فأجابت سلمى وقد احمرت عيناها من البكاء قائلة: «إني لا أجهل شيئا من ذلك يا عزيزتي، ولكني أتحسر على يوم يئسنا فيه من حياته. أما قولك إننا لم نتأكد من خبره، فأنا لا أشك في أنه - وا لهفي عليه - قد صار في عالم الأموات.» قالت ذلك وتساقطت العبرات على خديها حتى بللت منديلها، فتداركتها زوجة الأمير وهي تمسح عينيها قائلة: «كيف يمكننا أن نجزم بذلك ونحن لم نتلق خبرا صريحا نفيا أو إيجابا، وإنما أعمالنا هذه كلها مبنية على مجرد التخمين؟! فعلينا أن نثق بالله ولا نقطع الأمل.» فأمسكت سلمى هنيهة عن البكاء، ثم التفتت إلى زوجة الأمير قائلة: «أنا أطلعك على الداعي لظني الذي ذكرته لك.» ثم نهضت إلى خزانة وفتحتها وجاءت منها بكتاب ودفعته إليها، وإذا هو كتاب سعيد الذي يقول فيه: «إن سيده سافر إلى السودان يأسا من الحياة؛ لأنه لم يعرف طريقنا، وكان يريد الانتحار ففضل أن يموت في ساحة الحرب على أن يقتل نفسه بيده.»
وبعد أن أتمت زوجة الأمير تلاوة الخطاب، قالت لها سلمى: «أتظنين أن الرجل الذي يذهب إلى الحرب رغبة في الموت ثم يقتل من معه، ينجو هو وحده؟ إنه لا ينجو إذا لم يهرب، وهو لا يمكن أن يهرب؛ لأنه طالب للموت ساع وراءه، فمتى جاءه رحب به.»
فقالت امرأة الأمير، وكأنه قد فتح عليها برأي جديد: «دعي عنك هذه الأوهام فإن سعيدا لم يمض عليه غير ثلاثة أشهر منذ ذهب، ولم يعد إلينا ولا أرسل لنا علما بذلك، ونحن نعلم أنه في السودان، فلو فرض أنه علم بشيء لآثر أن يحضر لإبلاغنا ذلك، أو يكتب إلينا بما علم، فلا مسوغ لحزنك ويأسك، ولا فائدة من الحزن واليأس، وبعد قليل يأتي ولدك من الميدان، فيراك على هذه الحال، وهو لا يعلم بشيء من قصة أبيه، فيشغل باله ويزيد قلقه عليك، وربما ألجأك إلى إطلاعه على سبب هذا البكاء، فهل تخبرينه بالسبب الحقيقي؟»
فأجابت سلمى: «لا، لا يمكن أن أخبره، وإني أشكر الله تعالى لأني لم أطلعه على هذه القصة من أول الأمر، ويا ليتني لم أطلع عليها أنا أيضا؛ إذ لا فائدة منها إلا تجديد الأحزان والأكدار!»
فنهضت زوجة الأمير، وأمسكت بيد سلمى، وأنهضتها قائلة: «قومي بنا يا عزيزتي نذهب إلى الحديقة ترويحا للنفس؛ لئلا يأتي ولدك غريب، ويراك على هذه الحال.»
فمسحت سلمى دموع عينيها ولبست ثيابها، وخرجت معها من باب السر إلى الحديقة، وفيها إيوان (كشك) من خشب استظلتا به، وجلستا هناك نحو ساعة حتى قاربت الشمس من المغيب، فنهضتا وعادتا إلى «السراي»، فوجدتا الأمير بشير يتمشى في القاعة، فلما رآهما، أشار إليهما بالمجيء إليه ففعلتا. فلما وصلت إليه سلمى تأملها فإذا هي حزينة مكتئبة، على الرغم مما كانت تحاول إظهاره من البشاشة واللطف إكراما له، فقال: «يا سلمى إني مشارك لك في حزنك، ولكني لا أرى مسوغا للإفراط في ذلك، وخاصة أننا لم نعلم الحقيقة، وسأرسل رجلا خبيرا من خاصتي إلى مصر ليبحث الأمر بنفسه ويأتينا بالخبر اليقين.» فهمت سلمى بتقبيل يده ثم شكرته على ذلك، ولكن قلبها لم يطمئن البتة.
أما رسول الأمير إلى مصر فلم يأت بشيء، لكنه أكد ما كان قد كتبه محمد علي باشا، وخلاصة ذلك أن أمين بك كان في معسكر إسماعيل باشا إلى ساعة المذبحة، ثم لم يعد يعلم عنه شيء.
قطعت سلمى الرجاء من حياة زوجها، وصبرت على بلواها ، رغما عنها، ولكنها كانت تفكر كثيرا في خادمها سعيد الذي ذهب لإنقاذ زوجها وتحدث نفسها قائلة: ماذا جرى له يا ترى؟ لقد كانت تخشى أن يكون قد أصيب بسوء؛ لأنها كانت تحبه لكثرة ما قدم لها من خدمات، وما أظهر من الصدق والأمانة، ولكنها كانت عندما يضيق بها رحاب الفكر تترك الأمر لله، وتعزي نفسها حاسبة أن حديث زوجها من أوله إلى آخره أضغاث أحلام.
سعيد في العطمور
أما ما كان من أمر سعيد، فإنه بعد مسير ثمانية أيام في الصحراء الشرقية وصل إلى أسوان، ومنها إلى كروسكو، فوصل إليها بعد يومين، وهناك أعد كل ما يحتاج إليه لمدة عشرة أيام من الماء والطعام؛ لأن عطمور أبي حمد يقل فيه الماء كثيرا، وتكثر فيه الأخطار. ولاح له أن الأفضل أن يرافق أحد من يعرفون الطريق لئلا يضل، فوجد تجارا من المصريين ومعهم جماعة من السوريين ذاهبين للاتجار بإشارة من عزيز مصر؛ اعتمادا على أن بلاد السودان قد فتحت، وفيها أفضل أنواع التجارة من العاج والخرتيت وريش النعام والصمغ العربي، وما شاكل ذلك، وهؤلاء كانوا قد اصطحبوا معهم خبراء، وأعدوا كل ما يحتاجون إليه.
Bog aan la aqoon