بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمات:
ترجمة مؤلف "المقدمة الحضرمية" ١:
هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر بافضل الحضرمي. قال في "النور السافر": ولد سنة خمسين وثمانمائة "٨٥٠هـ" وارتحل لطلب العلم إلى عدن وغيرها، وأخذ عن الإمامين محمد بن أحمد بافضل، وعبد الله بن أحمد مخرمة، ولازم الثاني، وتخرج به، وانتفع به كثيرًا، وأخذ أيضًا عن البرهان بن ظهيرة، وتميز واشتهر ذكره، وبعد صيته، وأثنى عليه الأئمة من مشايخه وغيرهم، وكان حريًّا بذلك.
وكان إمامًا، عالمًا، عاملًا، عابدًا، ناسكًا، ورعًا، زاهدًا، شريف النفس، كريمًا سخيًّا مفضالا، كثير الصدقة، حسن الطريقة، لين الجانب، صبورًا على تعليم العلم، متواضعًا، حسن الخلق، لطيف الطباع، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، له حرمة وافرة عند الملوك وغيرهم، حافظًا أوقاته لا يرى إلا في تدريس علم أو مطالعة كتاب أو اشتغال بعبادة وذكر.
ولي التدريس بجامع الشحر وانتصب فيها للاشتغال والفتوى، وصار عمدة القطر، وانتهت إليه رئاسة الفقه في جميع تلك النواحي، ولم يزل على ذلك حتى توفي يوم الأحد خامس شهر رمضان سنة ٩١٨هـ٢، ودفن في طرف بلد الشحر من جهة الشمال في موضع موات، وهو أول من دفن هناك، ودفن الناس إلى جانبه، حتى صارت مقبرة كبيرة انتهى.
له مؤلفات كثيرة، نذكر منها:
المقدمة الحضرمية؛ وهو الكتاب الذي بين أيدينا
- الحجج القواطع في الواصل والقاطع.
- الفتاوى.
- رسالة في علم الفلك.
- لوامع الأنوار في فضل القائم بالأسحار.
_________
١ انظر ترجمته في شذرات الذهب "٨/ ١٢٦، طبعة دار الكتب العلمية"، والنور السافر "ص٩٨"، والأعلام للزركلي "٤/ ٩٧"، وهدية العارفين "١/ ٤٧٠".
٢ في هدية العارفين "١/ ٤٧٠"، أنه توفي سنة ١٠٣٣هـ؛ وهو خطأ.
1 / 3
ترجمة ابن حجر الهيتمي مؤلف "المنهاج القويم" ١:
قال ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب في وفيات سنة ٩٧٣هـ:
وفيها: شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن محمد بن علي ابن حجر -نسبة على ما قيل إلى جد من أجداده كان ملازمًا للصمت فشبه بالحجر- الهيتمي السعدي الأنصاري الشافعي الإمام العلامة البحر الزاخر.
ولد في رجب سنة تسع وتسعمائة في محلة أبي الهيتم من إقليم الغربية بمصر المنسوب إليها، ومات أبوه وهو صغير، فكفله الإمامان الكاملان شمس الدين بن أبي الحمائل، وشمس الدين الشناوي، ثم إن الشمس الشناوي نقله من محلة أبي الهيتم إلى مقام سيدي أحمد البدوي، فقرأ هناك في مبادئ العلوم، ثم نقله في سنة أربع وعشرين إلى جامع الأزهر، فأخذ عن علماء مصر، وكان قد حفظ القرآن العظيم في صغره.
وممن أخذ عنه شيخ الإسلام القاضي زكريا، والشيخ عبد الحق السنباطي، والشمس المشهدي، والشمس السمهودي، والأمين الغمري، والشهاب الرملي، والطبلاوي، وأبو الحسن البكري، والشمس اللقاني الضيروطي، والشهاب ابن النجار الحنبلي، والشهاب ابن الصائغ في آخرين.
وأذن له بالإفتاء والتدريس وعمره دون العشرين، وبرع في علوم كثيرة من التفسير، والحديث، والكلام، والفقه، أصولا وفروعًا، والفرائض، والحساب، والنحو، والصرف، والمعاني، والبيان، والمنطق، والتصوف.
ومن محفوظاته "المنهاج الفرعي". ومقروءاته لا يمكن حصرها، وأما إجازات المشايخ له فكثيرة جدًّا استوعبها في "معجم مشايخه". وقدم إلى مكة في آخر سنة ثلاث وثلاثين، فحج وجاور بها، ثم عاد إلى مصر، ثم حج بعياله في آخر سنة سبع وثلاثين، ثم حج سنة أربعين، وجاور من ذلك الوقت بمكة، وأقام بها يدرس ويفتي ويؤلف.
_________
١ انظر ترجمته في شذرات الذهب "٨/ ٤٣٥، ٤٣٦، طبعة دار الكتب العلمية" ومعجم المؤلفين "١/ ٢٩٣، ٢٩٤"، والنور السافر للعيدروسي "ص٢٨٧- ٢٩٨"، والبدر الطالع للشوكاني "١/ ١٠٩"، وغيرها كثير.
1 / 4
ومن مؤلفاته "شرح المشكاة" و"شرح المنهاج" وشرحان على "الإرشاد" و"شرح الهمزية البوصيرية" و"شرح الأربعين النواوية" و"الصواعق المحرقة" و"كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع" و"الزواجر عن اقتراف الكبائر" و"نصيحة الملوك" وشرح مختصر الفقيه عبد الله بافضل الحاج المسمى "المنهج القويم في مسائل التعليم" و"الأحكام في قواطع الإسلام" و"شرح العباب" المسمى بـ"الإيعاب" و"تحذير الثقات عن أكل الكفتة والقات"، وشرح قطعة صالحة من "ألفية ابن مالك" و"شرح مختصر أبي الحسن البكري" في الفقه، و"شرح مختصر الروض" و"مناقب أبي حنيفة" وغير ذلك.
وأخذ عنه من لا يحصى كثرة، وازدحم الناس على الأخذ عنه، وافتخروا بالانتساب إليه، وممن أخذ عنه مشافهة شيخ مشايخنا البرهان بن الأحدب.
وبالجملة فقد كان شيخ الإسلام خاتمة العلماء الأعلام، بحرًا لا تكدره الدلاء، إمام الحرمين كما أجمع عليه الملأ، كوكبًا سيارًا في منهاج سماء الساري، يهتدي به المهتدون تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [النحل: ١٦]، واحد العصر، وثاني القطر، وثالث الشمس والبدر، أقسمت المشكلات ألا تتضح إلا لديه وأكدت المعضلات أليتها أن تنجلي إلا عليه، لا سيما وفي الحجاز عليها قد حجر، ولا عجب فإنه المسمى بابن حجر، وتوفي رحمه الله تعالى بمكة في رجب، ودفن بالمعلاة في تربة الطبريين، وانتهى.
وترجم له عمر رضا كحالة في معجم المؤلفين، فقال: أحمد بن محمد بن محمد بن علي بن محمد بن علي ابن حجر الهيتمي، السعدي الأنصاري الشافعي "شهاب الدين، أبو العباس" فقيه مشارك في أنواع من العلوم، ولد في محلة أبي الهيتم من إقليم الغربية بمصر في رجب سنة ٩٠٩هـ وتوفي بمكة سنة ٩٧٣هـ١.
