[مقدمة المؤلف]
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله الذي يؤتي الحكمة من عباده من يشاء، أحمده وله الشكر والثناء على ما أنعم به وهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة صادرة عن أقوم المذاهب، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله نصره بشموس المناقب، صلى الله عليه صلاة وسلاما يقومان بحق مقامه في أعلى المراتب، وعلى آله أعلام الدين وقرناء الكتاب ، وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب.
وبعد: فإن (الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير) المشتمل على صفوة كتب السنة وشروحها، ومذاهب علماء الأقطار، وأقوال السلف والخلف وحججهم، والأخذ والرد الذي عاق مؤلفه جدنا القاضي العلامة النحرير، صدر حفاظ العصر الأخير، الحسين بن أحمد بن الحسين السياغي روح الله روحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه عائق الحمام عن التمام، فلبى دعوة ربه نهار الخميس ثامن جمادى الأولى، سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف هجرية، عن إحدى وأربعين سنة وشهر، فوقف يراعه فيما علمنا على (باب متى يجب على أهل العدل قتال الفئة الباغية).
Bogga 45
وحديث الباب الآتي لحقيق على علماء الإسلام بذل الوسع والطاقة في إتمامه لإكماله على منهجه وأسلوبه، كما هو المعتبر في كل تتمة خصوصا وفي بقية (المجموع) بضع أحاديث من (كتاب السير) محتاج إليها، وبعدها (كتاب الفرائض) وهي نصف العلم، لصريح خبر أبي هريرة الآتي في (كتاب الفرائض) وبعدها أبواب الولاء، والعتاق، والمكاتب، والوصايا، وما يتعلق بكل منها وما بعدها من الأبواب في الحديث المشتملة على نيف وتسعين حديثا في فنون شتى لا يستغني عنها أحد من الناس.
كيف لا يتمم وهو نعم الوثيقة لعلماء الأنام على أول مجموع في السنة، وأول مؤلف في الإسلام على أسلوب ماضيه الذي عز وجوده في المشهود والمسموع لا يستغني عنه طوائف العلماء على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم.
وقد سبق إلى القيام بشرح هذه البقية سيدي العلامة عبد الكريم بن عبد الله بن محمد أبو طالب ، وما قبلها من الحديث الثالث في الباب الثاني في (كتاب السير) بلفظ: حدثني زيد بن علي عن أبيه، عن جده، عن علي عليهم السلام، قال: ((لا يفسد الحج والجهاد جور جائر، كما لا يفسد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غلبة أهل الفسق)).
Bogga 46
[التعليق على تتمة الروض]
وهذا الحديث وما بعده إلى ما نحن بصدده قد سبق شرحها للمؤلف رضي الله عنه بما أغنى فلم نذكرها ثم تعقبه سيدي العلامة عباس بن أحمد بن إبراهيم مما نحن بصدده جزاهما الله خيرا.
لكن لا على منهج المؤلف وأسلوبه، وحسن صناعته كما هو المعتبر في كل تتمة، ومع ذلك ففي تتمة سيدي الضياء زيادة بعد الحديث الثالث في (باب طاعة الإمام) ذكر من (المجموع) ما لفظه:
قال: سألت زيد بن علي عن الإمامة فقال: ((هي في جميع قريش، ولا تنعقد الامامة إلا ببيعة المسلمين، فإذا بايع المسلمون وكان الإمام برا، تقيا، عالما، بالحلال والحرام، فقد وجبت طاعته على المسلمين)) انتهى.
وأطال في الكلام عليه وزاد أيضا في أثناء حديث المجموع الآتي في (القدر) بعد قوله: ((فلا تشهدوا جنائزهم)) بلفظ: فإن من زعم أن في الأرض شيئا لم يقدره الله ولم يقضه ولم يخلقه فقد زعم أن في الأرض إلها آخر يقضي ويقدر انتهى.
وكل منهما غير مذكور في نسخة (المجموع) بخط سلفنا المؤلف.
