك ، واقتصارهم على الإجمال والإشارات ، من أشهر ذلك ما أودعه محمد بن سليمان رحمه الله في أول المنتخب على مذهب الهادي عليه السلام ، فإنه سأله عليه السلام عن ما يكفي في معرفة الله تعالى ، ودليل ذلك ، فأوجز له الكلام في مقدار عشرة أسطر . وكذلك كلامات علي عليه السلام في ذلك . وللمؤيد بالله عليه السلام في ذلك كتاب التبصرة مختصر جدا ..) اه
العواصم والقواصم : 3/419 - 420
وهنا ابن الوزير امتدح ما نقله محمد بن سليمان الكوفي ، عن مسألته للإمام الهادي إلى الحق عليه السلام ، ونسبه إلى مماثلة أقوال أهل البيت من أهل الأثر ، فوجدنا محمد بن سليمان رحمه الله يقول : ( فكان أول ما سألته عنه : أن قلت له : أيها الإمام رضي الله عنك ما تقول في أول ما افترضه الله على خلقه ما هو ؟ فقال : أول ما افترض الله على خلقه معرفته . قلت : وما اصل معرفته ؟ قال : أصل معرفته توحيده . قلت : وما كمال معرفة توحيده ؟ قال : نفي جميع صفات التشبيه له . قلت : فبين لي كيف نفي التشبيه عن الله بكلام موجز مختصر ؟ قال : نعم إن شاء الله ، اعلم وفقك الله انه لم يتوهم المتوهمون ولم يتمثل في عقولهم ، مثل صفة ذات الله ، إلا كان الله بخلاف ذلك الذي يتوهمه المتوهمون ، أو يتمثل في عقولهم ، والشاهد بذلك والدال عليه قوله تبارك وتعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ، فافهم ذلك فلك فيه كفاية . قلت : ثم ما بعد هذا ؟ قال : أن تعلم أنه العادل في جميع أفعاله . قلت : ثم ما بعد هذا ؟ قال : أنه لا يخلف الوعد والوعيد ، فهذه الكلمات تفرع لك جميع ما تحتاج إليه من معرفة ربك ، فافهمها وتدبرها ) اه .
كتاب المنتخب ، ص 19
ثم امتدح ابن الوزير كلام الإمام علي عليه السلام ، فمن كلماته المجملة المشهورة عندما سئل عن التوحيد والعدل ، قوله عليه السلام : (التوحيد أن لا تتوهمه ، والعدل أن لا تتهمه) .
ثم امتدح ابن الوزير كتاب التبصرة للإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين سلام الله عليه ، وألحقه بما أهل البيت من أهل الأثر عليه ، فراجعنا كتاب التبصرة ، فإذا به ناطق بما عليه الزيدية اليوم من الاكتفاء في التحقيق والنظر ، إلا عند مقارعة الحجج مع الخصوم فإنهم يلجأون للتطويل والإسهاب والتفرع كما فعل ابن الوزير وابن تيمية ، ثم إن ما جاء في التبصرة مطابق لما سبق ونقلناه عن الإمام المنصور الله عبدالله بن حمزة من زبد الأدلة سابقا بل ومطابق أيضا لما جاء في كتاب العقد الثمين في معرفة رب العالمين للأمير الحسين بن بدرالدين ، ولما جاء في كتاب الموعظة الحسنة ، ولما جاء في كتاب العقيدة الصحيحة للإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ، ولما جاء في كتاب مصباح العلوم للعلامة أحمد بن الحسن الرصاص . وهذا حتما يدخل في النوع الثاني من أنواع علم الكلام حسب تقسيمنا أعلاه ، والذي أكاد اجزم أن المسلمون ينتهجون به في الاستدلال على عقائدهم ، كل على طريقته ومذهبه . وسننقل من التبصرة التي اعتمد طريقتها ابن الوزير ، نفس المسائل التي نقلناها عن زبد الأدلة ، وسنضيف نظيرها من كتاب العقد الثمين ، وعلى القارئ المقارنة ، ثم الحكم أي علم كلام نفاه ابن الوزير عن أهل البيت عليهم السلام ، آلمغالى فيه على طريقة الفلاسفة والمعتزلة ؟ أم الذي على طريقة الزيدية من أهل البيت ؟ ولو تأمل المنصف الأقوال التي يسوقها ابن الوزير على لسان المتكلمين لعلم أنه يسوق أقوالا معتزلية صرفة وينسبها إليهم ، ولا يسوق شيئا منها على لسان أئمة الزيدية ، لأنه لا توجد في الغالب لهم أقوال في دقائق علم الكلام ، بل لم يهتموا به ذاك الاهتمام . ثم لا يفوتك أن تدرك معنى استدلالات الزيدية العقلية بما سنورد .