من مؤلفاته الكثيرة: تحفة المحتاج لشرح المنهاج للنووي في فروع الفقه الشافعي بمجلدين، مبلغ الأرب في فضل العرب، الصواعق المحرقة لإخوان الابتداع والضلال والزندقة، معدن اليواقيت الملتمعة في مناقب الأئمة الأربعة، تحرير المقال في آداب وأحكام وفوائد يحتاج إليها مؤدبو الأطفال، المنح المكية في شرح الهمزية للبوصيري، كنه أمراد في شرح بانت سعاد، الإعلام بقواطع الإسلام، الفتاوى الهيتمية "الفتاوى الحديثية"، شرح تحفة المحتاج، الإمداد في شرح الإرشاد، أشرف الوسائل إلى فهم
_________
١ وفي النور السافر: ٩٧٤هـ.
1 / 5
الشمائل، القول المختصر في علامات المهدي المنتظر، المطالب في صلة الأقارب، تحفة المزوار إلى قبر المختار "الجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم المكرم"، الفتح المبين في شرح الأربعين للنووي، كنز الناظر في مختصر الزواجر، خلافة الأئمة الأربعة "تاريخ الخلفاء الراشدين"، الإيضاح والبيان لما جاء في ليلتي الرغائب والنصف من شعبان، الزواجر، النعمة الكبرى على العالم بدولة سيد بني آدم، الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود.
1 / 6
خطبة الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي فرض علينا تعلم شرائع الإسلام، ومعرفة صحيح المعاملة وفاسدها
ــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله ﷺ وعلى آله وأصحابه الذين خصصتهم بمعرفتك وأيدتهم ببرهانك.
وبعد؛ فقد سألني بعض الصلحاء أن أضع شرحًا لطيفًا على مقدمة الإمام المحقق الفقيه عبد الله بن عبد الرحمن بافضل الحضرمي نفعنا الله بعلومه وبركته فأجبته إلى ذلك ملتمسًا منه ومن غيره أن يمدني بدعواته الصالحة، وسائلًا من فضل مولانا أن يعم النفع به، وأن يبلغني كل مأمول بسببه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأقوى سبب للفوز بشهوده في جنات النعيم آمين.
قال المؤلف ﵀: "بسم الله" أي أبتدئ أو أفتتح أو أؤلف متلبسًا أو مستعينًا أو متبركًا باسم الله إذ لا اعتداد بما لم يصدر باسمه تعالى، والاسم مشتق من السمو وهو العلو، والله علم على الذات الواجب الوجود لذاته المستحق لجميع الكمالات وهو عربي مشتق من "أَلِهَ" إذا تحير لتحير الخلق في كنه ذاته تعالى وتقدس وهو الاسم الأعظم وعدم الاستجابة لأكثر الناس مع الدعاء به لعدم استجماعهم لشرائط الدعاء، ولم يسم به غير الله قط، "الرحمن" هو صفة في الأصل بمعنى كثير الرحمة جدًّا ثم غلب على البالغ في الرحمة والإنعام بحيث لم يسم به غيره تعالى، وتسمية أهل اليمامة مسيلمة١ تعنت في الكفر، "الرحيم" أي ذي الرحمة الكثيرة فالرحمن أبلغ منه، وأتى به إشارة إلى أن ما دل عليه من دقائق الرحمة وإن ذكر بعد ما دل على جلائلها الذي هو المقصود الأعظم مقصود أيضًا لئلا يتوهم أنه غير ملتفت إليه فلا يسأل ولا يعطي، وكلاهما مشتق من الرحمة وهي عطف وميل روحاني غايته الإنعام، فهي لاستحالتها في حقه تعالى مجاز إما عن نفس الإنعام فتكون صفة فعل، أو عن إرادته فتكون صفة ذات، وكذا سائر أسمائه تعالى المستحيل معناها في حقه المراد بها غايتها.
"الحمد" أي كل ثناء بجميل سواء كان من مقابلة نعمة أم لا ثابت ومملوك ومستحق، "لله" وأردف التسمية بالحمد اقتداء بأسلوب الكتاب العزيز وعملا بما صح من قوله ﷺ: "كل
_________
١ سمى أهل اليمامة مسيلمة الكذاب بالرحمان، وكتب "الرحمان" بالألف بعد الميم تمييزًا عن "الرحمن" بالألف الخنجرية فوق الميم؛ وهو من أسماء الله تعالى.
1 / 7
لتعريف الحلال والحرام، وجعل مآل من علم ذلك وعمل به الخلود في دار السلام،
ــ
أمر ذي بال": أي حال يهتم به "لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم" ١ وفي رواية: "أقطع" ٢ وفي أخرى "أبتر" ٣: أي قليل البركة، وفي رواية: "ببسم الله الرحمن الرحيم" ٤، وفي أخرى: "بذكر الله" ٥ وبها يتبين أن المراد البداءة بأي ذكر كان، وقرن الحمد بالجلالة إشارة إلى أنه ﷾ يستحقه لذاته لا بواسطة شيء آخر وآثر كغيره الحمد على الشكر؛ لأن الحمد يعم الفضائل وهي الصفات التي لا يتعدى آثرها للغير والفواضل وهي الصفات المتعدية والشكر يختص بالأخيرة، "الذي فرض" أي أوجب "علينا" معشر الأمة إيجابًا عينيًّا٦ لا رخصة في تركه "تعلم" ما نحتاج إليه لمباشرتنا لأسبابه، فالعبادات يجب على كل مكلف تعلم ما يكثر وقوعه من شروطها وأركانها فوزًا في الفوري وموسعًا في الموسع كالحج والمعاملة والمناكحة وغيرها، لا يجب تعلم ذلك فيه إلا على من أراد التلبس به، فمن أراد أن يتزوج مثلا امرأة ثانية لا يحل له حتى يتعلم غالب أحكام القسم ونحوه وعلى هذا فقس، أما الإيجاب على الكفاية بمعنى أنه إذا قام به البعض سقط عن الباقين فيعم سائر "شرائع الإسلام" وما يتوقف معرفتها أو كمالها عليه كالنحو وغيره، والشرائع جمع شريعة وهي لغة مشرعة الماء٧ وشرعًا ما شرعه الله لعباده من الأحكام، فالإضافة بيانية أو بمعنى اللام وهو أولى إذ الإسلام هو الانقياد والاستسلام وتعرف الشريعة أيضًا بأنها وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما يصلح معاشهم ومعادهم، "و" تعلم "معرفة" جميع أحكام "صحيح المعاملة" والمناكحة والجناية وما يتعلق بكل "وفاسدها" وإنما وجب على الكافة ذلك عينًا أو كفاية "لتعريف" أي معرفة "الحلال" الشامل للواجب والمندوب والمباح والمكروه وخلاف الأولى "والحرام" حتى يفعل الحلال ويجتنب الحرام، وفي نسخة "من الحرام" أي لتمييز الحلال الطيب من الحرام الخبيث، "وجعل مآل" أي عاقبة "من علم ذلك وعمل به الخلود في دار السلام" على أسرّ حال وأهنئه من غير كدر يصيبه في قبره وما بعده، بخلاف من لم يعلم ذلك لتركه الواجب أو علمه ولم يعمل به فإن إسلامه وإن كان متكفلا له بالخلود أيضًا في دار
_________
١ ذكره بهذه الرواية النووي في "الأذكار" "ص ٢٤٩" ونسبه إلى أبي داود وابن ماجه.
٢ أخرجه بهذه الرواية ابن ماجه في كتاب النكاح، باب ١٩، حديث رقم١٨٩٤ عن أبي هريرة.
٣ ذكره بهذه الرواية المتقي الهندي في كنز العمال "رقم٢٥١١" والزبيدي في إتحاف السادة المتقين "٣/ ٤٦٦".
٤ ذكره بهذه الرواية السيوطي في الدر المنثور "١/ ١٠" والنووي في الأذكار "ص١٠٣" وروى معها الألفاظ الأخرى وقال: "روينا هذه الألفاظ كلها في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي".
٥ لم أجده بهذا اللفظ.
