وكان الأمير قد جاء من بر الشام بعدد من الخيل الأصيلة، قدم منها خمسة للعزيز، وبقي معه بعضها لركوبه وركوب أولاده وبعض خاصته. ففي ذات يوم بعد نزوله بالفشن، اشتاقت نفسه للفروسية فبعث يسأل الكاشف عن ميدان للعب الخيل، فأخبره أن في البر الشرقي وراء ذلك الجبل سهلا رمليا يصلح لذلك، فبعث الخيول باكرا تقطع النيل ثم قطعه هو وأولاده، وما زالوا ومعهم الأتباع والخدم والكاشف حتى وصلوا إلى ذلك السهل، فضربوا الخيام واستحضروا ما يحتاجون إليه من طعام وشراب لذلك اليوم.
وكان وصولهم إلى ذلك المكان بعد شروق الشمس بقليل، فتركوا الرجال ينصبون الخيام ويعدون المعدات، وسار الخيالة يجولون ويلعبون بخيولهم، وكان غريب في جملتهم لأنه تعلم الفروسية وهو في سن السادسة، وكان إذا ركب جواده ظننته والسرج قطعة واحدة. وتعلم رمي الجريد، ولعب السيف والترس، فجعل يركض جواده، وقد سدل الكوفية على رأسه اتقاء للحر فذهل الجميع، ولا سيما الكاشف ورجاله، وامتدحوا شجاعته وفروسيته على مسمع منه، فزاد همة ونشاطا، وكان يركب جوادا من خيل أبيه فتعب الجواد ولم يتعب هو، ثم ترجل ودنا الكاشف منه يمدحه بما هو أهل له، وتقدم الأمير وقبله . ثم التفت غريب فرأى جواد الكاشف واقفا، فسأله أن يأذن له في ركوبه ليجربه فلم يسعه إلا الإجابة، ولكنه قال له: «احذر منه لأنه جموح إذا ركب رأسه لم يثنه شيء!» فضحك غريب معجبا، وقد ثار في رأسه إقدام الشباب، واعتلى صهوة ذلك الجواد الأشهب، وكان جميع الخيالة قد نزلوا عن خيولهم لأنها تعبت وأخذوا ينظرون إلى ذلك الفارس الصغير ويعجبون له.
أما غريب فما إن اعتلى الجواد حتى شعر أنه جموح، ولكنه أبى إلا أن يركضه فلكزه لكزة قوية، فعدا الجواد صوب الصحراء، وسار ملء عنانه فظن الواقفون أن ذلك كان بإرادة غريب، وأنه لا يلبث أن يرجع به، ولكنهم انتظروا فلم يعد، وأوغل في الصحراء متواريا عن الأبصار، فصاح الأمير بشير برجاله قائلا: «لقد ضاع الغلام فهلموا إليه!» فركب جماعة منهم، واقتفوا أثره، والأمير ينتظرهم على أحر من جمر الغضا.
وكانوا قد أعدوا الطعام ودعوا إليه، فجلسوا وأبصارهم شاخصة إلى الأفق لعلهم يرون الخيالة راجعين، فمضت ساعة وساعتان، ولم يظهر أحد. فالتفت الأمير إلى الكاشف، وكان تركي الأصل، فإذا هو أصفر اللون مضطرب، لا يستطيع أن يتفوه ببنت شفة، فقال له الأمير: «ما رأيك في هذا الغلام؟» فقال له: «الله أعلم يا سيدي، إن جوادي هذا لم أشتره إلا منذ بضعة أيام من أحد العربان ولم أختبره بعد، وإنما قال لي صاحبه إنه جموح صعب المراس.» فقال له الأمير: «هل تعرف العربان الذين ابتعته منهم؟» قال: «لا أعرف أسماءهم، وإنما أعلم أنهم من عرب بني واصل القاطنين في هذه الصحراء.» فوقف الأمير على قدميه صارخا: «لا بد أن الجواد قصد تلك القبيلة، فهل عندك أحد ممن يعرف الطريق إليها؟» قال: «نعم وإنما الطريق صعب خطر.» قال: «لا تكلمني بمثل هذا الكلام، فإننا لا نعرف الخطر ولا الخوف، فأحضر لي بعض الخبيرين الذين يعرفون الطريق، وأنا أسير بنفسي للتفتيش عن هذا الفتى الضائع.» فنهض ابناه خليل وأمين وغيرهما من رجاله قائلين: «لا، لا يا سيادة الأمير، فإننا نحن سوف نذهب.»
فركبوا ومنعوا ابني الأمير من الركوب معهم، فلم يقبل الأمير أمين لأنه كان يحب غريبا محبة عظيمة، وقد وخزه ضميره لأنه هو الذي سعى في استحضاره إلى مصر فاحتدمت في رأسه النخوة، وآلى على نفسه ألا يرجع إلا بعد أن يجد غريبا، ويعود به سالما.
التفتيش عن «غريب»
انقسم الخيالة قسمين: قسم سار شمالا وقسم سار جنوبا، وكان الأمير أمين مع الفريق الأخير، وكان مع كل من القسمين خبير عارف بالطريق، واتفق الخبيران على أن يلتقي الفريقان عند الغروب في مكان متوسط بين الجهتين يعرفانه، للاطلاع على نتيجة البحث، والمشورة فيما يفعلونه.
ولما جاء الغروب ولم يعد أحد منهم، زاد قلق الأمير على ابنه أمين وباقي رجاله، فالتفت إلى الكاشف فإذا هو غارق في بحر من الهواجس، فسأله عن أمره فقال: «يا سيدي قد أخطأ الأمير أمين بسيره بهذا العدد القليل من الرجال؛ لأن البدو القاطنين بهذه الصحراء قوم غزاة، والحكومة لم تستطع إخضاعهم حتى الآن، وفيهم قطاع الطرق واللصوص، حتى إنهم كثيرا ما يهاجمون هذه البلاد وينهبونها، ومع سهر أفندينا العزيز الذي أمن البلاد وأهلك المماليك، فإن هؤلاء العرب لا يزالون من الخونة العاصين، وقد اعتاد المماليك قبل هلاكهم أن يلتجئوا إليهم في حال فرارهم من وجه الحكومة.»
وكان الكاشف يتكلم، وعينا الأمير بشير تتقدان حتى أصبح منظره كالأسد الكاسر، ثم التفت إلى الكاشف قائلا: «إذا كانت الحال كذلك فلا بد لي من الركوب لأتبع أثر هؤلاء لعلهم يكونون في شدة، على أني أعلم يقينا أنهم أشداء لا خوف عليهم، فإن بينهم عددا من بني الدحداح، وفيهم خيالة مشهورون، ولكن يجب أن أتبع أثرهم إذا غربت الشمس ولم يعودوا، أو لم يحضر من يخبرني عنهم.»
وأحب الكاشف أن يثني عزمه، فأصر وأمر أن يسرج له الجواد، وفيما هم على هذه الحال نظروا فرأوا في عرض الأفق غبارا ظهر من تحته خيالة فاستبشروا، فلما اقتربوا منهم رأوهم قليلي العدد، وليس فيهم الأمير أمين فقالوا له: «يا مولانا، إن الأمير أمينا لم يشأ المجيء معنا، وقد آلى على نفسه ألا يرجع ما لم يقف على خبر الأمير غريب، وقد حملنا هذا الكتاب إلى سيادتك.» فتناوله وفضه فإذا هو يقول فيه:
Bog aan la aqoon