قال الإمام المؤيد بالله (ع) في التبصرة :
((فإن سأل سائل فقال : ما الدليل على أن الله لا يفعل شيئا من القبائح ؟
قيل له : الدليل على ذلك أنه تعالى قد ثبت : استغناؤه عن جميع القبائح ، وكونه عالما بقبحها ، وعالم باستغنائه عنها . والعالم بقبح القبيح متى استغنى عنه ، لا يجوز أن يختاره على وجه من الوجوه )).
قال الأمير الحسين بن بدرالدين في العقد الثمين :
((فإن قيل: أربك عدل حكيم؟
فقل: أجل، فإنه لا يفعل القبح ولايخل بالواجب عليه من جهة الحكمة، وأفعاله كلها حسنة.
وإنما قلنا: إنه لايفعل القبيح لأنه إنما يقع ممن جهل قبحه، أو دعته حاجة إلى فعله وإن علم قبحه، وهو تعالى عالم بقبح القبائح؛ لأنها من جملة المعلومات وهو عالم بجميعها كما تقدم، وغني عن فعلها كما تقدم أيضا، وعالم باستغنائه عنها، وكل من كان بهذه الأوصاف فإنه لا يفعل القبيح )).
--------
قال الإمام المؤيد بالله (ع) في التبصرة :
((فإن قال قائل : فما الدليل على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله ن وأن العباد هم الذين يحدثونها ؟
قيل له : الدليل على ذلك بانها تقع بحسب أحوالهم ، ودواعيهم ، وهم الذين يستحقون عليها المدح والذم ، فثبت تعلقها بهم ، ولا وجه يصح من أجله تعلق الفعل بالفاعل إلا الحدوث ، فواجب أن تكون هذه الأفعال محدثة من جهة العبيد ، دون جهة الله تعالى، فبان أنها غير مخلوقة لله تعالى ...)).
قال الأمير الحسين بن بدرالدين في العقد الثمين :
((فإن قيل: هل ربك خلق أفعال العباد؟
فقل: لايقول ذلك إلا أهل الضلال والعناد، كيف يأمرهم بفعل ماقد خلق وأمضا، أو ينهاهم عن فعل ما قد صور وقضى، ولأن الإنسان يلحقه حكم فعله من المدح والثناء، والذم والاستهزاء، والثواب والجزاء، فكيف يكون ذلك من العلي الأعلى؟! ولأنه يحصل بحسب قصده ودواعيه، وينتفي بحسب كراهته وصوارفه على طريقة واحدة، ولأن الله تعالى قد أضاف أفعال العباد إليهم، فقال: ?يكسبون? ، و?يمكرون? ، و?يفعلون?، و?يصنعون?، و?يكفرون?، و?يخلقون إفكا?، ونحو ذلك في القرآن كثير، ....)) .