٦ أي واجبًا على كل مسلم مكلف بعينه.
٧ قال في اللسان "٨/ ١٧٥ -مادة شرع": "والشريعة والشراع والمشرعة: المواضع التي ينحدر إلى الماء منها، قال الليث: وبها سمي ما شرع الله للعباد شريعة من الصوم والصلاة والحد والنكاح وغيره".
1 / 8
وجعل مصير من خالفه وعصاه دار الانتقام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المان بالنعم الجسام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام صلى الله
ــ
السلام وهي الجنة إلا أنه قد يكون بعد مزيد عذاب ومؤاخذة: "وجعل مصير" أي رجوع أو قرار "من خالفه وعصاه" عطف تفسير "دار الانتقام" وهي النار دائمًا إن كانت مخالفته في الكفر وإلا فمعنى كونها مصيره أن يستحق ذلك إن لم يعف عنه.
"وأشهد" أي أعلم وأبين "أن لا إله" أي لا معبود بحق في الوجود "إلا الله وحده لا شريك له" في ذاته ولا في وصف من صفاته، "المان" أي المتفضل على عباده المؤمنين من المن والمنة النعمة الثقيلة ولا يحمد إلا في حقه تعالى لأنه المتفضل بما يملكه حقيقة وغيره لا ملك له معه فلم يناسبه المن به، "بالنعم" جمع وهي اللذة التي تحمد عاقبتها، ومن ثم لم يكن لله نعمة على كافر وإنما ملاذه استدراج "الجسام" أي العظام. "وأشهد أن" سيدنا "محمدًا" وهو علم موضوع لمن كثرت خصاله الحميدة، وسمي به نبينا بإلهام من الله لجده١ بذلك ليطابق اسمه صفته. "عبده" قدمه لأنه أكمل أوصافه، ولذا خص بالذكر في أشرف مقامات كماله ﷺ نحو: ﴿نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِه﴾ [الفرقان: ١]، ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: ١٠]، ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ﴾ [الجن: ١٩]، لاسيما ليلة المعراج المتكفلة بغايات الكمالات المفاضة عليه ﷺ في تلك الليلة وما بعدها، و"رسوله" هو إنسان ذكر حر أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه وإن لم يكن له كتاب ولا نسخ لشرع من قبله وآثره على النبي لأنه أفضل، لكن قال ابن عبد السلام: نبوة الرسول أفضل من رسالته لتعلقها بالله تعالى وتعلق الرسالة بالخلق وفيه نظر بينته في غير هذا الكتاب، "المبعوث رحمة للأنام" أي الخلق، أما كونه رحمة للخق فدل عليه الكتاب٢ والسنة ٣ والإجماع، ومعنى كونه رحمة للكافر أنه لا يعاجل بالعقوبة والأخذ بغتة كما وقع لأمم من قبله، وأما كونه مبعوثًا للخلق بناء على تعلق قوله للأنام بقوله المبعوث فهو ما ذكره بعض المحققين لخبر صحيح٤ يدل له وهو اللائق بعلو مقامه ﷺ، وقد بينت في بعض الفتاوى أن الأصح أنه ﷺ مرسل للملائكة بما فيه مقنع
_________
١ عبد المطلب بن هاشم.
٢ في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِين﴾ [الأنبياء: ١٠٧] .
٣ منها ما رواه مسلم في كتاب الفضائل "حديث ١٢٥" عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه: أن رسول الله ﷺ قال: "إن لي أسماء: أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد" وقد سماه الله رءوفًا رحيمًا، وروى أيضًا "حديث رقم ١٢٦" عن أبي موسى الأشعري قال: كان رسول الله ﷺ يسمي لنا نفسه أسماء، فقال: "أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة".
٤ وهو قوله ﵊: " ... وبعثت إلى الناس عامة". رواه البخاري في التيمم "باب ١" والصلاة "باب ٥٦"، والنسائي في الغسل "باب ٢٦"، والدارمي في الصلاة "باب ١١١".
1 / 9
وسلم عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام.
وبعد؛ فهذا مختصر لا بد لكل مسلم من معرفته أو معرفة مثله فيتعين الاهتمام به وإشاعته، فأسأل الله الكريم أن ينفع به وأن يجعل جمعي له خالصًا لوجهه الكريم.
ــ
لمن تدبره "صلى الله وسلم عليه" من الصلاة وهي الرحمة المقرونة بتعظيم ويختص لفظها بالأنبياء والملائكة فلا يقال لغيرهم إلا تبعًا. و"على آله" هم أقاربه المؤمنون من بني هاشم والمطلب، وقد يراد بهم في مقام الصلاة كل مؤمن لخبر ضعيف فيه، "وصحبه" اسم جمع لصاحب وهو من اجتمع بالنبي ﷺ ولو لحظة وإن لم يره ولم يرو عنه مؤمنًا ومات على الإيمان "البررة" جمع بار وهو من غلبت عليه أعمال البر "الكرام" جمع كريم والمراد به هنا من خرج عن نفسه وماله لله تعالى وكل الصحابة كذلك رضوان الله عليهم أجمعين.
و"بعد" كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر، وكان ﷺ وأصحابه يأتون بأصلها وهو "أما بعد" في خطبهم لذلك، ولكون أصلها ذلك لزم الفاء في حيزها والأصل مهما يكن من شيء بعد الحمدلة الصلاة على النبي ﷺ "فهذا" المؤلف الحاضر في الذهن "مختصر" قل لفظه وكثر معناه "لا بد" أي لا غنى "لكل مسلم" يحتاج إلى معرفة ما هو مضطر إليه من العبادات محتاج إليه من المعاملات "من" معرفته أو من "معرفة مثله" ليكون على بصيرة من أمره وبينة من ربه وإلا ركب متن عمياء وخبط خبط عشواء "فيتعين" حينئذ عليك أيها الراغب في الخير "الاهتمام به" أي بهذا المختصر أو مثله حفظًا وفهمًا وكتابة، "و" عليك أيضًا "إشاعته" في البلدان ليكون لك نصيب من الأجر إذ الدال على هدى كفاعله١، وليس المطلوب منك الإيصال للهدى فإن الهدى هدى الله وحده وحينئذ "فأنا أسأل الله الكريم أن ينفع به" فإنه لا يخيب من اعتمد عليه ولجأ في مهماته إليه "وأن يجعل جمعي له" من متفرقات الكتب "خالصًا لوجهه" أي ذاته "الكريم" أي المتفضل على من شاء بما شاء إنه جواد حليم رءوف رحيم.
_________
١ ورد في حديث صحيح: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله". رواه مسلم في الإمارة "حديث ١٣٣"، وأبو داود في الأدب "باب ١١٥"، والترمذي في العلم "باب ١٤"، وأحمد في المسند ٤/ ١٢٠، ٥/ ٢٧٤، ٣٥٧.
1 / 10
باب أحكام الطهارة
مدخل
...
"باب أحكام الطهارة":
لا يصح رفع الحديث ولا إزالة النجس إلا بما يسمى ماء، فإن تغير طعمه أو لونه أو ريحه تغيرًا فاحشًا بحيث لا يسمى ماء مطلقًا بمخالط طاهر يستغني الماء عنه لم تصح الطهارة
ــ
باب أحكام الطهارة:
وهي لغة الخلوص من الدنس الحسي والمعنوي كالعيب١ وشرعًا ما توقف على حصوله إباحة كالغسلة الأولى أو ثواب مجرد كالغسلة الثانية والثالثة والوضوء المجدد والغسل المسنونين.