وقد بحثت عنهما في نيف وعشرين من نسخ (المجموع) الخطية القديمة المقروءة المعتمدة الشهيرة بالصحة فلم أجدهما من المجموع، وأخبرني غير واحد أنه قد بحث عنهما فلم يجدهما من (المجموع)، ولم أجدهما في نسخ (التخريج)، ولا في نسخ (المنهاج الجلي) فلم أذكرهما في هذه التتمة .
Bogga 47
[سبب التأليف]
وطالما هممت بالقيام بهذه التكملة على نحو أسلوب المؤلف ومنهاجه، فإذا نبو المؤلفات والأوطار تدافعني، وعدم التأهل تمانعني، فتقاصرت همتي عن استطلاع طوالع أنوار هذه البقية، وتقاعدت عزائمي عن اكتشاف خبيئات أسرارها.
حتى كلفني من لا تسعني مخالفته حميد المساعي، الأخ القاضي، العلامة شرف المعالي، الحسين بن أحمد السياغي ، وأعانني بالمهم من المؤلفات التي منها يستمد، وعلى النقل منها يعتمد، إلى ما معي من المؤلفات وما جمعته من مؤلفات علماء السلف والخلف، فشرعت في المطلوب، وبذلت المجهود مستعينا بالملك المعبود.
فلست لغيره براج على الإعانة والتيسير والهداية، وإلا فلست من فرسان هذا الميدان، ولا ممن يعول عليه في بيان، ولا ممن يشار إليه بالبنان، راجيا من فضل الله الكريم التوفيق إلى ((المنهج المنير تمام الروض النضير))، وأن يجعله تجارة رابحة، وإلى رضوانه أشرف وسيلة.
معولا على من اطلع عليه ممن له معرفة تامة رواية ودراية إصلاح ما عسى أن يكون من زلة القدم، أو نبوة القلم، لنكون جميعا أعوانا على البر والتقوى.
Bogga 48
[سند المؤلف]
وكل المؤلفات التي منها أستمد، وعلى النقل منها أعتمد، قد صح لي إسنادها إلى مؤلفيها منها ما هو بالسماع، ومنها ما هو بالإجازة، والكثير منها بهما، أما سندي في (المجموع) فمن طرق كثيرة سماعا وإجازة، وأقرب سند لي فيه بهما: عن شيخنا العلامة زينة المجالس، وسراج المدارس، الحسين بن علي العمري رحمه الله، عن شيخه حفيد المؤلف فريد زمانه ووحيد عصره سيدي الوالد العلامة المحقق الأورع التقي أحمد بن محمد بن يحيى السياغي رضي الله عنه عن شيخه القاضي العلامة الحسن بن أحمد بن يوسف الرباعي ، عن المؤلف رضي الله عنه بسنده المذكور في ((المقدمة)).
وقد تقدم للمؤلف رحمه الله شرح (الباب) في كتاب الطهارة، وبيان البغاة وأحكامهم وكيفية قتالهم في شرح أحاديث الباب قبل هذا بما أغنى عن الإعادة.
Bogga 49
[باب متى يجب على أهل العدل قتال الفئة الباغية]
وهذا الباب عقده الإمام عليه السلام لبيان عدد من يجب عليهم وعلى الإمام قتالهم، وأهل العدل هم المحقون العاملون بالكتاب والسنة.
والعدل: خلاف الجور، والفئة الجماعة، ذكره الزمخشري ، وفي (المصباح) وفيه: ((لا واحد لها من لفظها وجمعها فئات، وقد يجمع بالواو والنون جبرا لما نقص)) انتهى.
وفي غيره من كتب اللغة، الفئة: الطائفة، والهاء عوض من الياء التي نقصت وسطه، وأصله فيي مثل فقع، لأنه من فاء ويجمع على فئات، والجمع فئون كما في (مختار الصحاح) وغيره.
