وسرعان ما اختفى مناري عن آخره ولم يبق منه شيء. لم يعد حولي فوق الركام الصخري سوى أطلال المنار المتناثرة، وانتظرت منه أن يصرخ في وجهي، لكنه لم يفعل، بل تكلم بهدوء شديد وهو يضغط عامدا على الحروف، قائلا: «داميدا.»
وصحت قائلا: «ولكن لماذا؟ فأنا أريد العودة للوطن. وهناك سفينة في البحر، ألا تستطيع أن تراها؟ كل ما أريده هو العودة إلى الوطن وحسب. لماذا لا تدعني أرجع؟ لماذا؟» ووقف وهو يحدق في. وخيل إلي في لحظة أنني لمحت بريق الفهم في عينيه. وعندها انحنى انحناءة حادة من وسطه، وقال: «جوميناساي. جوميناساي. آسف. آسف جدا.» وبعدها تركني في مكاني وانطلق عائدا إلى الغابة، ومن خلفه السعالي.
وظللت جالسا أرقب سفينة الينك وهي تبتعد حتى لم تعد سوى نقطة على حافة الأفق، بل لم أعد أحتمل النظر إليها. وعندما حانت هذه اللحظة كان رأيي قد استقر على أفضل صورة لعصيانه. كان الغضب قد بلغ مني مبلغا لم أعد معه أكترث بالعواقب. لم أعد آبه. فقمت وستلا بجانبي وانطلقت أمشي على الشاطئ حتى وصلت إلى الحد الفاصل الذي رسمه على الرمل بيننا فوقفت، ثم تجاوزته بصورة عامدة، كما تعمدت وأنا أتجاوزه أن أجعله يعرف تماما ما كنت أفعله.
وهتفت بصوت عال: «هل تراني أيها العجوز؟ انظر! لقد تجاوزت الحدود فدخلت منطقتك. لقد عبرت الحد الفاصل السخيف. والآن سوف أستحم. لا يهمني ما تقول. لا يهمني أن تمتنع عن إطعامي. هل تسمعني أيها العجوز؟» وعندها استدرت وانطلقت على الشاطئ فنزلت البحر. وجعلت أسبح بقوة ونشاط حتى أصابني الإنهاك الشديد وابتعدت كثيرا عن الشاطئ. وظللت أضرب الماء بأقدامي طافيا وأضرب بيدي سطح الماء في غضبي حتى بدأ يرغي ويزبد من حولي. وصحت أقول : «البحر ينتمي لي مثلما ينتمي لك. وسوف أسبح فيه وقتما أشاء.»
وشاهدته عند ذلك. ظهر فجأة على حافة الغابة. كان يصيح ببعض الألفاظ الموجهة لي، ويلوح بعصاه في الهواء. وكانت هذه هي اللحظة التي أحسست فيها بالألم، كان ألما لاذعا كاويا في قفاي، ثم في ظهري وذراعي أيضا. وشاهدت أحد قناديل البحر يطفو بجواري: كان أبيض شفافا، وله أذرع تتحسسني. حاولت السباحة من جديد لكن قنديل البحر جاء خلفي لاصطيادي. كان الألم مباشرا فوريا مبرحا. وتغلغل الألم في سائر جسمي مثل صدمة كهربائية واحدة متصلة. وأحسست أن عضلاتي قد تصلبت. وجعلت أرفس الماء محاولا العودة إلى الشاطئ لكنني لم أستطع، وأحسست أن رجلي مشلولتان، وذراعي أيضا. كنت أغرق. ولم يكن في طوقي أن أمنع نفسي من الغرق. وشاهدت قنديل البحر يقف مستعدا لتوجيه ضربته القاضية أمامي الآن. وصرخت، فامتلأ فمي بالماء. كنت أختنق. كنت على شفا الموت. كنت على وشك الغرق لكنني لم أكترث. كل ما أردته هو أن يتوقف الألم. وكنت أعرف أن الموت سوف يقضي على الألم.
الفصل السابع
كل ما قاله الصمت
شممت رائحة الخل، وظننت أنني في منزلي. كان والدي دائما يعود إلينا يوم الجمعة بعشاء من السمك والبطاطس المقلية، وكان يحب أن يصب الخل على نصيبه من ذلك الطعام، حتى إن رائحة الخل كانت تشيع في المنزل طول المساء. وفتحت عيني. كان الظلام يدل على أننا في المساء، لكنني لم أكن في منزلي. كنت في كهف ما، لكنه لم يكن كهفي. واستطعت أن أشم رائحة دخان أيضا. كنت راقدا على فراش من حصير وأتغطى بملاءة تكسوني حتى ذقني. حاولت أن أجلس حتى أتطلع إلى ما حولي لكنني لم أستطع الحركة. حاولت أن أدير رأسي، ولكن رقبتي كانت متصلبة. لم أكن أستطيع تحريك شيء سوى عيني، لكنني كنت لا أزال قادرا على الإحساس. كانت بشرتي بل كان كل جسمي يرتجف من الألم المبرح، كأنما اكتوى جسدي كله بنار حارقة. حاولت أن أنادي، ولكنني لم أستطع سوى الهمس بصعوبة. وعندها تذكرت قنديل البحر. تذكرت تلك الحادثة كلها.
كان العجوز منحنيا فوقي، ويده تمسح جبيني برفق. وقال: «لقد شفيت الآن. اسمي كنسوكي. لقد شفيت الآن.» وأردت أن أسأل عن ستلا، فأجابتني بنفسها بأن دست أنفها البارد في أذني.
لا أعرف كم يوما قضيت هناك، أنام وأصحو على فترات، ولا أعرف إلا أنني كلما صحوت وجدت كنسوكي يجلس بجانبي دائما. نادرا ما كان يتكلم، ولم أكن أنا أستطيع الكلام، ولكن الصمت بيننا كان يقول أكثر مما تقوله أية كلمات. وهكذا، فإن هذا الرجل الذي كان عدوا لي حتى الآن. هذا الذي كان سجاني، قد أصبح منقذي ومخلصي. كان يرفعني بيديه حتى يصب عصير الفواكه أو الحساء الساخن في حلقي. كان يمسح جسدي بإسفنجة ملئت بالماء البارد، وعندما كنت أصرخ من فرط الألم، كان يحضنني ويغني لي أغاني رقيقة حتى أعود للنوم. كان الأمر غريبا، فعندما كان يغني لي، كان صوته يبدو رجعا لأصداء الماضي؛ ربما كان صوت والدي، لا أدري. وببطء رحل عني الألم. وظل يتولى تمريضي حتى عدت للحياة. وعندما استطعت من جديد تحريك أصابعي رأيته يبتسم لأول مرة.
Bog aan la aqoon