"لا يصح" ولا يحل "رفع الحدث" الأصغر، وهو ما أوجب الوضوء والأكبر وهو ما أوجب الغسل "ولا إزالة النجس" المخفف وهو بول الصبي الآتي ذكره والمغلظ وهو نجاسة نحو الكلب والمتوسط وهو ما عداهما من سائر النجاسات الآتية ولا فعل طهارة سلس ولا طهارة مسنونة "إلا بما" علم أو ظن كونه ماء مطلقًا وهو ما "يسمى ماء" من غير قيد لازم بالنسبة للعالم بحاله كماء البحر وما ينعقد منه الملح وينحل إليه نحو البرد الذي استهلك فيه الخليط والمترشح من بخار الماء الطهور المغلي والمتغير بما لا غنى عنه أو بمجاوره لأنه يسمى ماء لغة وعرفًا وما بباطن دود الماء وهو المسمى بالزلال٢ لأنه ليس بحيوان وما جمع من ندى وليس نفس دابة في البحر، ودليل الحصر المذكور في الحدث آية التيمم٣ والإجماع، وفي الخبث ما صح من أمره ﷺ بغسله وفي غيرهما القياس عليهما، وخرج بالمطلق المذكور المائع كالخل والجامد كالتراب في التيمم والنجاسة المغلظة والحجر في الاستنجاء وأدوية الدباغ ونحو ماء الزعفران مما قيد بلازم فلا يرفع حدثًا ولا يزيل نجسًا ولا يستعمل في طهر غيرهما "فإن تغير" حسًّا "طعمه" وحده "أو لونه" وحده "أو ريحه" وحده "تغيرًا فاحشًا" بأن سلب إطلاق اسم الماء عنه حتى صار "بحيث لا يسمى ماء مطلقًا" وإنما يسمى ماء مقيدًا كماء الورد أو استجد له اسم آخر كالمرقة مثلًا وكان ذلك التغير "بمخالط" مخالف للماء في صفاته أو واحدة منها وهو ما لا يمكن فصله "طاهر يستغني الماء عنه" بأن لا يشق صونه عنه ككافور رخو وقطران يختلطان بالماء وثمر وإن كان شجره نابتًا في الماء "لم تصح الطهارة به" لأنه ليس عاريًا عن القيود والإضافات فلا
_________
١ انظر المعاني المتعددة للفظ "طهر" في لسان العرب "٤/ ٥٠٤-٥٠٧" مادة "طهر".
٢ في اللسان "مادة زلل": وزل الماء في حلقه يزل زلولا: ذهب، وماء زلال وزليل: سريع النزول والمر في الحلق، وماء زلال: بارد، وقيل: ماء زلال وزلازل: عذب، وقيل صاف خالص، وقيل: الزلال الصافي من كل شيء.
٣ وهي الآية ٦ من سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...﴾ الآية.
1 / 11
به، والتغير التقديري كالتغير الحسي، فلو وقع فيه ماء ورد لا رائحة له قدر مخالفًا له بأوسط الصفات، ولا يضر تغير يسير لا يمنع اسم الماء، ولا يضر تغير بمكث وتراب وطحلب وما في مقره وممره ولا بمجاور كعود ودهن ولا بملح مائي ولا بورق تناثر من الشجر.
ــ
يلحق بمورد النص العري١عنها. "والتغير التقديري كالتغير الحسي، فلو وقع فيه" أي الماء ما يوافقه في صفاته ومنه "ماء ورد لا رائحة له" سواء أوقع في ماء كثير أم قليل والماء المستعمل لكن إن وقع في ماء قليل لأن المستعمل إذا كثر طهر فأولى إذا وقع في الكثير "قدر مخالفًا له" للماء "بأوسط الصفات" كطعم الرمان ولون العصير وريح اللاذن٢ فإن غير بفرضه في صفة سلب الطهورية، وإن كان عند فرض المخالفة في غير تلك الصفة لا يغير وذلك لأن لموافقته لا يغيره فاعتبر بغيره كالحكمية. "ولا يضر تغير يسير" وهو ما "لا يمنع اسم الماء" وإن كان بمخالط يستغنى لأنه ﷺ توضأ من قصعة فيها أثر عجين٣، "ولا يضر تغير بمكث" لتعذر الاحتراز عنه "وتراب" طهور وإن قلنا إنه مخالط لأنه يوافق الماء في الطهورية بخلاف النجس والمستعمل "وطحلب" لم يطرح ولو متفتتًا لعسر الاحتراز عنه وهو نبت أخضر يعلو الماء فإن طرح ضر إن كان متفتتًا وإلا فلا "وما في مقره وممره" من نحو نورة٤ وزرنيخ٥ ولو مطبوخين وطين لم يكثر تغير الماء به بحيث صار لا يجري بطبعه لذلك "ولا بمجاور" وهو ما يمكن فصله "كعود ودهن" ولو مطيبين ومنه البخور وإن كثر وظهر في الريح وغيره لأن الحاصل بذلك مجرد تروح فهو كما لو تغير بجيفة على الشط، ومنه أيضًا ما أغلى فيه نحو بر وتمر بحيث لم يعلم انفصال عين مخالطة فيه بأن لم يصل إلى حد بحيث يحدث له اسم كالمرقة. "ولا بملح مائي" لانعقاده من عين الماء كالثلج بخلاف الملح الجبلي فيضر التغير به ما لم يكن بمقر الماء أو ممره، وكالملح المائي متغير بخليط لا يؤثر فلا يضر صبه على غير متغير وإن غيره كثيرًا، لأنه طهور "ولا بورق تناثر" بنفسه "من الشجر" ولو ربيعًا بخلاف المطروح للاستغناء عنه ولا يضر تغييره بالثمر إن تناثر بنفسه، ولو شك على التغير يسير أو كثير فكاليسير، أو هل زاد التغير للكثير لم يطهر للأصل فيهما، أو هل هو من مخالط أو غيره، أو هل المغير مخالط أو مجاور، لم يؤثر.
_________
١ العري: الخالي.
٢ اللاذن: جنس جنبة من الفصيلة اللاذنية، يستخرج منه صمغ راتنجي يعلك، ويستعمل عطرًا ودواءً، انظر المعجم الوسيط "ص٨٢٢".
٣ روى ابن ماجه في الطهارة، باب ٣٥ "حديث رقم ٣٧٨" عن أم هاني: "أن النبي ﷺ اغتسل وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين" ورواه أيضًا النسائي في الغسل باب ١١، والطهارة باب ١٤٨. وأحمد في المسند "٦/ ٣٤٢".
٤ النورة: حجر الكلس، وأخلاط من أملاح الكلسيوم والباريون تستعمل لإزالة الشعر "المعجم الوسيط: ص٩٦٢".
٥ الزرنيخ: عنصر شبيه بالفلزات له بريق الصلب ولونه، ومركباته سامة، يستخدم في الطب وفي قتل الحشرات "المعجم الوسيط: ص٣٩٣".
1 / 12
فصل: "في الماء المكروه"
Bog aan la aqoon
فصل: "في الماء المستعمل"
لا تصح الطهارة بالماء المستعمل القليل في رفع الحدث وإزالة النجس، فلو أدخل
ــ
فصل: في الماء المستعمل
"لا تصح الطهارة بالماء المستعمل" هو ما أزيل به مانع من رفع حدث ولو حدث صبي لا يميز بناء على اشتراط طهره لصحة الطواف به، وهو المعتمد وإزالة خبث ولو معفوًّا عنه، وكذا ما لا رفع كطهر دائم الحدث وحنفي لم ينو وغسل ميت وكتابية من حيض أو نفاس المتوضيء يده في الماء القليل بعد غسل وجهه غير ناو للاغتراف صار الماء الباقي مستعملا، والمستعمل في طهر مسنون كالغسلة الثانية والثالثة تصح الطهارة به.
