ربما يساعد هذا على اعتبار جلجاميش صورة مبكرة جدا من صور «الرواية التربوية» والتعليمية التي ازدهرت في الأدب الغربي منذ أوائل القرن التاسع عشر، وهي روايات تتابع تطور البطل في معرفته بنفسه وبالعالم والمجتمع، وتحوله من الاغتراب عن الذات إلى الانتماء إليها، ومن التبدد والضياع إلى معرفة النفس وتحديد دورها وواجبها في العالم والواقع، فهل يمكننا القول بأن كاتب جلجاميش أو كتابها قد قصدوا إلى هذه المهمة التعليمية والتربوية غير المباشرة بطبيعة الحال، فأرادوا أن يصححوا نموذج المستبد الشرقي العريق باختيار أشهر ممثليه في هذه الحضارة وإصلاح انحرافه وفساده بحيث يكون عبرة لغيره من مسوخ الطغاة المتتابعين، وأمثولة تقول لكل مستبد نرجسي وانتهازي مثله: قد كنت كذلك وطغيت، لكني الآن تطهرت؟!
هل حاولوا - بالأسلوب الشعبي البسيط الهادئ الذي يكتفي بالتلميح دون التصريح - أن يعبروا كذلك عن تحول جلجاميش من أحلامه المستحيلة المشوشة إلى الحلم الواقعي بإقامة «وطن الإنسان» الدافئ بالحرية والعدل والبناء، الزاخر بالمشكلات «الحقيقية» التي تؤرق الناس في حياتهم «هنا والآن» دون التوقف عن متابعة الحلم وتدعيم أسس ذلك الوطن المأمول؟ أليس هذا أمرا ممكنا وجزءا من مضمون «الرسالة» التي يبلغها هذا العمل إلينا، كما بلغها لمستمعيه وقرائه الأقدمين؟! (16) يخيل إلي كذلك أن «جلجاميش» تعبر عن أول صورة من صور الاعتراف «باللحظة الخصبة الممتلئة» (كما أشار إليها بندار في أناشيده البيتية وكما سماها جوته ونيتشه وأفاض مؤخرا في وصفها الفيلسوف الماركسي إرنست بلوخ في كتابه الأكبر مبدأ الأمل)، لقد شبهها القديس أوغسطين (354-430م) بالقوس المتوتر بين لحظة ماضية ذهبت بغير عودة وإن بقيت ذكراها في الذاكرة، ولحظة لم تأت بعد ولم يزل القوس مشرعا عليها بكل ما فيه من طاقة الحلم والتوقع والتأهب.
هذه اللحظة الممتلئة المظلومة دائما؛ لأنها زائلة ولا وجود لها في حساب الزمن الفلكي والموضوعي، هي في الحقيقة لحظة الوعي والفعل وحقل الإنتاج والإبداع الإنساني الوحيد، وكل «مفارقة» الوجود الإنساني تكمن في هذه اللحظة التي نهملها عادة ونتركها تفلت من أيدينا ولا ننتبه إليها - إن فعلنا على الإطلاق! - إلا في المواقف الحاسمة في حياتنا الفردية والجماعية حين نمسك بها ونصب فيها عرقنا ودمنا، ونحرك حقلها بجهدنا وتعبنا، وبذلك نحقق معنى وجودنا و«ذواتنا » الفردية والجماعية، ونواجه هاوية الموت الحتمي و«خرونوس» الفاغر فاه لابتلاعنا ونحن نصيح به: ها نحن قد استطعنا أن نتحداك ونترك وراءنا «خلودنا الصغير» الذي حاولنا به مقاومتك! (لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن تصور أساطير الإغريق البديعة الذكية تلك اللحظة المواتية العابرة - «الكايروس» - في صورة ربة جميلة ينبت في قدميها جناحان وتمسك في يدها سكينا أحد وأمضى من الريح، وتتدلى من جبهتها خصلة شعر يتحتم على من يجدها أن يقبض عليها من فوره؛ لأنها إذا فاتته فلن يستطيع أن يمسك بها أبدا مهما جرى وراءها - إذ أن رأسها من الخلف صلعاء! - ولن تترك له إلا الحسرة والندم والخذلان ...)
17
ولعل إشراقة اليقين بمسئولية هذه اللحظة الموجودة والمعدومة في وقت واحد - لأن وجودها أو عدمها، وتحقيقها أو التفريط فيها رهن بمدى شعورنا بحريتنا ومدى وعينا بالواجب الذي تفرضه علينا - لعلها قد أشرقت في نفس جلجاميش - التي اغتسلت بدموع الندم - لحظة أن وقعت عيناه على السور والأبراج البعيدة، وربما يكون قد صمم في تلك اللحظة ذاتها على أن يضع يده في يد شعبه ليعاهده على المزيد من البناء والتأسيس؛ أي على الشكل الأسمى للإبداع في ذلك الزمان، والاحتمال غير مستبعد وإن لم تجد علينا يد الزمان ولا أيدي علماء الآثار والحفريات بالشواهد والأسانيد التي تعززه من خلال أعماله وتفاصيل حياته بعد رجوعه إلى مسقط رأسه.