والباغية : المعتدية على غيرها، سميت بذلك لأنها عدلت عن القصد، وأصله من بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد، ولا يختص ذلك بنوع منهم دون آخر ولا بطائفة أو فئة دون أخرى بل هو شامل لكل من حصل منهم الاعتداء على الإمام أو على فرد أو طائفة من المسلمين، لاندراج كل ذلك تحت قوله تعالى: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}[الحجرات:7] أي ترجع إلى حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي نهاية حد قتالهم، فيقيد بها إطلاقات الأدلة الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى.
وأشار الإمام عليه السلام إلى بيان ما دلت عليه ترجمة الباب بقوله:
Bogga 50
حدثني زيد بن علي عليه السلام قال: ((إذا كان الإمام في قلة من العسكر لم يجب عليه قتال أهل البغي، فإذا كان أصحابه ثلثمائة وبضعة عشر عدة أهل بدر وجب عليهم القتال، ولم يعذروا بترك القتال، فإنه ليس من الأعمال شيء أفضل من جهادهم)).
هذا التحديد ذكره السيد صارم الدين في (حاشيته على المجموع) ونسبه إلى الإمام زيد بن علي ، وفي رسالة السيد الشريف علي بن الحسين بن يحيى المعروفة ب((التصفية في الرد على الحمزية وشيعتهم الشتوية)) ما لفظه: ((وقال أبو العباس فيما حكاه الإمام زيد بن علي في (مجموع الفقه) من أن الإمام إذا كان في قلة من العدد لم يجب عليه قتال أهل البغي، فإذا كان أصحابه ثلثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر قاتلهم)). انتهى.
وذكره الإمام زيد بن علي فيما يجب به التغيير أي إذا كثر العدو، وذكره في (الجامع الكافي) بلفظه، وفيه: ((عن محمد بن منصور قال: سألت الإمام عبد الله بن موسى متى يجب على الإمام التغيير ؟ قال: إذا كان معه ثلثمائة وثلاثة عشر عدد أهل بدر.
وروى محمد بن منصور، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: يجب على أهل الأرض التغيير إذا كان معه ثلثمائة وثلاثة عشر)) انتهى.
قال في ((المنهاج الجلي)): وكلامه عليه السلام يتضمن مسائل :
الأولى: أنه لا يجب قتالهم مع القلة، والوجه في ذلك أن ذلك يكون تعرضا لذل المسلمين حينا لأمرهم، وإظهارا لضعفهم، وتقوية لعدوهم، وهذا خلاف ما هو المراد بجهادهم.
Bogga 51
الثانية: إذا كان مع الإمام من ذكره عليه السلام وجب القتال، والوجه في ذلك ما ذكره عليه السلام من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان عدة أصحابه ببدر ثلثمائة وبضعة عشر.
إلى أن قال: وأقول: إن كلام الإمام عليه السلام لا يدل على التحديد، بل إذا كان البغاة الجم الغفير وكان لا تقوم الثلاثمائة والبضعة عشر في وجوههم فإن حكمهم حكم العدد القليل الذي منعه عليه السلام يدل على ذلك بأقل نظر من الناظر.
وقد اختلف العلماء قديما وحديثا في مقدار عدد عسكر الإمام الذي يجب عليهم وعليه قتال البغاة ولم يعذروا بتركه.
فقال الإمام زيد بن علي، وعبد الله بن موسى، ومحمد بن علي بن أبي طالب، وذكره محمد بن منصور في (الجامع الكافي) عن أبي حنيفة وهو قول جماعة من علماء السلف فمن بعدهم: أنه إذا كان عسكر الإمام ثلاثمائة وبضعة عشر فما فوق وجب عليهم جميعا قتال البغاة، وتغيير بغيهم حتى يفيئوا إلى أمر الله، ولم يعذروا بترك ذلك، وظاهر كلامهم التوقيت بذلك أنه لا يتأتى الوجوب فيما دون ذلك، ولو ظنوا الغلبة أوكان عدد البغاة أقل منهم أو أكثر.
وقال السيد الشريف علي بن الحسين في رسالته المذكورة بعد ذكر كلام زيد بن علي هذا: على قدر الاستقلال بالمعونة دون التوقيت، وعلى هذا فكلام زيد بن علي ومن معه موافق لكلام الجمهور الآتي، فيجب على من دون العدد المذكور مع ظن الغلبة، لكن الظاهر من نصوصهم أنهم أرادوا بذلك التوقيت.
