وكان الخدم قد أعدوا الطعام فجلس الجميع لتناوله، وبعد الاستراحة سار كل منهم إلى فراشه، طلبا للنوم؛ لأنهم لم يذوقوا طعم النوم في الليلة الغابرة.
وفي الصباح اجتمع الجميع في غرفة غريب، وفحصوا جراحه، فإذا هي قد قاربت الشفاء فأوصوه ألا يخرج من المنزل مدة يومين؛ خوفا عليه من تأثير الحرارة، عملا بمشورة طبيب الأمير بشير الذي كان برفقته.
ثم ركب الأمير بشير مصحوبا ببعض الرجال وولده أمين، وسار قاصدا خيام ذلك الفارس، بعد أن أوصى الطبيب بملازمة غريب، وقد آلى على نفسه أن يبذل كل ما في وسعه لإنقاذ ذلك الرجل، الذي صنع معه خيرا، من الضيق المستحوذ عليه.
وبعد بضع ساعات وصلوا إلى تلك الخيام، وكان صاحبها قد علم بذلك من بعض رجاله فخرج لاستقبال أمير لبنان، وحين رآه لم يستطع أن يحول نظره عنه لعظم هيبته. ثم ترجل الجميع وساروا إلى الخيمة الكبرى، فجلسوا فقدمت لهم القهوة ولفائف التبغ، وأخذ المضيف يرحب بضيوفه، ويوجه كلامه بوجه خاص إلى الأمير بشير، كل ذلك وهو ملثم الوجه.
ثم مد السماط كعادة العرب، وقام الضيوف إلى تناول الطعام، فقال صاحب الضيافة: «أخشى أن تكونوا لم تألفوا الطعام على الطريقة البدوية!» فأجابه الأمير بشير: «نحن جميعا قد ألفنا هذه العادة.» وبعد الطعام أديرت عليهم القهوة ثانية. كل ذلك والأمير بشير يتأمل حركات ذلك الرجل، ويعجب لأمره، ولم يكد ينتهي الطعام حتى طلب الأمير الانفراد به فانفردا. فقال له الأمير: «ارفع هذا اللثام عن وجهك، إذ لم يبق من داع إلى الحجاب بيني وبينك؛ لأنك أوليتني جميلا لا أستطيع مكافأتك عليه، واعلم أن الأمير بشيرا سيكون رهين كل ما تحتاج إليه، وموضع سرك، فارفع هذا اللثام عن وجهك وحدثني.»
فوقف ذلك الرجل بين يدي الأمير ورفع اللثام عن وجهه، فبان من تحته وجه رجل بين الأربعين والخمسين من العمر، ذي عينين واسعتين سوداوين وجبين عريض مرتفع، وأنف أقنى، وشارب ولحية قد وخطهما الشيب في غير أوانه، فتأمله الأمير بشير فإذا هو ليس مصريا أصيلا وليس عربيا.
وابتدره الرجل بالكلام قائلا: «انظر يا سيدي إلى هذا الشعر، فقد شاب قبل أوانه، وما ذلك إلا من صنع قوم كنا لهم أشد الأنصار وقت العسر واليسر.» فقاطعه الأمير قائلا: «اجلس يا أخي واشرح لي قصتك بإسهاب.» فقال الرجل: «أتعدني أنك إذا سمعت من قصتي ما يثبت أني مذنب، أن تترفق بي!» قال: «نعم، فقل ما بدا لك.»
فجلس الرجل يقص حكايته، قال: «إني أيها الأمير من أمراء المماليك الذين سمعتم بمذبحتهم في قلعة القاهرة منذ نيف وإحدى عشرة سنة، وقد كنت دعيت في ذلك اليوم المشئوم، وقدر الله لي أن نجوت بنفسي لتأخرى عن وقت الدعوة.»
فقاطعه الأمير بشير قائلا: «أظنك أمين بك؟» قال: «نعم، وقد مضت علي مدة بعد فراري من مخالب الموت، وأنا في هذا المكان أتوقع فرصة للعودة إلى القاهرة لمشاهدة أهلي، فقد تركت هناك امرأتي وولدي، وعلمت أن عزيز مصر أباح لجنده التزوج بنساء المماليك، فلا أعلم ماذا كان من أمر أسرتي. على أني قد أنفذت من يسأل عنها، فلم يستطع أحد أن يوقفني على خبرها، فمن قائل إنها في مصر، وقائل إنها في غيرها من البلاد. وقد أصبحت في قلق من جراء ذلك لأمرين؛ الأول: أني لا أعلم إذا كانت زوجتي المسكينة لا تزال على قيد الحياة أم قد تزوج بها أحد أعدائي أم هلكت على أثر ولادتها لأنها كانت حاملا، ولا أعلم ماذا جرى لولدي. والأمر الثاني أني منقطع في هذا المكان ولا أستطيع السكنى في المدن خوفا من عيون الحكومة؛ لأنها جعلت دماءنا هدرا، فلكل من لقينا أن يقتلنا ولا إثم عليه ولا حرج.»
فقال له الأمير: «طب نفسا، فإني سأقابل العزيز بعد قليل، ولا بد من أن أذكرك أمامه، وأطلب لك العفو منه، فلا تخف بإذن الله فإن ذلك فرض علينا، ولا بد من أن تنال ما تريد.»
Bog aan la aqoon