تصدير
1 - مذهب الملامتية
2 - رسالة الملامتية ومؤلفها
أهم المراجع
تصدير
1 - مذهب الملامتية
2 - رسالة الملامتية ومؤلفها
أهم المراجع
الملامتية والصوفية وأهل الفتوة
الملامتية والصوفية وأهل الفتوة
تأليف
أبو العلا عفيفي
تصدير
ظهرت في النصف الثاني من القرن الثالث الهجري بمدينة نيسابور بخراسان فرقة من فرق الصوفية أطلق عليها اسم الملامتية أو الملامية، أسسها رجال من أصدق رجال الطريق في ذلك القرن الذي امتاز في تاريخ التصوف الإسلامي بالورع والتقوى الحقيقيين، كما امتاز بقوة العاطفة الدينية وجهاد النفس العنيف، ومحاربتها ومحاسبتها على كل ما فرط منها وما يحتمل أن يفرط منها. وليس مسلك الملامتية إلا صورة من صور الزهد الغالبة في ذلك العهد، لها خصائصها ومميزاتها الإقليمية، إن صح هذا التعبير. أقول من صور الزهد، ولا أقول من صور التصوف؛ لأن مسلك الملامتية مسلك عملي من أوله إلى آخره، ومجموعة من الآداب يقصد بها إلى مجاهدة النفس ورياضتها مجاهدة ورياضة تؤديان بالسالك إلى إنكار الذات، ومحو علائم الغرور الإنساني، وإطفاء جذوة الرياء في القلب، أكثر من تأديتهما إلى أحوال الجذب والمحو والفناء والاتصال والسكر والجمع، وما شاكل ذلك من الأحوال التي تكلم فيها غيرهم من الصوفية ورسموا الطريق لتحقيقها. بل إن كانت ميزة يمتاز بها مذهب الملامتية حقا، فهي محاربتهم في تعاليمهم كل مظاهر التصوف السابقة، ومحاولتهم الرجوع بالزهد الإسلامي إلى سيرته الأولى البسيطة.
وليس للملامتية كتب مؤلفة كما يقول السلمي صاحب الرسالة التي سننشرها في القسم الثاني من هذا البحث؛ فإنه لم يؤثر عن أحد من أشياخهم أنه كتب في طريقتهم كتابا، أو على الأقل لم يصل إلينا علم بمثل هذه الكتب على افتراض وجودها. وأكبر الظن أنه لم تكن لهم طريقة منظمة وقواعد ثابتة مقررة وأتباع ينتمون إلى المشايخ انتماء أهل الطرق المتأخرين، ولكن كانت لهم صفات وآداب تكفي في التمييز بينهم وبين طوائف الصوفية الأخرى ممن عاصروهم أو عاشوا بعدهم. وكان لشيوخهم أتباع غير قليلين في البيئة التي نشأ فيها مذهبهم: أعني خراسان، ونيسابور منها خاصة. وإنما الذي أثر عن الملامتية أقوال لها طابع خاص، نجد بعضها في رسالة السلمي المذكورة، وبعضها في تراجم رجال الملامتية في كتب طبقات المشايخ، وفي معرض التمثيل والاستشهاد في مصادر التصوف الأخرى ككتاب اللمع للسراج، والتعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي، والرسالة للقشيري، وقوت القلوب لأبي طالب المكي، وعوارف المعارف للسهروردي، وكشف المحجوب للهجويري، والفتوحات المكية لمحيي الدين بن عربي، وخصوصا في هذا الأخير الذي خص مؤلفه الملامتية بكثير من العناية، ورفعهم إلى مقام في الولاية لا يدانيهم فيه أحد. أما الإشارة إلى شيوخ الملامتية وأقوالهم وآدابهم في الكتب التي ألفت قبل السلمي فقليلة مقتضبة، وفي أغلب الأحيان عرضية. والأمر على خلاف ذلك في كتب التصوف التي ظهرت بعد عصر السلمي وبعد كتابته لرسالته في هذه الطائفة وأصول مذهبها، أمثال كشف المحجوب، وعوارف المعارف، والفتوحات؛ فإن في هذه الكتب عبارات وافية ضافية في شرح معنى «الملام» و«الملامتية»، وإشارات عديدة إلى أقوال حمدون القصار وأبي حفص الحداد وأبي عثمان الحيري وغيرهم من رجال هذه الطائفة الأولين، كما أن فيها دفاعا حارا أحيانا عن أساليب الملامتية وآدابهم في الطريق الصوفي، ومقارنة بينهم وبين الصوفية وما إلى ذلك. وليس لهذه الظاهرة تعليل عندي إلا أن الكتاب الذين كتبوا في الملامتية بعد ظهور رسالة السلمي قد اقتبسوا مما كتبه في هذا الموضوع، وأفاضوا في شرح ما أجمل في كلامه عن أصول تعاليم هذه الفرقة، فكانوا في ذلك عيالا على السلمي ورسالته التي لا مناص من اعتبارها المرجع الأول والمصدر الأساسي في دراسة الملامتية. وليس الدليل على صحة ما ذهبت إليه بعزيز؛ فإن الشواهد التي تدل على اعتماد أولئك الكتاب على رسالة السلمي وأخذهم عنه كثيرة وقوية، كما سيتبين للقارئ عندما نعرض للكلام عن مذهب الملامتية في هذا البحث.