Bogga 52
وذكر محمد بن منصور في (الجامع الكافي) ما لفظه: وسألت أحمد بن عيسى عن ذلك فقال: لست أوقت في ذلك قلوا أو كثروا، والقائم بذلك أعلم قد قام الحسين بن علي في نفر يسير.
قلت: وهو مذهب الجمهور، وأن المعتبر في ذلك قدر الاستقلال بالمعونة قلوا أو كثروا مع ظن الغلبة.
وفي (الجامع الكافي) أيضا: وقال زفر: إذا كانوا أربعين رجلا وجب عليهم التغيير، وفيه: وقال محمد : اختلف أهل العلم في عدة ما يجب به التغيير إذا كثر العدو، فقال قوم: لا يجب حتى يكون أهل العدل على النصف من أهل البغي، لقوله تعالى: {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله}[الأنفال:66].
وبلغنا عن علي أنه قال: لا يغلب عشرة ألف من قلة، فقال قوم: الكثرة عشرة آلاف إذا اجتمعوا واتفقت كلمتهم وجب عليهم التغيير، وإن كثر العدو فكانوا أكثر من الضعف، وقال قوم: الكثرة اثني عشر ألفا لقوله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم }[التوبة:25] وكان عددهم اثني عشر ألفا، فقالوا: إذا اجتمعوا كذلك وجب عليهم التغيير، وإن كان العدو أكثر من الضعف، انتهى.
Bogga 53
احتج الأولون بعدد وقعة بدر الكبرى، وهي أول وقعة بين المسلمين وأهل الشرك، وقالوا: إن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بقتال المشركين يوم بدر حين بلغ عدد من معه من أهل الحق ثلاثمائة وبضعة عشر، غير ناظر إلى قلتهم وضعفهم وقلة العدة معهم، ولم ينخذلوا ولا فشلوا، ولا إلى كثرة العدو وكانوا زهاء ألف رجل، وقوتهم وكثرة العدة معهم ما ذاك إلا لوجوبه عليهم.
ومن حججهم ما ذكره الإمام زيد بن علي في تفسير قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا }[البقرة:249] فالقليل ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وكان عدة أصحاب بدر من المسلمين كذلك.
وفي (الكشاف) في قوله تعالى: {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم}[البقرة:246]: ((قيل: كان القليل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدة أهل بدر)) .
وفيه في قوله تعالى: {فشربوا منه إلا قليلا منهم}[البقرة:249]: ((وقيل: لم يبق مع طالوت إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا)) انتهى .
وفي (تهذيب) الحاكم: ((إذ القليل الذين لم يشربوا من الماء مع طالوت وهم المؤمنون ثلاثمائة وبضعة عشر، عن الحسن، وقتادة. ويروى عن ابن عباس، والسدي: إن الذين لم ينخذلوا مع طالوت ثلاثمائة وبضعة عشر)) انتهى.
Bogga 54
وقد ورد في العدد المذكور أنه جم غفير فيما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين في قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي }[الحج:52] في سؤاله صلى الله عليه وآله وسلم عن عدد الأنبياء بلفظ: قيل فكم الرسل ؟ فقال: ((ثلثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا)) .
ومن حججهم أيضا قوله تعالى {ياأيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين }[الأنفال:64] لما ذكره الزمخشري وغيره من علماء التفسير أنها نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل الوقعة.
