كانت مشاهدة كنسوكي وهو يعمل مصدر عجب دائم لي، فلقد كان يتمتع بالقدرة على التمعن والتركيز الشديد في كل شيء يفعله. ولكن مشاهدته وهو يرسم تأتي في المرتبة الأولى. كان أولا لا يسمح لي إلا بأن أنحني بجواره لأراقبه. وكنت أشعر أنه حتى في ذلك أيضا كان يحب التكتم و«الخصوصية» بحيث لا يزعجه أحد. كان يضع على المنضدة أمامه ثلاثة أطباق صغيرة: أحدها لحبر الأخطبوط (فلم يكن كنسوكي يعتبر الأخطبوط طعاما فقط) والثاني فيه ماء، والثالث لخلط الحبر بالماء. وكان دائما يمسك بريشته منتصبة بزاوية قائمة وهي دائما ثابتة في يده، وأصابعه تقبض عليها من جانب وإبهامه عليها من الجانب الآخر. وهو ينحني منكبا على عمله، حتى تكاد شعرات لحيته تلمس الصدفة التي يرسم عليها، وأظن أنه ربما كان يعاني قليلا من قصر النظر، وكنت أقضي ساعات طويلة في مشاهدته، دهشا من دقة عمله ورهافته، ومن الثقة البادية في إتقانه.
وذات يوم أثناء هطول المطر عصرا - وكان المطر عندما ينهمر، ينهمر مدرارا - وجدت أنه قد جهز لي صدفة، وثلاثة أطباق وفرشاة رسم. كان يستمتع كثيرا بتعليمي، وبكل محاولة عرجاء أقوم بها. وأذكر أنني في أول عهدي بالرسم حاولت أن أرسم قنديل البحر الذي هاجمني، فإذا به يضحك ملء شدقيه، لا سخرية مني بل اعترافا وتذكرا بما جمع بين قلبينا. كنت دائما أحب الرسم، لكنني تعلمت من كنسوكي أن أعشقه، وتعلمت منه أن الرسم أو التلوين يحتاج مني أولا إلى دقة الملاحظة، ثم تكوين شكل الصورة في ذهني قبل أن أرسل بها عبر ذراعي إلى طرف الفرشاة، ومنها إلى الصدفة. وقد علمني ذلك كله دون كلام، كان يبين لي ذلك وحسب.
كانت الأدلة على أنه فنان بارع عظيم بادية حولي في كل مكان، فلا بد أنه هو الذي قام بتأثيث بيته في هذا الكهف كله، ومعظمه من الركام الطافي: الصناديق، ونضد العمل نفسه، والرفوف، والمنضدة. ولا بد أنه هو الذي نسج الحصير من الأسل، وما يغطي الجدران من الخيزران، وكل شيء. وعندما فحصته بدقة وجدت أنه يتميز بكمال التشطيب وجماله، فلا مسامير، ولا براغي، بل تضفير وتشبيك دقيق محكم. كان يستخدم بعض أشكال الصمغ إذا اقتضى الأمر، وكذلك الدوبار أو خيوط القنب. وكانت الحبال اللازمة للتسلق والرماح المستخدمة في صيد الأسماك، وشباك الصيد، وقصب صيد الأسماك كلها موضوعة في أحد أركان الكهف (ولو أنني لم أشاهده يستخدم قصبة صيد السمك مرة واحدة). كان لا بد أنه هو الذي صنعها كلها.
وكان قد صنع فرشات الرسم أيضا، وسرعان ما عرفت طريقة صنعها. كانت لكنسوكي سعلاة يحبها، أنثى ضخمة كان يسميها «توموداكي»، وكانت كثيرا ما تأتي وتجلس إلى جواره كي يمشط شعرها وينظفه. وكان منهمكا في ذلك ذات يوم خارج باب الكهف، وعلى مقربة منه، والسعالي الأخرى تشهد ما يفعل، حين رأيته يعمد إلى نزع أطول الشعرات وأشدها سوادا من ظهرها. وأمسك الشعرات بيده فأراني إياها، وهو يبتسم ابتسامة عريضة تعبيرا عن نية مبيتة. لم أفهم حقا حينذاك ما كان يعتزمه، ثم رأيته فيما بعد عند نضد العمل يشذب الشعرات بسكينة، ثم يغمسها في سائل كنت شاهدته يستخرجه من إحدى الشجرات في ذلك الصباح نفسه، ثم يقطع قطعة صغيرة مجوفة من الخيزران ويملؤها بشعر «توموداكي». وبعد مرور يوم واحد كان الصمغ قد جف وأصبحت لديه فرشاة رسم، ويبدو أن كنسوكي قد وجد السبل الكفيلة بتلبية جميع احتياجاته.
