وكان يقع في مواجهة هذه الحوانيت وعلى يسار القنطرة مطعم، أطلق على نفسه اسم «مطعم الملوك الثلاثة»، وقد اشتهر بتقديمه طبقا من أجود أنواع الطيور النورماندية، يدعى «طبق الكاسوليت» في عشاء يوم واحد من كل أسبوع، فكان يجتمع فيه مساء ذلك اليوم أئمة الأدب وكبار الشعراء والفنانين؛ فهذا أوجين ديلاكروا الرسام العظيم يأخذ مكانه إلى جانب منضدة قريبة من النافذة، وقد جلس أمامه هوراس فرنيه في ثوبه العسكري القديم ذي الصدر المزركش، وإلى جانبه جوستاف فلوبير، الذي أحدثت روايته الجديدة «مدام بوفاري» ضجة كبيرة في أنحاء فرنسا. وهناك في ركن منعزل جلس الكاتب الكبير إسكندر ديماس، جالسا وحده إلى جانب منضدة صغيرة، وفي الركن الآخر جلس ألفونس دوديه مع زولا الصغير.
لقد كان هؤلاء جميعا يأكلون ويشربون شاغلين أنفسهم بالطعام والتمتع بالحياة، فكانت اجتماعاتهم في مطعم «الملوك الثلاثة» صورة صادقة لبوهيميتهم. وكانت الأمطار تنهمر بشدة خارج مطعم «الملوك الثلاثة»، فما كاد العشاء ينتهي حتى اشتدت برودة الجو، وازدادت الرياح قوة، فتحولت إلى عاصفة ثلجية قامت تقذف نوافذ المطعم بقطع صغيرة من البرد، وصفرت الريح داخل المدخنة التقليدية القائمة في وسط القاعة، وكانت لغمات الريح القاسية تندفع بشدة من باب المطعم في كل مرة يخرج فيها أحد زبائنه. وعلى رغم ما كان في القاعة من وسائل التدفئة الكافية، فإن هذه اللغمة القاسية كانت تكفي لسريان القشعريرة في جسد الجميع.
وكان سيرل برتراند، الرسام الشاب، قد اتخذ لنفسه مكانا منعزلا في القاعة، وجلس يرتشف قهوته وهو يفكر فيما قاله أستاذه الكبير أنجر عن صورته الجديدة.
وأبرقت أسارير وجهه في ابتسامة خفيفة وهو يستعيد في سرور ونشوة كلمات أستاذه المشجعة.
ولقد كان لبرتراند هيئة جميلة جذابة رغم شعره الطويل ولحيته غير الممشوطة على طريقة أهل مونتمارتر، وكان لون شعره ولحيته الكستنائي الغامق يندر وجوده بين أهل الشمال، وكان كثير من النساء يطرين حسن هيئته، ويعشقن عينيه السوداوين اللتين تفصحان - كما يقلن - عن معان أوضح من كلمات الرجال الآخرين.
لم يكن يعرف أحد عن سيرل أكثر من أنه قد بدأ حياته صبيا يشتغل في استديو الرسام الكبير أنجر؛ ينظف أدواته ويغسل الفرش في آخر كل يوم، أما الآن فقد اتخذ له استوديو خاصا في مدينة «ريمو». وكان قد أوصل صورة إلى صالة العرض فرفضت. وليس في هذا غرابة؛ فإن كثيرا من عظماء الرجال قد بدءوا حياتهم الفنية على هذا المنوال. ولقد كان يكسب بعض المال بقيامه برسم نماذج للقبعات والملابس لمحل كبير في البوليفار، وكان يرسل كل عام صورتين إلى صالة العرض، ولكنهما تعودان إلى الاستوديو ثانية مصحوبتين بعبارة الرفض المؤدبة: «اللجنة تأسف ...» على أن هذا الفشل المتكرر لم يؤثر في نفسية برتراند؛ فقد ظل رغم هذا مرحا طروبا قانعا بما قسم له مترقبا الفرصة للنجاح.
والواقع أن هذه الطباع المشرقة قد جعلته محبوبا لزمرة أولئك البوهيميين المسرفين، وكانت «فتيات الموديلات» يعجبن به، حتى إن ميمي - تلك الفتاة الشقراء اللعوب، التي اشتهرت باسم «فينوس الجيوب» - صرحت مرارا بأنها تحب مجالسة المسيو برتراند عن غير الفنانين، ولو أنها تجد في طباعه شيئا من الغرابة! والواقع أن ميمي وأمثالها كن صادقات فيما قلنه عن برتراند، وعلى الأخص بعد أن رسم صورة الآنسة كريستوف وحصل على أجر كبير في مقابل رسمه.
لقد تغيرت أحوال برتراند فعلا بعد انتهائه من رسم هذه الصورة، فكان يغرق أحيانا في صمت طويل، وأصبح ضحكه ومرحه أشبه شيء بقناع متكلف يجبر نفسه على لبسه بين الناس، حتى إذا كلمه أحد وهو يشتغل أو أثناء تناوله الطعام، وقف عن الحركة وحملق فيه بعينيه كأنما قد أوقظ بغتة من حلم عميق.
والحق أن سيرل برتراند أصبح رجلا آخر منذ أن قام بعمل صورة لفيرونيك كريستوف، لقد كان هذا حادثا عجيبا في حياته، وكان يظن أن المسألة في بادئ الأمر بعد أن أعطي الإذن بعمل الصورة لا تعدو أن تكون خطوة موفقة في سبيل نجاحه الفني، ولقد فرح بهذا كل الفرح؛ فقد وضع قدمه فوق أول درجة من سلم النجاح، وتقوى بهذا أمله في الوصول إلى القمة وتحقيق أحلامه الذهبية.
لقد عرفه ألبرت كريستوف أغنى رجال المال في أوروبا عندما كان يزور معرض الخريف، وبعد أيام ذهب السيد كريستوف إلى استديو الفنان في «مدينة ريمور»، وأعطاه أمرا بعمل صورة للآنسة فيرونيك كريستوف ابنته، وقال للفنان إنها لا تستطيع أن تجلس أمامه أكثر من ثلاث جلسات فقط؛ إذ إن معظم وقتها مشغول في شئون اجتماعية هامة. ثم عرض عليه في مقابل قيامه بالصورة مبلغ 7 آلاف فرنك! ولم يدر برتراند في البدء أيضحك أم يطرد ذلك الزائر؛ فقد ظن أنه في عرضه لهذا المبلغ الكبير إنما يسخر منه، غير أن السيد كريستوف لم يكن من ذلك الصنف من الرجال الذين يسخرون هذا النوع من السخرية، حتى إنه في مدة خمس دقائق كان قد عقد الصفقة.
Bog aan la aqoon