Bogga 55
واحتج بهذه الآية زفر قال: وكان نزولها في إسلام عمر بن الخطاب وهو موف أربعين رجلا عن ابن عباس وسعيد بن جبير، وفي كلام الحسن بن يحيى في (الجامع الكافي) ما يؤيد كلام الجمهور، ويجاب به عن حجج من تقدم ولفظه: قد أعلم الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كيف يقاتل، وأخبره بالعدة التي يجوز بها القتال، فقال: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا} [الأنفال:65] ثم علم ضعفهم عن ذلك فقال: {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين} [الأنفال:66] ثم قال: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين}[البقرة:249] فلم يضيق على من حضرته الغيرة في الدين الدفع عن دينه ونفسه وماله وحريمه أن يقاتل في فئة لا حد لها، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من أكبر الجهاد كلمة حق عند إمام جائر، فإن قتل المتكلم بها كان شهيدا، وكمال الطاعة في قتال العدو أن يقاتلوا في الفئة والعدة، وقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}[الأنفال:60] انتهى.
Bogga 56
وأجاب الجمهور عن حجج الأولين بأن مسألة بدر وطالوت مقطوع لهما بالنصر ولو كانوا دون ذلك العدد مع الوثوق بهم وحصول الاستقلال بهم في المعونة وللإخبار لهما من الله بالنصر ونزول الملائكة عليهم السلام يوم بدر للجهاد أكثر من المشركين بأضعاف كثيرة لنصوص الأدلة بذلك في غير آية، وهي أول وقعة في المشركين أعز الله بها الإسلام وأهان الكفر، وهي مبسوطة في كتب المغازي، والسير، والتفاسير، لمن أراد أن يعرف ما فيها من آيات الله العجيبة لما يريده الله من إحقاق الحق وقطع دابر الكافرين، مع ما ثبت بالاستقراء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأهل بدر: ((اعملوا ما شئتم فإن مصيركم إلى الجنة )) .
وأجابوا عن حجة زفر بما ثبت بالاستقراء أيضا أن إسلام عمر كان بمكة بالإجماع وإنما وجب القتال بالمدينة في السنة الثانية من الهجرة على أشهر الأقوال، والذي صح عن أكثر المفسرين وعلماء السير عن سعيد بن جبير أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، ثم أسلم عمر بن الخطاب فنزلت الآية.
ولا خلاف بين العلماء إن النسوة لسن من أهل الجهاد ولا يجب عليهن فلم يثبت أن إسلام عمر موف أربعين رجلا، بل موف أربعا وثلاثين رجلا.
وذكر ابن هشام قول جمهور علماء التفسير والسير أن إسلام عمر بن الخطاب موف ثلاثة عشر رجلا، وإسلام الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه موف أربعين رجلا.
Bogga 57
ويجاب على ما في (الجامع الكافي) من ذكر الأقوال في الكثرة بخروجها عن محل النزاع، وقد ذم الله سبحانه الإعجاب بالكثرة بقوله تعالى: {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا} [التوبة:25] الآية وما بعدها.
والذي قرره المحقق المقبلي وغيره وهو قول جماعة من السلف فمن بعدهم بما حاصله أن جهاد البغاة من قبيل النهي عن المنكر بأحد المراتب الثلاث التي منها الجهاد باليد، وهو لا يجب إلا مع ظن التأثير، فإذا كان مع الإمام من العسكر الموثوق بهم ما يغلبهم ظن الإمام أنه يستقل بهم في المعونة على ذلك قلوا أم كثروا مع استعداد ما يحتاجه من القوة وجب عليه وعليهم ذلك من دون نظر إلى عدد البغاة وقوتهم، لقوله تعالى: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ...} [البقرة:249] الآية، وقوله تعالى: {وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم} [الأنفال:10] والمنصور من نصره الله.
Bogga 58
وقد ثبت لنا بنصوص الكتاب كقوله تعالى: {إن تنصروا الله ينصركم }[محمد:7] وغيرها ونصوص السنة ما يقطع معه بوقوع النصر من الله للمجاهدين، وذلك مهما كان ذلك لله وفي سبيله وابتغاء مرضاته ولإحقاق الحق وإزالة الباطل، وفوضوا أمورهم إلى الله وتوكلوا عليه واستغاثوا به ونصروا دين الله وذكروا الله كثيرا وحافظوا على القيام بواجباتهم فعلا وتركا، قولا وعملا، وتجنبوا محبطات أعمالهم مع عدم المنازعة والظلم فيما بينهم، وغير ذلك مما هو معلوم في بسائط هذا الفن، فالنصر من الله مقطوع لهم وإلا يكن منهم ذلك فمن أين يكون لهم ذلك؟ انتهى مختصرا.
