إن الصعوبات التي يلقاها علم التاريخ ترجع إلى تطبيق هذين المنهجين. ولنتساءل أولا: إلى أي حد يكون الفهم ممكنا، أعني إلى أي حد تكون المعرفة التاريخية خلوا من كل غرض؟ وإذا كان علم التاريخ يشهد بقدرة الإنسان على إدراك الماضي إدراكا واعيا، وبرغبته في تحديد مستقبله وفقا لهذا الماضي، فلنا أن نتساءل في هذه الحالة: ألا يؤدي حرص الإنسان حاليا على مستقبله إلى توجيه الفكرة التي يكونها لنفسه عن الماضي توجيها معينا؟ إن الثورة الفرنسية إذا ما درست في عهد عودة الملكية، تبدو في صورة مختلفة كل الاختلاف عنها إذا ما درست في عهد الإمبراطورية الثانية، أو الجمهورية الثالثة، كما تختلف أيضا باختلاف شخصية المؤرخين. إن الاتفاق بين الناس على واقعة مادية أمر ممكن لأنها لا تهم أحدا منهم بطريق مباشر على الأقل. وصحيح أن المرء قد يتخذ منها موقفا معينا، ولكنها في ذاتها لا تستأثر باهتمام إنسان دون آخر، ولا تتضمن نموذجا يحتذى، أو حكما أو قرارا، أما في حالة الواقعة التاريخية، فنشعر بأننا ننفعل ويطلب إلينا أن نحدد موقفنا منها.
12
ولابد أن تؤدي مشاغل الحاضر أو تحيزاته إلى تشويه فكرتنا عن الماضي، أن فهم الماضي هو، في نهاية المطاف، محاولة منا لكي نحياه من جديد، ولكن هذا حد نهائي لا نملك إلا أن نحاول الاقتراب منه، إذ إننا لا نتصل بالماضي اتصالا كاملا. وفضلا عن ذلك، فبم نتصل لو وجد هذا الاتصال؟ أعني أننا إذا تحدثنا عن «ووترلو»، فهل نتصل بفابريس أم بنابوليون؟ إن الحادثة التاريخية لا تستوعب استيعابا كاملا. وليس في وسعنا أن نحياها مرة أخرى بحذافيرها. لهذا كان الجهد الذي يجب على المؤرخ أن يبذله للخروج عن الموقف الحالي والتعاطف مع الماضي جهدا لا حد له. (6) الحتمية التاريخية
ولكن ما دام رجوعنا إلى الماضي أمرا لا مفر منه، أفلا نستطيع الإفادة من ذلك للسيطرة عليه، وترتيبه وتنظيمه؟ تلك هي المهمة التي تحاول الحتمية التاريخية القيام بها، على أن لهذه المهمة حدودا، وإن كانت هذه الحدود لا تغض من قيمة هذه الحتمية بحال.
وترجع هذه الحدود أولا إلى أن الواقعة التاريخية البشرية وأفعال البشر مما يصعب التنبؤ به، ففي بعض الأحيان نلاحظ الجغرافيا البشرية؛ أن مدينة ما تبنى في موقع غير ملائم، على حين أن موقعا أنسب يظل مهجورا، ولكن لو سلمنا بحرية الذين يحتلون أدوارا تاريخية، فإن هذا لا يعني رفض أية محاولة للتفسير. وكل ما في الأمر أنه يجب علينا أن نستبدل بحتمية الأسباب الطبيعية، تحديدا عن طريق الأسباب العقلية، أو نضيف الثانية إلى الأولى، أي أن السببية العقلية تحل محل السببية الطبيعية. وفضلا عن ذلك، فالبحث عن الأسباب يرتبط بمواقف أو بحوادث تبلغ في معظم الأحيان حدا من الاتساع يؤدي بالفرد إلى التراجع إلى المرتبة الثانية، ومعه كل إشارة إلى الحرية.
وإذن، فالأصح أن يقال إن ما يحد من الحتمية هو تعقيد الواقعة، وبالتالي كثرة السلاسل السببية التي تقابل كل واحدة منها وجها لهذه الواقعة، فالحرب مثلا يمكن أن تعزى لأسباب متعددة. ولكن، كيف يتسنى لنا أن نميز هذه العلاقات السببية المختلفة إن لم يكن ذلك بإقحام ضرب من التفرقة يرتاب المرء دائما في أنها اعتباطية، فضلا عن أنها تفصم وحدة الحادثة؟
ومن جهة أخرى، فكيف نقيس أهمية كل من هذه الأسباب؟ هنا تظهر صعوبة جديدة، وهي أن الواقعة التاريخية لا يمكن تكرارها. ومن ثم لا تخضع للتجريب. وإنما نتمكن من تقدير الأسباب العميقة والأسباب العرضية عن طريق تجربة عقلية. وكما قال «ماكس فيبير». إذا أردنا أن نقدر أهمية إحدى المقدمات، فعلينا أن نتصورها بالذهن، مختلفة عما هي عليه أو غير موجودة. فما الذي كان يحدث لو كان جروشي
Grouchi
قد حل محل بلوشر
Bluecher
Bog aan la aqoon