ومع ذلك فلا بد أن نسأل أنفسنا: ألا يمكن أن يكون رفض جلجاميش لكأس اللحظة واللذة العابرة من يد ساقية الحان سيد ورى، ثم ثورته على الحياة الخاملة التي يعيشها جده «الخالد» أو تنابشتيم، نوعا من رفض الحياة بلا خلود، والثورة على الخلود الممل بلا حياة، أي نوعا من الاقتراب من الوعي بلحظة الخلود أو باللحظة الخالدة
18
التي وصفناها باللحظة الخصبة الممتلئة؟! (17) وأخيرا فقد ذكرت من قبل أنني أتصور جلجاميش في صورة «النموذج الأول» أو «النمط الأصلي» الكامن في أغوار اللاوعي الجمعي للمستبد الشرقي بوجه عام والعربي السامي بوجه أخص. تغلغل هذا النموذج في أقدم طبقات الوعي كالعنكبوت أو الأخطبوط الذي يلتف حول نواته منذ أقدم العصور، استقر فيه وتمكن منه وأقام عرشه المرعب، وراح يجدده بمختلف وسائل القمع والتخويف والتعذيب والإرهاب التي تجددت كذلك أشكالها ونظمها وفنونها عبر العصور.
وإذا كان كتاب جلجاميش - إذا صح الفرض الذي قدمته - قد حاولوا تصحيح هذا النموذج وتقديم أمثولة المستبد المتطهر لتتعلم منها الأجيال اللاحقة معاني الثورية الصادقة، فلم يزل العنكبوت-الأخطبوط ينسج خيوطه اللعينة في ظلمات اللاوعي الفردي والجمعي وفي ضوء الوعي أيضا، ولم يزل ينفث حمم مصائبه ولعناته وأهواله المشئومة كلما تصورنا أننا اقتربنا من تثبيت أقدامنا على درب التحرر والتقدم والاستنارة، وبعيدا عن لغة المجاز أقول باختصار: إن هذه هي قضية القضايا في حياتنا الراهنة، وليس ثمة قضية أخرى أولى منها بالتفكير والكتابة والتحليل والعلاج، خصوصا بعد محنة عربية لم يكتف فيها الأخطبوط-العنكبوت المتجدد بتدمير بلدين عربيين، وسوق عشرات الألوف إلى المذبحة، وتمريغ تراث حضاري كامل في الوحل، بل ما يزال ينسج خيوطه ويدبر لمحن أخرى ربما تكون أدهى وأمر.
ولا بد أن يثير النموذج القديم المتجدد أسئلة من هذا النوع: إلى أي حد يمكن القول بأن تراث الماضي يؤثر على الحاضر والمستقبل، وأن بعض رواسبه من أقدم العهود ما تزال فعالة إلى يومنا الراهن (لا سيما تلك الرواسب التي تتمثل في صوره اللا إنسانية القبيحة وقيمه السلبية لا في جوانبه الحضارية والإنسانية الحية المشرقة؟) وإذا كان التراث - كما تدل التسمية نفسها - هو فعل البشر وإنجازهم في الزمان والتاريخ، فمتى ندرك أن التراث متجدد، وأنه يطالبنا دائما بمراجعته ونقده وتجاوزه بصنع تراث آخر له قيم أخرى، تحول القديم وتغيره، ثم لا تلبث أن تصب في النهر الكبير المتدفق الذي صنعه الموتى ويواصل الأحياء صنعه؟ متى نعلم أن «التراث» بمعناه الحقيقي هو ثورة الأقدمين الذين ذهبوا، وأن الثورة والتقدم والنهضة والاستنارة هي تراث الحاضرين والقادمين الذين لم يأتوا بعد؟ وإذا كنا قد ورثنا ركاما ضخما من التقاليد - أو الرذائل الموروثة! - وأنماط التفكير والشعور والسلوك المتخلفة بكل المقاييس الإنسانية والعلمية، فمتى نلقي بها في متاحف التاريخ أو مزابله؟ ومتى تصح عزيمتنا على التغيير الذي أثبتت أقسى التجارب في تاريخنا - وآخرها المحنة الأخيرة - أننا عاجزون عنه أو خائفون منه أو رافضون له؟ وإذا كنا قد وصلنا إلى حضيض التناقض الرهيب الذي يتمثل - كما قلت في موضوع آخر - في التدمير الذاتي أو الانتحار الجماعي المتزامن مع التطلع المستمر للتحرر والتحضر والتقدم ... إلخ، فإلى متى نصبر على تسلط بعضنا على بعض، وأكل الأخ منا لحم أخيه، والوقوع في شبكة تدميرنا لأنفسنا بأنفسنا كما تفعل حيوانات شرسة آن أوان انقراضها، بينما «الصياد» الجشع الحقود يتلذذ بالتفرج علينا ويعمل على تصفية وجودنا المادي والمعنوي وإقامة دولته الكبرى على أشلائنا وبقايانا؟ وإذا كان التسلط والاستبداد وسائر ما يقترن بهما
Bog aan la aqoon