وإذا احتاج الإمام إلى الاستعانة فالهادوية والمذهب قالوا: إنه يجوز له الاستعانة بالكفار والفساق على جهاد البغاة من المسلمين.
وقال الشافعي : لا يجوز الاستعانة بمشرك على قتال البغاة وتجوز بالفساق والجمهور على عدم ذلك مطلقا، وسيأتي تمام الكلام في حديث علي أمير المؤمنين ((أمرت بقتال الناكثين، والمارقين، والقاسطين)) الآتي في آخر (المجموع) إن شاء الله تعالى.
Bogga 59
[قصد البغاة إلى ديارهم]
هذا وأما قصد البغاة إلى ديارهم فقد تقدم للمؤلف رحمه الله في حديث ((لا يفسد الحج والجهاد جور جائر...)) ما لفظه:
وأما البغاة فقد اختلف العلماء في جواز قصدهم إلى ديارهم، فقال القاسم ، والسادة الهارونيون ، والمنصور بالله : أخيرا أن ذلك يختص جوازه بالامام فقط.
وقال محمد بن عبد الله النفس الزكية، والجرجاني والحاكم أبو سعيد : يجوز للامام وغيره، وقال الشافعي: لا يجوز مطلقا ما لم يقصدونا، لقول علي للخوارج: لا نبدؤكم بقتال ما لم تبدأونا، ولا خلاف في جواز قتالهم إذا قصدونا.
إذا عرفت هذا فاعلم أنه لا يجوز للإمام غزو البغاة مع عدم الضرر منهم، قاله الشافعي، وإن جاز في الكفار، وإنما الذي يجوز في البغاة دفع صولتهم عليه أو على غيره من المسلمين ولو فردا لقول أمير المؤمنين علي في الخوارج: ((لا نبدؤكم..)) السالف ذكره، وذكره المحقق الجلال في ((ضوء النهار)) وأبى ذلك الجمهور.
قال: قلنا: قالوا: {حتى تفيء إلى أمر الله } [الحجرات:9] قالوا: الفيئة: تركها للبغي، وهو لغة طلب الباطل.
قلنا: بل ومنع حق الإمام من الطاعة وغيرها بغي.
قالوا: لم يتعرض أمير المؤمنين لمن اعتزله ولا للخوارج مع عصيانهم إياه، وعدم الوفاء ببيعته، فلو كان ذلك بغيا لما قال لأصحابه: ((لا تبدأوهم بحرب حتى يبدأوكم)) وقوله بيان للبغي، لأنه إمام أئمة اللغة في الشرع انتهى.
Bogga 60
وأما إذا كان ضررهم يتعدى إلى الإمام وإلى أحد من أهل الإسلام من قطع طريق أو سفك دم حرام أو ظلم أحد، فذلك موجب لغزوهم إلى ديارهم دفعا لضررهم لما سيأتي في أدلة الباب الآتي في كلام المحقق الأمير وغيره، وإن كان ضررهم لا يتعدى أحدا ولا صالوا على أحد فقد أخلوا بواجب الطاعة للامام، والدخول فيما دخل فيه المسلمون.
ولا شك أن معصيتهم عظيمة لكن إذا كانوا مسلمين للواجبات غير ممتنعين في تأدية ما يجب تأديته عليهم، تركوا وشأنهم مع تكرير الموعظة لهم، وإقامة الحجة عليهم، وأما إذا امتنعوا من ذلك فقد تظاهروا بالبغي وجاهروا بالمعصية.
وقد قال تعالى: {فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} [الحجرات:9] وقد أجمع الصحابة على العزيمة التي عزمها أبو بكر الصديق في المقاتلة لمن فرق بين الصلاة والزكاة ذكره المحقق الشوكاني في بعض ((مؤلفاته)).