كنا صامتين مستغرقين في الرسم ذات يوم ، والمطر يهطل بغزارة وصخب على الغابة، عندما توقف، ووضع فرشاة الرسم، وقال ببطء شديد وبأسلوب محسوب بدقة، كأنما كان يفكر في صياغته منذ وقت طويل: «أعلمك الرسم يا ميكا» (وكانت هذه أول مرة يناديني فيها باسمي) «وتعلمني أن أتكلم الإنجليزية. أريد أن أتحدث الإنجليزية. علمني أنت.»
كانت تلك بداية درس في اللغة الإنجليزية قدر له أن يستمر شهورا. كنت في كل يوم، من الفجر إلى الغسق، «أترجم» له الدنيا من حوله إلى اللغة الإنجليزية. كنا ما زلنا نفعل ما كنا نفعله دائما؛ ولكنني كنت الآن أتكلم طول الوقت وهو يردد كل كلمة أقولها، وكل عبارة يريدها. وكانت الغضون تبدو على جبينه من فرط الجهد المبذول.
كان كأنما يكفيه ترديد الكلمة لابتلاعها في ذهنه. وما إن ينطقها ويستعملها حتى تثبت في عقله فلا ينساها أبدا، وإذا تصادف أن نسى كلمة ما، كان دائما يبدي غضبه الشديد من نفسه. وكنت أحيانا ألاحظه وأنا أتلفظ بكلمة جديدة فأجد عينيه تبرقان. كان يومئ ويبتسم كأنما تعرف على الكلمة، أو كأنما يحيي صديقا قديما. كان يكررها مرات ومرات، كأنما يتلذذ بمذاق رنينها قبل أن يحفظها في ذاكرته إلى الأبد. وكان كلما ازدادت معرفته بكلمات جديدة، ازدادت محاولته - بطبيعة الحال - لتجربتها. وسرعان ما نمت الكلمات المفردة فأصبحت عبارات مبتورة ثم غدت جملا كاملة. ومع ذلك، فإن أسلوب نطقه لم يتحسن قط، مهما يحاول تحسينه. مايكل كان دائما ميكا، وأحيانا ميكاسان، وغدونا الآن نستطيع على الأقل أن نتحادث معا بسهولة أكبر، وانتهى عهد الصمت الطويل الذي تشكلت فيه صداقتنا. لم يكن الصمت في يوم ما حاجزا يفصل بيننا، لكنه كان يفرض علينا حدودا.
كنا نجلس بجوار باب الكهف عند غروب الشمس عندما قال: «انظر الآن إذا كنت أستطيع الفهم يا ميكاسان. قص علي قصتك. أين تعيش. لماذا أتيت إلى جزيرتي هنا. منذ أن كنت طفلا حتى الآن. وسوف أستمع.»
وقصصت عليه قصتي. حكيت له عن أمي وأبي، وعن إغلاق مصنع الطوب. عن كرة القدم مع إدي وفريق «مدلاركس» وعن السفينة بيجي سو ورحلتنا حول العالم، وعن كرة القدم في البرازيل، والأسود في أفريقيا والعناكب في أستراليا، وعن مرض والدتي، وعن الليلة التي سقطت فيها من السفينة.
وقال عندما انتهيت: «ممتاز. أفهم. ممتاز. إذن تحب كرة القدم. عندما كنت صغيرا كنت ألعب كرة القدم أيضا. وقت سعيد جدا، من زمن طويل، في اليابان، في وطني.» وجلس صامتا برهة، ثم عاد يقول: «أنت بعيد جدا عن وطنك يا ميكاسان. تبدو حزينا جدا أحيانا. أفهم. وإذن، أجعلك سعيدا. نذهب غدا لصيد السمك وربما أحكي لك قصتي أنا أيضا. قصتي وقصتك. ربما تكون نفس القصة الآن.» كانت الشمس قد غربت، فوقفنا وانحنينا نحيي بعضنا البعض. وقال: «أوياسومي ماساي.»
Bog aan la aqoon