1 / 13
فصل: "في الماء النجس ونحوه"
ينجس الماء القليل وغيره من المائعات بملاقاة النجاسة، ويستثنى من ذلك مسائل:
ــ
لتحل لحليلها المسلم، ونحو مجنونة غسلها حليلها لذلك وذلك لأنه حصل باستعماله زوال المنع من نحو الصلاة فانتقل المنع إليه، كما أن الغسالة لما أثرت في المحل تأثرت، وإنما يؤثر الاستعمال في الماء "القليل" بخلاف الكثير وهو القلتان١ فإنه لا يؤثر الاستعمال فيه بل لو جمع المستعمل حتى بلغ قلتين صار طهورًا، وإنما يؤثر في القليل إن انفصل عن العضو المستعمل فيه ولو حكمًا؛ لأن جاوز ماء يده منكبه أو رجله ركبته، نعم لا يضر الانفصال من بدن الجنب إلا إذا كان إلى محل لا يغلب فيه التقاذف كأن انفصل من الرأس إلى نحو القدم بخلافه إلى نحو الصدر، وعلم مما تقرر أنه لا تصح الطهارة بالمستعمل "في رفع الحدث و" لا "إزالة النجس" ولا في غيرهما "فإذا أدخل المتوضئ يده" اليمنى أو اليسرى أو جزأ منهما وإن قل "في الماء القليل بعد غسل وجهه" ثلاثًا سواء قصد التثليث أو أطلق أو واحدة إن قصد ترك التثليث "غير ناو للاغتراف" سواء قصد غسلهما عن الحدث أم أطلق "صار الماء الباقي مستعملا" وإن لم تنفصل يده عنه لانتقال المنع إليه ومع ذلك له أن يحركها فيه ثلاثًا وتحصل له سنة التثليث، وله أن يغسل بقية يده بما فيها وإن صار ما اغترف منه مستعملا، لأن ماءها لم ينفصل عنها وإدخال الجنب شيئًا من بدنه بعد النية بلا نية اغتراف منه يصير الماء مستعملا أيضًا، ولو انغمس في ماء قليل ثم بعد انغماسه نوى رفع الجنابة ارتفعت، وله إذا أحدث أو أجنب ثانيًا وهو في الماء أن يرفع به الحدث المتجدد؛ لأنه لم ينفصل عن الماء فصورة الاستعمال باقية، وكذا لو انغمس محدث في ماء قليل ثم نوى فإن حدث جميع أعضائه يرتفع على المعتمد، ولو كان ببدنه خبث بمحلين فمر الماء بأعلاهما ثم بأسفلهما طهرا معًا كما لو نزل من عضو جنب إلى محل عليه خبث فأزاله بلا تغير "والمستعمل في طهر مسنون كالغسلة الثانية والثالثة" والوضوء المجدد والغسل المسنون "تصح الطهارة به" لأنه لم ينتقل إليه مانع٢.
فصل: في الماء النجس ونحوه
"ينجس الماء القليل" وهو ما ينقص عن القلتين بأكثر من رطلين "وغيره من المائعات" وإن كثر وبلغ قلالا كثيرة "بملاقاة النجاسة" وإن لم يتغير لمفهوم ما صح من قوله ﷺ: "إذا بلغ
_________
١ انظر تخريج الحديث في الحاشية "١" من الصفحة التالية.
٢ أي مانع يمنع الصلاة.
1 / 14
ما لا يدركه الطرف، وميتة لا دم لها سائل إلا إن غيرت أو طرحت وفم هرة تنجس ثم غابت واحتمل ولوغها في ماء كثير، وكذلك الصبي إذا تنجس ثم غاب واحتملت طهارته،
ــ
الماء قلتين لم يحمل خبثًا" ١ إذ مفهومه أن ما دونهما يحمل الخبث: أي يتأثر به ولا يدفعه وفارق كثير المائع كثير الماء بأن حفظ كثير المائع لا يشق "ويستثنى من ذلك مسائل" لا ينجس فيها قليل الماء ولا كثير غيره وقليله بملاقاة النجاسة: منها "ما لا يدركه الطرف" أي البصر المعتدل فإنه لا يؤثر إن كان من غير مغلظ وقل عرفًا، ولم يغير ولو تغيرًا قليلا ولم يحصل بفعله لمشقة الاحتراز عنه، ولو كان بمواضع متفرقة ولو اجتمع لرؤى لم يعف عنه.
"و" منها "ميتة لا دم لها سائل" عند شق عضو منها في حياتها ويلحق شاذ الجنس بغالبه، وما شك في سيل دمه له حكم ما يتحقق عدم سيلان دمه ولا يجرح خلافًا للغزالي وذلك كزنبور وعقرب ووزغ٢ ونمل ونحل وبق وقراد٣ وقمل وبرغوث وخنفساء٤ وذباب لما صح من أمره ﷺ بغمسه فيما وقع فيه؛ لأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء٥ وغمسه يفضي لموته كثيرًا، فلو نجس لما أمر به وقيس به سائر ما لا يسيل دمه فيعفى عنها "إلا إن غيرت" ما وقعت فيه ولو تغيرًا قليلا، فلا عفو إذ لا مشقة، ولو زال تغير نحو المائع بها طهر على احتمال فيه "أو طرحت"، وهي ميتة وليس نشؤها منه، أما إذا طرحت وهي حية فإنها لا تنجس وإن ماتت، وكذا لو طرحت ميتة ونشؤها منه كما اقتضاه كلام الشيخين لكن خالفهما كثيرون ولعل المصنف تبعهم "و" منها "فم هرة تنجس ثم غاب واحتمل" ولو على بعد "ولوغها في ماء" جار أو راكد "كثير وكذلك الصبي إذا تنجس ثم غاب واحتملت طهارته" ومثلهما كل حيوان طاهر وإن لم يعم اختلاطه بالناس، فإذا عاد وولغ في ماء قليل أو مائع لم ينجسه وإن كان الأصل بقاء فمه على النجاسة لأن احتمال الطهر قوي أصل طهارة نحو الماء فلم يؤثر فيه أصل بقاء النجاسة إذ لا يلزم منها التنجيس مع اعتضاد أصل الطهر بظاهر فكان أقوى، ولا يضر في احتمال طهر فم الهرة كونها تلعقه بلسانها لأن الماء يرد على جوانب فمها فيطهره كوروده على
_________
١ رواه من حديث ابن عمر: أبو داود في الطهارة باب ٣٣، والترمذي في الطهارة باب٥٠، والنسائي في الطهارة باب٤٣، والمياه باب٣، وابن ماجه في الطهارة باب٧٥، والدارمي في الوضوء باب ٥٥، وأحمد في المسند"٢/ ٢٣، ٢٧، ١٠٧".
٢ الوزغ: سام أبرص، واحدة وزغة، وقد يقال: الوزغة الأنثى، والوزغ الذكر، انظر المعجم الوسيط "ص١٠٢٩".
٣ القراد: دويبة متطفلة ذات أرجل كثيرة تعيش على الدواب والطيور؛ الواحدة قرادة "المعجم الوسيط: ص٧٢٤".
٤ الخنفساء: حشرة سوداء أصغر من الجعل منتنة الريح "المعجم الوسيط: ص٢٥٩".
٥ روى البخاري في بدء الخلق، باب ١٧ "حديث رقم ٣٣٢٠"، والطب، باب ٥٨ "حديث رقم ٥٧٨٢" عن أبي هريرة قال: قال النبي ﷺ: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء".
