morales
حيث يقصد بالأخلاقي، العقلي في مقابل المادي. ولكن التسمية المفضلة اليوم هي «العلوم الإنسانية» وذلك حتى يتجنب الباحث الجزم مقدما بالتمييز ما بين الفعلي والمادي. كما كان من الممكن أن يطلق عليها اسم «الأنثروبولوجيا» (علم الإنسان)، لولا أن هذا اللفظ قد استحوذ عليه مبحث خاص يهتم، قبل كل شيء، بمعالجة مشكلة التركيب المادي للإنسان وبمشكلة الأجناس بوجه خاص، وإن كانت هذه المشكلة الأخيرة لم تعد من المشكلات التي لها أهميتها في الوقت الحاضر. •••
والعلوم الإنسانية على كثرتها - التي سنتحدث عنها فيما بعد - تنقسم عادة إلى ثلاثة أقسام كبرى: فعلم النفس يدرس الإنسان من حيث هو فرد، ويبحث في أفعاله وأفكاره وعواطفه، وما يكونه وما يفعله. وفي وسعنا أن نضم إليه علم الحياة البشري، وهو العلم الذي ظهرت فكرته منذ وقت قريب، للدلالة على السلوك الفسيولوجي والمرضي للإنسان ليس مماثلا من كل وجه لسلوك الأحياء الأخرى. والتاريخ يدرس ماضي البشر، والحوادث التي تتحكم فيه، والمنطق الذي يتكشف عنه خلال تطوره (إن كان في هذا التطور منطق). ووجهة نظر التاريخ مختلفة عنها في علم النفس، فالتاريخ في بحثه للفرد لا يهدف إلى معرفته من حيث هو فرد؛ بل يرمي إلى فهمه بالنسبة إلى موقف تاريخي معين، وفهم هذا الموقف ذاته من خلاله. أما علم الاجتماع فيلتزم معالجة الأمور من خلال هذا المنظور الجديد، فهو غالبا ما يدع العنصر الفردي جانبا لكي يدرس العنصر الاجتماعي، أعني أوجه النشاط والأفعال البشرية من حيث أن لها، بطبيعتها، أو في جملتها، طابعا غير فردي. وبالإضافة إلى هذا كله ، سنرى أن كلا من هذه العلوم ينقسم إلى فروع جزئية يتطلب كل منها موضوعا ومنهجا خاصا به. (2) السبب في كثرة هذه العلوم
إن كثرة العلوم الإنسانية تقتضي منا، منذ الآن، تعليقا. فلم هذه الكثرة؟ يرجع ذلك، أولا، إلى أن من طبيعة كل علم، ولا سيما علوم الطبيعة، أن يتخصص ويستقل عن غيره بقدر ما يحرز من تقدم، فمن الممكن أن يدرس الموضوع الواحد من زوايا مختلفة كل على حدة، تفي بمقتضيات وجهات نظر مختلفة، وتعبر في ذاتها عن حاجات مختلفة أو عن أساليب عملية متباينة: فكما أن الحجر يمكن أن يدرس من وجهة النظر الجيولوجية، أو الطبيعة الكيميائية، كذلك يمكن دراسة الإنسان باعتباره كائنا عضويا، أو شخصية أو محركا للتاريخ، أو فردا في مجتمع.
غير أن هذه الكثرة من الفروع لا تفي بمقتضيات كثرة وجهات النظر التي يتخذها الإنسان فحسب؛ بل ترتبط أيضا بطبيعة الإنسان، الذي لا نستطيع أن نعده شيئا كبقية الأشياء، إذ لديه القدرة على التذكر والتفكير، وهو يطالب لنفسه بمكانة الكائن الحر الذي يتحكم في نفسه، بدلا من أن تتحكم فيه عناصر خارجة عنه. وليس معنى ذلك أننا لا نستطيع النظر إلى الإنسان على أنه كائن يسيطر على حتمية العالم الخارجي، ولكن هذه الحتمية غاية في التعقيد، وتتطلب دراسة متعددة النواحي، فالإنسان يبدو كائنا لا يفهم، أو على الأقل كائنا لا تستوعب كل جوانبه. والفعل البشري الواحد يبدو بدلالات مختلفة؛ فتحول «بوليوكت
»
1
إلى الدين المسيحي قد يكون مظهرا من مظاهر مزاج متحمس للعبيد، أو عملا سياسيا، أو ناتجا عن تدخل العناية الإلهية. وقد يبحث العالم عن تفسير له في التركيب المادي لبولوكيت نفسه، أو في شخصيته، كحبه للمغامرة مثلا، أو في نوع من سوء التصرف بإزاء «بولين»، أو في الظروف التاريخية المتشابكة أو كنتيجة لتربية معينة؛ بل إن ظاهرة اجتماعية مثل الحرب، قد تفسر من حيث طبيعة السكان أو الاقتصاد، أو علم النفس، أو الحضارة، وكل هذه التفسيرات مشروعة، وكلها تبرر ظهور علوم متباينة لكن ينبغي من جانب آخر أن يكون كل علم من هذه العلوم واعيا بحدوده، وعلى استعداد للتعاون مع العلوم الأخرى. أما نزوع علم خاص إلى السيطرة والتحكم، كما يتمثل فيما سمي أحيانا بالمذهب الاجتماعي أو المذهب النفسي، فتلك ظاهرة ترجع إلى عهد البطولة الذي كان كل علم يسعى فيه إلى استبعاد بقية العلوم، أو يدعي القدرة على ضمها تحت لوائه، وهذا كله لكي يكفل لنفسه مكانا بينا لبقية العلوم.
ولكن، أليس في وسعنا أن نمضي إلى أبعد من ذلك، أعني أنه إذا كانت هناك تفسيرات متعددة للظواهر البشرية، دون أن يكون أحدها صحيحا بالأسبقية، وإذا لم يكن من الممكن بحث الإنسان في ظل حتمية بسيطة واحدة، فهلا يحق لنا أن نقول إنه ليس هناك علم خاص للإنسان؟ (3) إمكان قيام العلوم الإنسانية
ذهب البعض إلى حد إنكار إمكان قيام العلوم الإنسانية: فهل يمكن أن يكون الإنسان موضوعا للعلم، إذا كان في الوقت نفسه صانع العلم؟ وهل نستطيع أن نرجع الإنسان إلى مجرد شيء من الأشياء، دون أن نبخسه حقه تماما؟ إن المعرفة الصحيحة للإنسان قد تنتمي إلى مجال الأدب أو التفكير الفلسفي، وقد تتبدى في الحياة العملية، وفي الأساليب الفنية للتربية أو الأخلاق، وفي الحكمة السياسية. والفلسفة هي التي تنظم هذه المعرفة قبل الفلسفية، دون أن يكون لدى العلم ما يضيفه إليها.
Bog aan la aqoon