وذات يوم، بعد قضاء صباح عقيم آخر في التطلع إلى البحر من فوق التل، كنت خارجا مع ستلا من الغابة حين لمحت شيئا فوق الرمل قريبا من كهفنا. بدا لي على البعد قطعة من ركام الخشب الطافي. ووصلت ستلا إليه قبلي وجعلت تتشممه في حماس. وعندما اقتربت أدركت أنه ليس خشبا على الإطلاق، بل حصيرة من القش مطوية. ونشرتها فوجدت داخلها ملاءة مطوية بعناية، ملاءة بيضاء. إذن كان يعرف! كان الرجل العجوز يعرف ألوان معاناتي ومنغصاتي، ويدرك كل ما أحتاج إليه. لا بد أنه كان يراقبني طول الوقت، وعن كثب أيضا. لا بد أنه رآني وأنا أحك بشرتي. وشاهد العلامات الحمراء في رجلي وعلى ذراعي، وأبصرني وأنا أجلس في البحر كل صباح لتخفيف آلام اللدغات. أفلا يعني هذا أنه صفح الآن عن إشعالي النار؟
حملت الحصيرة إلى داخل الكهف، ونشرتها، ولففت جسمي بالملاءة، وظللت في مكاني لا أفعل سوى أن أقهقه فرحا، كنت أستطيع أن أغطي وجهي بالملاءة أيضا، وإذن فلن تستطيع تلك البعوضات الملعونة أن تجد سبيلا إلى لدغي الليلة. لسوف تبيت جائعة هذه الليلة.
وذهبت جريا على الشاطئ حتى وصلت إلى خط الحدود الذي رسمه فوقفت، وجعلت من يدي بوقا أمام فمي وهتفت: «شكرا لك! شكرا على سريري! شكرا لك! شكرا لك!» لم أكن في الواقع أتوقع ردا، ولم يأتني الرد على أية حال. كنت آمل أن يأتي هو نفسه، لكنه لم يأت. وهكذا كتبت عبارات الشكر في الرمل إلى جانب خط الحدود ووقعته باسمي. لكم كنت أرجو أن أراه من جديد، وأن أتحدث إليه، وأن أسمع صوتا بشريا. كانت ستلا أرتوا أروع رفيق لي، تحسن كتمان السر، ورائعة لتبادل الأحضان، ورائعة في اللعب معي، ولكنني كنت أفتقد بشدة صحبة البشر؛ والدتي، ووالدي، اللذين كانا غائبين عني الآن، وربما إلى الأبد. كنت أتشوق لرؤية الرجل العجوز، وللحديث معه، حتى ولو كان مخبولا بعض الشيء، وحتى مع أنني لم أكن أستطيع أن أفهم الكثير مما يقوله.
كنت قد اعتزمت تلك الليلة أن أظل مستيقظا حتى يأتي، ولكنني كنت أحس بالراحة في فراشي الجديد على الحصيرة، وأستمتع بالالتفاع بالملاءة التي تحميني، فسرعان ما جاءني النوم ولم أصح مرة واحدة طول الليل.
وفي صباح اليوم التالي، بعد إفطاري الذي كان يتكون من السمك وفاكهة البحارة وجوز الهند، قمت أنا وستلا بصعود التل الخاص بي إلى قمته، وقد أصبحت أطلق عليه اسم «تل المراقبة»، وأما التل الآخر فقد أسميته «التل الخاص به» وحسب. كنت أقوم بإصلاح قبعتي الصينية، وتغيير بعض الخوص فيها، إذ لم تكن، فيما يبدو، قادرة على التماسك معا فترة طويلة، ونظرت إلى البحر فإذا بي أرى سفينة في الأفق. لم أكن مخطئا، كان ما أرى هو الصورة الجانبية الطويلة لإحدى الناقلات العملاقة.
الفصل السادس
أبوناي!
انتصبت واقفا على الفور، وأنا أصيح بأعلى صوت وألوح بيدي في جنون. وتواثبت في مكاني، وأنا أصرخ مناشدا من فيها أن يتوقفوا، أن يسمعوني، أن يروني. «أنا هنا! هنا! أنا هنا!» ولم أتوقف إلا عندما بدأ حلقي يؤلمني وعجزت عن الصياح. واستمرت الناقلة تسير ببطء وإغراء يغيظ بحذاء الأفق. لم تستدر، وأدركت عندها أنها لن تستدير. كنت أعرف أيضا أنه لن يكون فيها من ينظر تجاهنا، وحتى لو نظر أحدهم فإن هذه الجزيرة كلها لن تبدو أكثر من أكمة بعيدة غائمة على الأفق. كيف يمكنهم إذن أن يروني؟ لم يكن في وسعي سوى أن أستمر في النظر، عاجزا ومذهولا، والناقلة تمضي لا تلوي على شيء في طريقها، ويزداد ابتعادها عني حتى بدأت تختفي فوق الأفق. واستغرق ذلك الصباح كله، فكان صباحا من اللوعة الرهيبة.
وبينما كنت واقفا على قمة تل المراقبة أتطلع إلى البحر، أحسست بأن يأسي قد حل محله غضب ملتهب. لو أنه سمح لي بأن أبقي على النار، لظلت الفرصة قائمة على الأقل في أن يلمحوا الدخان. صحيح أن العجوز قد أحضر لي فراشا من حصير، وملاءة أتغطى بها، وصحيح أنه يرعاني ويبقيني على قيد الحياة، ولكنه أيضا حكم علي بالحبس.
وعندما غاب آخر أثر للناقلة عن بصري، قطعت على نفسي عهدا بألا أدع مثل هذه الفرصة تفلت من يدي مرة أخرى. وتحسست جيبي فوجدت أنني ما زلت أحتفظ بقطعة الزجاج التي أشعل بها النار. وصممت أن أشعل النار، لسوف أستوقد نارا أخرى، ولكن ليس على الشاطئ حيث يستطيع العثور عليها بل هنا فوق تل المراقبة، خلف الصخور، وبعيدا تماما عن عينه، حتى إن كانت لديه نظارات مقربة، وكان علي أن أفترض الآن أن لديه هذه النظارات. لسوف أجمع قدرا من الأخشاب يكفي لإقامة منار عظيم، لكنني لن أوقد فيه النار، بل سأتم تجهيزه وأنتظر اللحظة التي ألمح فيها إحدى السفن. كنت أقول في نفسي ما دامت هذه السفينة قد أتت فسوف تأتي سفينة أخرى، بل لا بد أن تأتي، وعندما تأتي، سأكون مستعدا بزجاجة إشعال النار، وبمخزون من أوراق الأشجار النحيلة مثل ورق الكتابة، والجافة جفافا مطلقا. ولسوف أشعل نارا عظيمة تتصاعد منها ألسنة لهيب جبارة، وترتفع منها إشارة شاهقة من الدخان، بحيث يتحتم على السفينة التالية التي يتصادف مرورها أن تلاحظها.
Bog aan la aqoon