1 / 15
والقليل من دخان النجاسة واليسير من الشعر النجس واليسير من غبار السرجين ولا ينجس غبار السرجين أعضاءه الرطبة، وإذا كان الماء قلتين فلا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا إن تغير طعمه أو لونه أو ريحه ولو تغيرًا يسيرًا، فإن زال تغيره بنفسه أو بماء طهر أو بمسك أو كدورة تراب فلا، والجاري كالراكد والقلتان خمسمائة رطلبالبغدادي تقريبًا فلا يضر
ــ
جوانب الإناء المتنجس، أما إذا لم يكن ذلك فإنه ينجس ما ولغ فيه. "و" منها "القليل من دخان النجاسة" والمتنجس ومثله البخار إن تصاعد بواسطة نار بخلاف المتصاعد لا بواسطة نار كبخار الكنيف١ والريح الخارجة من الشخص وإن كانت ثيابه رطبة فإنه طاهر. "و" منها "اليسير من الشعر النجس" لغير الراكب والكثير منه للراكب. "و" منها اليسير من غبار السرجين"٢ ونحوه "ولا ينجس غبار السرجين أعضاءه" ولا ثيابه "الرطبة" كما لا ينجس ما وقع فيه وذلك لمشقة الاحتراز عن جميع ذلك، ولذلك عفى أيضًا عن منفذ غير الآدمي إذا وقع في الماء مثلا سواء غلب وقوع فيه أم لا بشرط أن لا يطرأ عليه نجاسة أجنبية وعما يحمله نحو الذباب، وعما يبقى من قليل الدم على اللحم والعظم، وعن قليل بول وروث ما نشؤه من الماء والمرجع في القلة والكثرة العرف، وشرط العفو عن ذلك أن لا يغير وأن لا يكون من مغلظ وأن لا يحصل بقصد، قيل: ويعفى عن جرة٣ البعير وفم ما يجتر إذا التقم أخلاف أمه وفم صبي تنجس وإن لم يغب وذرق٤ الطيور في الماء وإن لم تكن من طيوره وبعر فأرة عم الابتلاء بها، وبعر شاة وقع في اللبن حال الحلب، وما يبقى في نحو الكرش إذا شقت تنقيته منه، وفي أكثر ذلك نظر ومخالفة لكلامهم.
"وإذا كان الماء قلتين فلا ينجس بوقوع النجاسة فيه إلا إن تغير طعمه" وحده "أو لونه" وحده "أو ريحه" وحده "ولو" كان "تغيرًا يسيرًا" لفحش النجاسة، ومن ثم فرض النجس المتصل به الموافق له في الصفات كبول منقطع الرائحة بأشدها كلون الحبر وريح المسك وطعم الخل، فإن كان بحيث يغيره أدنى تغير تنجس وخرج بوقوعها فيه تغيره برائحة جيفة على الشط فلا يضر "فإن زال تغيره" الحسي أو التقديري "بنفسه" لنحو طول مكث وهبوب ريح "أو بماء" ضم إليه ولو متنجسًا أو نبع فيه أو نقص منه وبقي قلتان "طهر" لانتفاء علة التنجيس وهي التغير، ولا يضر عوده بعد زواله حيث خلا عن نجس جامد، "أو" زال "بمسك أو كدورة تراب" أو نحوهما "فلا" يطهر لأن الظاهر استتار وصف النجاسة به لا زواله، وأفهم تعبيره بكدورة أن الماء لو صفا منها ولا تغير به طهر ولو وقع النجس في كثير متغير بما لا يضر قدر زواله، فإن فرض تغيره بهذه النجاسة تنجس وإلا فلا، "و" الماء "الجاري" وهو ما نقصان رطلين ويضر نقصان أكثر وقدرهما بالمساحة في المربع ذراع وربع طولًا وعرضًا وعمقًا وفي المدور كالبئر ذراعان عمقًا وذراع عرضًا، وتحرم الطهارة بالماء المسبل للشرب.
_________
١ الكنيف: المرحاض.
٢ السرجين: الزبل.
٣ الجرة لذوات الظلف والخف: كالمعدة للإنسان.
٤ ذرق الطيور: سلحها.
1 / 16
فصل: "في الاجتهاد"
إذا اشتبه عليه طاهر بمتنجس اجتهد وتطهر بما ظن طهارته بعلامة ولو أعمى وإذا
ــ
اندفع في صبب١ أو مستو من الأرض وإلا فهو راكد "كالراكد" فإن كان قلتين لم ينجس إلا بالتغير أو أقل تنجس بمجرد ملاقاة النجس غير المعفو عنه، نعم الجاري وإن تواصل حسًا فهو منفصل حكمًا إذ كل جرية طالبة لما أمامها هاربة مما وراءها فاعتبر تقوي أجزاء الجرية الواحدة بعضها ببعض وهي لما يرتفع وينخفض بين حافتي النهر من الماء عند تموجه تحقيقًا أو تقديرًا، أما الجريات فلا يتقوى بعضها ببعض، فلو وقعت فيه نجاسة وجرت بجرية فموضع الجرية المتنجس بها نجس، وللمارة بعدها حكم غسالة النجاسة وإن لم تجر بجريه فكل جرية تمر عليها دون قلتين تكون نجسة وإن امتد النهر فراسخ إلى أن يجتمع فيه قلتان في محل، وبه يلغز فيقال لنا ماء بلغ آلافًا من القلال وهو نجس مع أنه ليس بمتغير "والقلتان خمسمائة رطل بالبغدادي" وبالمصري أربعمائة وستة وأربعون رطلًا٢ "تقريبًا" لا تحديدًا "فلا يضر نقصان رطلين" فأقل "ويضر نقصان أكثر" من رطلين على ما في الروضة "وقدرهما بالمساحة في المربع٣ ذراع وربع" بذراع اليد المعتدلة "طولًا وعرضًا وعمقًا" إذ كل ربع ذراع يسع أربعة أرطال بغدادية ومجموع ذلك مائة وخمسة وعشرين ربعًا في خمسة أرباع بسط العمق "وفي المدور كالبئر ذراعان عمقًا" بذراع النجار وهو بذراع اليد المعتدلة قيل ذراع وربع تقريبًا وقيل ذراع ونصف "وذراع عرضًا" وهو ما بين حائطي البئر من سائر الجوانب، وسبب اختلاف المربع والمدور مذكور في المطولات، "وتحرم الطهارة" وغيرها من سائر وجوه الاستعمالات ما عدا الماء "بالماء المسبل للشرب" لكن تصح الطهارة به، ويجب التيمم بحضرته، ومثله ما جهل حاله سواء دلت القرينة على أنه مسبل للشرب كالخوابي الموضوعة في الطرق أو لا كالصهاريج، ويحرم حمل شيء من المسبل إلى غير محله ما لم يضطر إليه.
فصل في الاجتهاد:
وهو كالتحري: بذل المجهود في تحصيل المقصود.
"إذا اشتبه عليه طاهر" من ماء أو تراب أو غيرهما "بمتنجس" أو طهور بمستعمل "اجتهد" أخبره بتنجيسه ثقة وبين السبب أو أطلق وكان فقيهًا موافقًا اعتمده.
_________
١ الصبب: ما انحدر من الأرض، جمعها أصباب.
٢ الرطل: معيار يوزن به أو يكال يختلف باختلاف البلاد، وهو في مصر اثنتا عشرة أوقية، والأوقية اثنا عشر درهمًا، انظر المعجم الوسيط "ص٣٥٢".
٣ قوله "المربع" المراد به المكعب؛ لأنه قال بعد: "طولًا وعرضًا وعمقًا".