Bogga 61
[أنواع الجهاد]
(تنبيه): اعلم أن الجهاد في سبيل الله على أربعة أوجه:
الأول: جهاد أهل الحرب من المشركين من العرب حتى يدخلوا في دين الله ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف لا الجزية. وأما من غير العرب من عبدة الأوثان والمجوس وسائر كفار العجم فتقبل منهم الجزية.
الثاني: جهاد أهل العهد من اليهود والنصارى إن امتنعوا من الجزية حتى يسلموها أو يقتلوا، وقال قوم: الإمام مخير بين ما ذكرنا وبين أن يردهم إلى عهدهم وإعطائهم الجزية.
الثالث: جهاد أهل البغي الموحدين من الخوارج وغيرهم، وقد تقدم الكلام على كل هذه الثلاثة الأوجه للمؤلف رضي الله عنه في (كتاب السير) بما أغنى عن الإعادة.
وسيأتي في آخر (المجموع) في حديث علي قال: ((أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين)) الكلام على هذه الثلاث الفرق، ومن استن بسنتهم أو اعتقد عقيدتهم مستوفى إن شاء الله.
الرابع: جهاد اللصوص قطاع الطريق، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في الحديث الخامس من هذا.
Bogga 62
[عودة إلى شرح ((بضعة عشر))]
قوله: ((وبضعة عشر)) البضع ما بين الثلاثة إلى العشرة، ذكره الزمخشري عن الأصمعي، وفي تفسير الإمام زيد بن علي ما بين الثلاث إلى التسع، وقال: ما بين ثلاثة وخمسة.
وفي (المصباح): ((بكسر الباء في العدد، وبعض العرب يفتح، واستعماله من الثلاث إلى التسع، وعن ثعلب من الأربعة إلى التسعة يستوي فيه المذكر والمؤنث، فيقال: بضع رجال وبضع نسوة، ويستعمل أيضا من ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، لكن تثبت الهاء مع المذكر وتحذف مع المؤنث كالنيف، ولا يستعمل فيما زاد على العشرين، وأجازه بعض المشايخ، فيقال بضعة وعشرون رجلا وبضع وعشرون امرأة، وهكذا قاله أبو زيد، وقالوا على هذا معنى البضع والبضعة في العدد قطعة مبهمة غير محدودة)). انتهى.
Bogga 63
[شرح بقية الحديث]
المسألة الثالثة: قوله: ((فإنه ليس من الأعمال شيء أفضل من جهادهم)) تقدم للمؤلف رضي الله عنه في ترجمة أبي خالد في المقدمة ما لفظه: وجزم كثيرون من فضلاء الأمة كالإمام المؤيد بالله أن حرب البغاة أفضل من حرب الكفار، ومما تمسكوا لذلك به أن البغي في دار الإسلام كالمعصية في المسجد وهي أعظم خطرا من المعصية في خارجه. انتهى.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في الكلام على أحاديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يدل على أن النهي عن المنكر من أفضل الأعمال سواء كان باليد أو باللسان أو بالقلب وهو أضعف الإيمان.
وجهاد البغاة باليد من النهي عن المنكر، كذا باللسان، وقد تقدم أن من أكبر الجهاد كلمة حق.
وأخرج أبو طالب في ((أماليه)) عن الإمام زيد بن علي أنه قال: والله لو علمت أن رضا الله عني في أن أقدح نارا بيدي حتى إذا اضطربت رميت بنفسي فيها لفعلت ولكن ما أعلم شيئا أرضى لله عز وجل من جهاد بني أمية.
وفي (الجامع الكافي) عن محمد بن عبد الله النفس الزكية: ((والله ما يسرني أن الدنيا لي بأسرها عوضا عن جهادهم)) إلى غير ذلك.
وأما ما يغنم من أموالهم ومن لا يقتل منهم فقد تقدم للمؤلف رضي الله عنه الكلام مستوفى في شرح أحاديث الباب قبل هذا بما أغنى عن الإعادة والله أعلم.
Bogga 64