-------------
نعم! فإذا تقرر كل هذا ، عرفت أن ابن الوزير رحمه الله ، إنما ينعى على أقرانه من أهل عصره الطرق التي اتبعوها لتوحيد الله سبحانه وتعالى وتنزيهه ، لا أنه نعى عليهم أصول عقيدتهم ، كما تقرر فيما بينه وبين شيخه في الأسماء والصفات من ثبوت عقيدتيهما في التنزيه وعدم التشبيه وعدم الأخذ بالظاهر ، ثم اختلفوا في طرق الوصول إلى هذه العقيدة ، فقائل يقول بالتأويل ، وقائل يقول لا أتأول ، لا لأني لا أؤمن به ولكن لأسلم ، وهنا ينعى ابن الوزير أن يكون دقيق الكلام طريقا إلى العقيدة المحمدية ، وأخذ واكتفى بالجمل التي أشار إليها الإمام علي عليه السلام ، والإمام الهادي إلى الحق ، كما سبق وأن نقلنا ، وأقر بصحة طريقة استنباط الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (ع) للعقائد وذلك في كتابه التبصرة .
هذا وقد سبق وأن ذكرنا شهادة ابن الوزير للزيدية عدم خوضها في دقيق علم الكلام المبتدع وأنه ليس لهم في هذا أقوال مؤصلة ، وعضدنا كلام ابن الوزير بكلام أئمة الزيدية وعلمائها في دقيق علم الكلام المبتدع الفلسفي ، وما هو موقفهم منه ، ونعضد كلام الجميع بما ذكره من درس فكر الزيدية من المثقفين .
1- قال الدكتور أحمد محمود صبحي : ( والقاسم الرسي - كسائر متكلمي الزيدية - تقترب آراؤه الكلامية من الفقه وتبعد عن الفلسفة ، وهذا ما يميز الزيدية بعامة عن المعتزلة ، ومن ثم لن تجد مصدرا يونانيا أو غير يوناني ، في آراء القاسم الرسي الكلامية وإنما هي إسلامية خالصة . ) اه .
كتاب الزيدية : ص 111
2- قال الدكتور إمام حنفي عبدالله ، وهو أحد المطلعين على الفكر الزيدي عن كثب : ( والحقيقة أن العقل عند الزيدية ، هو عقل قرآني ، أخذت أسسه وقواعده مما ذكر في القرآن الكريم ، وكذلك مما لا يختلف عليه العقلاء ولا يتناقض مع أصول الدين الإسلامي وكليات القرآن ، ولذلك لا نغالي إذا قلنا إنه عقل قرآني يشهد له بكل حال من الأحوال . ) اه .
الصفات الإلهية عند الإمام يحيى بن الحسين : ص 12.
3- قال الدكتور احمد شوقي إبراهيم : ( وقد راج مذهب الاعتزال لما فيه من مظاهر البحث العقلية ، والاعتماد على أساليب المنطق والجدل ، فمالت إليه الطباع ، وكثر أنصاره ، وأصبح المذهب السائد بين مذاهب المتكلمين ، وكان المعتزلة أهل فكر ونظر ، بينما غلب على الزيدية جانب العمل ، ولذا لم يجار الزيدية المعتزلة في مسائل علم الكلام ودقيقه ... ، ولم يبالغ الزيدية مبالغة المعتزلة في تعليل أفعال الله ، وحرية إرادة الإنسان ) .
الحياة السياسية والفكرية للزيدية في المشرق الإسلامي : ص 226 ، 227
نعم ! فهذا أخي الباحث عن الصواب ما كان من رأي ابن الوزير رحمه الله ، ومن رأي أهل البيت عليهم السلام من الزيدية ، في قضية دقيق علم الكلام الفلسفي ، فمن أتاك بعد هذا من الناهقين أو الناعقين يريد أن يزهد الناس في علوم أئمة أهل البيت من الزيدية ، وقام يدعي أنهم ابتدعوا عقائد كلامية ليس عليها منهج الكتاب ولا السنة ولا قول المتقدمين من أهل البيت ، فأيقن أنه إما جاهل أو متجاهل ، هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين .
Bogga 19