1 / 17
فصل: "في الأواني"
ويحرم استعمال أواني الذهب والفضة إلا لضرورة واتخاذها ولو إناء صغيرًا
ــ
وجوبًا إن ضاق الوقت ولم يجد غير ذلك الماء أو التراب أو اضطر إلى تناول المتنجس وجوازًا فيما عدا ذلك، "وتطهر بما ظن طهارته" واستعمله لأن التطهر شرط من شروط الصلاة، وحل التناول والاستعمال والتوصل إلى ذلك ممكن بالاجتهاد فوجب عند الاشتباه إن تعين طريقًا كما مر، وللاجتهاد شروط أربعة: أحدها: أن يكون لكل من المشتبهين أصل في التطهير والحل، فلو اشتبه ماء بماء ورد أو طاهر بنجس العين فلا اجتهاد بل يتوضأ بالماء وماء الورد بكل مرة. ثانيها: أن يكون للعلامة فيه مجال فلا يجوز الاجتهاد إلا بعلامة كتغير أحد الإناءين ونقصه واضطرابه وقرب نحو كلب أو رشاش منه لإفادة غلبة الظن حينئذ بخلاف ما إذا لم يكن فيه محال كما لو اختلطت محرمة بنسوة: ثالثها: ظهور العلامة فإن لم يظهر لم يعمل به سواء الأعمى والبصير، ولا يشترط في إدراكها البصر بل يتحرى من وقع له الاشتباه، "ولو" كان "أعمى" فإن له طريقًا في التوصل إلى المقصود كسماع صوت ونقص ماء واعوجاج الإناء واضطراب عطائه فإن لم يظهر له شيء قلد، فإن لم يجد من يقلده أو اختلف عليه مقلدوه تيمم والبصير لا يقلد بل يتيمم، وشرط صحة التيمم إتلاف الماءين لأن أحدهما طهور بيقين والتيمم لا يصح مع وجوده، رابعها: تعدد المشتبه وبقاء المشتبهين فلا اجتهاد في واحد ابتداء ولا انتهاء، ويجب عليه إعادة الاجتهاد لكل طهور ولو مجددًا وإن لم يكفه لوجوب استعمال الناقص، ثم إن وافق اجتهاده الأول فذلك وإلا أتلفهما ثم تيمم "وإذا أخبره بتنجيسه" أي أحد الإناءين "ثقة" ولو عدل رواية كامرأة وعبد "وبين السبب أو أطلق أو كان فقيها موافقًا" للمخبر في باب تنجس المياه "اعتمده" وجوبًا بخلاف ما إذا أطلق وهو عامي أو مخالف فلا يعتمده، وخرج بالثقة الصبي والمجنون والفاسق والكافر فلا يقبل خبرهم إلا إن كان من غير المجانين ولو بلغ عدد التواتر، ومن يخبر عن فعل نفسه فهو مقبول مطلقًا.
فصل في الأواني:
"ويحرم" على المكلف ولو أنثى "استعمال أواني الذهب والفضة" في الطهارة وغيرها لنفسه أو لغيره ولو صغيرًا كسقيه في مسعط فضة لما صح من النهي عن الأكل والشرب فيهما مع اقترانه بالوعيد الشديد١، وقيس بهما سائر وجوه الاستعمال كالاحتواء على
_________
١ روى البخاري في الأشربة، باب ٢٨ "حديث ٥٦٣٣" عن حذيفة عن النبي ﷺ قال: "لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تلبسوا الحرير والديباج فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة"، وروى أيضًا من حديث أم سلمة "رقم٥٦٣٤": "الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وروى مسلم حديث أم سلمة في اللباس والزينة "حديث١" بنفس لفظ البخاري، ورواه "حديث رقم ٢" بلفظ: "من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه نارًا من جهنم".
1 / 18
كمكحلة وما ضبب بالذهب، ولا يحرم ما ضبب بالفضة إلا ضبة كبيرة للزينة، ويحل المموه بهما إذا لم يحصل منه شيء بالعرض على النار.
ــ
مجمرة١ وشم رائحتها من قرب بحيث يصير عرفًا متطيبًا بها "إلا لضرورة" بأن لم يجد غيرها "و" يحرم "اتخاذها" لأنه يجر إلى استعمالها المحرم كآلة اللهو المحرمة "ولو" كان مستعملًا "إناء صغيرًا" جدا حتى ساوى الضبة٢ المباحة "كـ"ـمرود٣ و"مكحلة"٤، وخلال٥ لعموم النهي عن الإناء "و" يحرم استعمال "ما ضبب بالذهب" مطلقًا أو طليت ضبة به بحيث يتحصل منه شيء بالعرض على النار وإن صغرت الضبة وكان لحاجة لأن الخيلاء فيه أشد. "ولا يحرم ما ضبب بالفضة إلا ضبة كبيرة للزينة" وحدها أو مع الحاجة فتحرم لما فيها من السرف والخيلاء بخلاف الصغيرة لزينة أو الكبيرة لحاجة والصغيرة لحاجة فإنها تحل وإن لمعت من بعد أو كانت بمحل الشرب أو استوعبت جزأ من الإناء لانتفاء الخيلاء مع الكراهة في الأولين وضابط الصغر والكبر العرف ولو شك في الكبر فالأصل الإباحة، والمراد بالحاجة الغرض المتعلق بالتضبيب سوى التزيين كإصلاح كسر وشد وتوثق، "ويحل" الإناء "المموه بهما" أي بالذهب والفضة "إذا لم يحصل شيء منه بالعرض على النار" وإلا حرم أما إناء الذهب والفضة إذا غشي بنحاس أو نحوه بحيث ستره فإنه يحل لأن علة التحريم العين مع الخيلاء وهما موجودان في الأول دون الثاني٦ هذا في الاستدامة. أما فعل التمويه والاستئجار له فحرام مطلقًا حتى في الكعبة، ولو فتح فاه للمطر النازل من ميزابها لم يحرم وإن مسه الفم على الأوجه لأنه لا يعد مستعملًا له، وتحل حلقة الإناء ورأسه وسلسلته ولو من فضة لانفصالها عنه مع أنه لا تسمى إناء، ولا ينافي هذا قولهم يحل الاستنجاء بالنقد لأن محله في قطعة لم تطبع ولم تهيأ له وإلا حرم الاستنجاء بها أيضًا، وخرج بأواني الذهب والفضة سائر الأواني ولو من جواهر نفيسة فيحل استعمالها لأن الفقراء يجهلونها فلا تنكسر قلوبهم برؤيتها، نعم يحرم استعمال الإناء النجس في غير جاف وماء كثير لأنه ينجسه.
_________
١ المجمرة: ما يوضع فيه الجمر مع البخور.
٢ الضبة: حديدة عريضة يضبب بها الباب، وغلق من خشب ذو مفتاح يغلب به الباب "المعجم الوسيط: ص٥٣٢".
٣ المرود: الميل من الزجاج أو المعدن يكتحل به.
٤ المكحلة: الوعاء الذي فيه الكحل، جمعه مكاحل.
٥ الخلال: العود الذي يتخلل به.
٦ أي أن العين "أي الذهب والفضة" والخيلاء موجودان معًا في الحالة الأولى، وغير موجودين معًا في الحالة الثانية وهي حالة تغشيتهما بنحاس أو نحوه؛ ففي هذه الحالة الثانية وجد العين وانتفت الخيلاء.
1 / 19
فصل: "في خصال الفطرة"
يسن السواك في كل حال ويتأكد للوضوء والصلاة لكل إحرام وإرادة قراءة القرآن والحديث والذكر واصفرار الأسنان ودخول البيت والقيام من النوم وإرادة النوم ولكل حال يتغير فيه الفم، ويكره للصائم بعد الزوال ويحصل بكل خشن لا أصبعه والأراك أولى ثم
ــ
فصل: في خصال الفطرة
"يسن السواك في كل حال" للأحاديث الكثيرة الشهيرة١، ولو أكل نجسًا وجب إزالة دسومته بسواك أو غيره "ويتأكد للوضوء و" التيمم لخبر فيه٢ ويتأكد عند إرادة "الصلاة لكل إحرام" ولو لنفل وسجدة تلاوة أو شكر وإن كان فاقد الطهورين ولم يتغير فمه واستاك للوضوء وقرب الفصل للخبر الصحيح: "ركعتان بسواك خير من سبعين ركعة بغير سواك" ٣، ويظهر أنه لو خشي تنجس فمه لم يندب لها وأنه لو تذكر فيها أنه تركه تداركه بفعل قليل، "و" عند "إرادة قراءة القرآن والحديث والذكر" وكذا كل عمل شرعي ويكون قبل الاستعاذة. و"اصفرار الأسنان "يعني تغيرها وإن لم يتغير فمه "و" عند "دخول البيت" أي المنزل ويصح أن يراد به الكعبة إذ يتأكد لدخول كل مسجد "و" عند "القيام من النوم" لأنه يورث التغير، "و" عند "إرادة النوم" لأنه يخفف التغير الناشئ منه، "و" يتأكد أيضًا "لكل حال يتغير فيه الفم" وعند كل طواف وخطبة وأكل وبعد الوتر وفي السحر وللصائم قبل أوان الخلوف وعند الاحتضار؛ لأنه يسهل طلوع الروح، ويسن التخلل قبل السواك وبعده ومن أثار الطعام، "ويكره للصائم بعد الزوال" وإن احتاج إليه لتغير حدث في فمه من غير الصوم كأن نام أو أكل ذا ريح كريه ناسيًا لأنه يزيل الخلوف المطلوب إبقاؤه فإنه عند الله أطيب من ريح المسك٤ ولو لم يتعاط مفطرًا
_________
١ من هذه الأحاديث: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب". رواه النسائي في الطهارة باب ٤، وابن ماجه في الطهارة باب ٧، وأحمد في المسند "٦/ ٤٧، ٦٢، ١٢٤"، ومنها: "عشر من الفطرة" ... وذكر منها السواك؛ رواه مسلم في الطهارة حديث ٥٦، وأبو داود في الطهارة باب٢٩، ورواه غيرهما ومنها: "أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح"، رواه الترمذي في النكاح باب١، وأحمد في المسند "١/ ٤٢١"، ويوجد أحاديث أخرى كثيرة في هذا الباب.
٢ رواه البخاري في الجمعة باب٨، ومسلم في الطهارة حديث ٤٢، ومالك في الطهارة حديث ١١٤؛ عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"، والمقصود: عند كل وضوء؛ فقد رواه مالك "حديث ١١٥" عن أبي هريرة أنه قال: "لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء".
٣ رواه البيهقي في السنن الكبرى "١/ ٣٨" في كتاب الطهارة "حديث رقم ١٦٠" من حديث عائشة بلفظ: "الركعتان بعد السواك أحب إليّ من سبعين ركعة قبل السواك"؛ ورواه أيضًا "حديث رقم ١٦١" بلفظ: "صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك".
٤ للحديث الصحيح: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". رواه البخاري في الصوم باب ٢ و٩، واللباس باب ٧٨، ومسلم حديث ١٦٢-١٦٤، والترمذي في الصوم باب٥٤، والنسائي في الصيام باب ٤١-٤٣ وابن ماجه في الصيام باب١، ومالك في الصيام حديث ٥٨، وأحمد في عدة مواضع من مسنده.
1 / 20
النخل، ويستحب أن يستاك بيابس ندي بالماء وأن يستاك عرضًا إلا في اللسان وأن يدهن غبًا ويكتحل وترًا ويقص الشارب ويقلم الظفر وينتف الإبط ويزيل شعر العانة ويسرح
ــ
يتولد منه تغير الفم ليلًا كره له السواك من بعد الفجر لأنه يزيل الخلوف الناشئ من الصوم دون غيره، "ويحصل" فضله "بكل خشن" ولو نحو أشنان١ بخلافه بنحو ماء الغاسول٢، وإن نقى الأسنان وأزال القلح٣ لأنه لا يسمى سواكًا "لا أصبعه" المتصلة به وإن كان خشنة لأنها لا تسمى سواكًا لأنها جزء منه، أما أصبع غيره أو أصبعه المنفصلة عنه فتجزئ إن كان خشنة وإن وجب دفنها فورًا، "والأراك أولى ثم النخل" ثم ذو الريح ثم الطيب ثم اليابس المندى بالماء ثم العود ولا يكره بسواك الغير إذا أذن وإلا حرم.
و"يستحب" إذا لم يجد سواكًا رطبًا أو لم يرد الاستياك به "أن يستاك بيابس ندي بالماء" لا بغيره لأن في الماء من التنظيف المقصود ما ليس في غيره. "وأن يستاك عرضًا" أي في عرض الأسنان ظاهرها وباطنها لحديث مرسل فيه، ويكره طولًا لأنه قد يدمي اللثة ويفسدها "إلا في اللسان" فيسن فيه طولًا لحديث فيه٤ ويكره بمبرد ومع الكراهة يحصل له أصل السنة، ويسن كونه باليد اليمنى وإن كان لإزالة تغير لأن اليد لا تباشره، وأن يبدأ بجانب فمه الأيمن ويذهب إلى الوسط ثم الأيسر ويذهب إليه "و" يستحب "أن يدهن غبًا" أي وقتًا بعد وقت "و" أن "يكتحل وترًا" ثلاثة في العين اليمنى ثم ثلاثة في اليسرى "و" أن "يقص الشارب" حتى تبين حمرة الشفة بيانًا ظاهرًا ولا يزيد على ذلك، وهذا هو المراد بإحفاء الشوارب الوارد في الحديث٥ كما قال النووي، واختار بعض المتأخرين أن حلقه سنة أيضًا لحديث فيه٦ "و" أن "يقلم الظفر" والأفضل أن يبدأ بسبابة يده اليمنى ثم الوسطى فالبنصر
_________
١ الأشنان: شجر من الفصيلة الرمرامية ينبت في الأرض الرملية، يستعمل هو أو رماده في غسل الثياب والأيدي "المعجم الوسيط: ص١٩".
٢ الغاسول: عشب حولي ينبت في صحاري مصر "المعجم الوسيط: ص٦٥٢".
٣ القلح والقلاح: صفرة أو خضرة تعلو الأسنان.
٤ وهو ما رواه البخاري في الوضوء باب ٧٣ "حديث ٢٤٤" عن أبي بردة عن أبيه قال: "أتيت النبي ﷺ فوجدته يستن بسواك بيده يقول: أع أع، والسواك في فيه كأنه يتهوع" ورواه أيضًا أبو داود في الطهارة باب٢٦.
٥ ولفظه: "أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى"، رواه البخاري في اللباس باب٦٤، ومسلم في الطهارة حديث ٥٢- ٥٥، والترمذي في الأدب باب ١٨، والنسائي في الطهارة باب١٤، وأحمد في المسند "٢/ ١٦، ٥٢، ٢٣٩، ٢٨٣، ٢٥٦، ٣٦٥، ٣٦٦، ٣٨٧، ٤١٠، ٤٨٩".
٦ روى البخاري في اللباس باب ٦٣ "حديث ٥٨٨٨" عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال: "من الفطرة قص الشارب"، ورواه أيضًا "حديث ٥٨٨٩" عن أبي هريرة: "الفطرة خمس أو خمس من الفطرة الختان والاستحداد ونتف الإبط وتقليم الأظفار وقص الشارب". وروى أيضًا "حديث رقم ٥٨٩٣" عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ: "انهكوا الشوارب وأعفوا اللحى"، والنهك: المبالغة في كل شيء كما في لسان العرب.
1 / 21