وإذا كان للملامتية، من حيث هم فرقة من فرق التصوف بمعناه العام، منزلة لا تجحد في تاريخ الفرق الإسلامية، وإذا كان لتعاليمهم وآدابهم أثر ظاهر في تطور الحياة الروحية في بعض نواحي العالم الإسلامي على الأقل، وهو أثر تجاوز موطن الملامتية الأصلي في خراسان إلى غيره من بلاد المسلمين، وظل يلعب دورا هاما في بعض الأقطار الإسلامية الشرقية - لا سيما تركيا - إلى عهد قريب. إذا كان كل ذلك أمكن أن يدرك القارئ القيمة العلمية والتاريخية لهذه الورقات التي ننشرها في القسم الثاني من هذا الكتاب، وهي رسالة السلمي عن فرقة الملامتية وأصول مذهبهم.
وبالنظر الدقيق في الأقوال المأثورة عن رجالهم، مما رواه السلمي في رسالته، وما نجده في تراجم مشايخ خراسان، نستطيع أن نؤلف صورة عامة - قد يعوزها الكثير من التفاصيل - عن طريقة الملامتية وتعاليمهم. ولم يعمل السلمي أكثر من أنه جمع ما وصل إليه من أقوال هؤلاء المشايخ، وما عرفه من تقاليدهم وعقائدهم وأحوالهم التي تميزوا بها من غيرهم، ووضع كل ذلك في صورة «أصول» توضح الأسس التي قامت عليها طريقتهم، تاركا أقوالا أخرى كثيرة لهم يتفقون في جوهرها مع غيرهم من رجال التصوف، معززا هذه الأصول بشواهد من القرآن أو الحديث أو أقوال بعض الصحابة وقدماء المشايخ. كما أنه لم يذكر - على حد قوله - إلا أطرافا من هذه الأقوال «يستدل بها على ما وراءها» تاركا للقارئ البحث عما هنالك من المعاني المستترة وراء تلك الأقوال، والبحث عن أقوال أخرى للملامتية لم يصل إليها علمه، أو علمها ولم يشأ أن يذكرها. وكأن السلمي يشير بذلك إلى أنه يخاطب برسالته عامة الناس الذين يقنعون من الأقوال بظواهرها، تاركا تفهم دقائق المذهب الملامتي وتعرف الروح الحقيقي فيه إلى خواص القراء الذين لهم ذوق في إدراك معاني القوم ونكاتهم. وقد كان له فضل السبق في هذا الميدان - كما قلنا - لأنه أتيح له من الفرص ما لم يتح لغيره من مؤرخي التصوف: فقد كان - إلى جانب علمه الواسع بتاريخ الصوفية ومذاهبهم - حفيدا لشيخ من أكبر مشايخ الملامتية هو أبو عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي، آخر من مات من أصحاب أبي عثمان الحيري النيسابوري. وقد لزم السلمي جده وهو في صباه، وعرف منه أسرار الملامتية، وإن كان معروفا أنه لم يكن في وقت من الأوقات ملامتيا.
على أن السلمي لم يصور مذهب الملامتية بالصورة التي يرتضيها الباحث المتعطش لمعرفة هذا المذهب، وإن نجح - إلى حد ما - في تأليف طائفة من الأصول تبلغ نيفا وأربعين أصلا، تكفي في تمييز أهل الملامة من غيرهم من رجال التصوف المعاصرين لهم، كما تضع حدا فاصلا بين تعاليم الملامتية الأولين ومذهب الملامتية المتأخرين الذين نزلوا بهذا المذهب إلى أحط درجات الفساد والتدهور. وهذا المذهب الأخير - لسوء الحظ - هو الذي يفهمه الناس عادة من اسم الملامتية، وهو مقرون بمعنى العبث بأمور الدين والتراخي في العبادات، والمباهاة بالفجور والمعاصي، كما يقرن اسم الكلبيين من اليونان بما كان عليه متأخروهم من انحطاط في الأخلاق وانغماس في جميع ألوان الرذيلة، وينسى ما كان عليه سلفهم من نبل المبادئ وبعد النظر الفلسفي.
وهنالك مسألة أخرى وهي: هل الصورة التي وضعها السلمي في رسالته - على نقصها - صورة حقيقية تعبر تعبيرا صادقا عن طائفة الملامتية وآدابهم وتعاليمهم؟ أم هي من نسيج خيال المؤلف ومن وضعه، وليس لها أساس تاريخي تستند إليه؟ الحق أن جوابا قاطعا عن هذا السؤال متعذر - إن لم يكن مستحيلا - في وقتنا الحاضر الذي يجب أن نعترف فيه بجهلنا بكثير من حقائق التصوف وتاريخه. فمن المستحيل أن نقطع بأن الأقوال التي رواها السلمي لشيوخ الملامتية كانت حقا من ألفاظ أولئك المشايخ؛ لأن كثيرا منها لا وجود له في غير كتبه التي منها رسالته هذه، أو لا وجود له إلا في الأقوال التي رواها عنه بإسناداته بعض تلاميذه كالقشيري وأبي نعيم. على أننا إذا افترضنا أن بعض هذه الأقوال ليس بالفعل من العبارات التي فاه بها شيوخ الملامتية - بالرغم من نظام الرواية الدقيق الذي يتبعه المؤلف وما يذكره من الأسانيد - فإن هذا لا يقدح في أن المعاني التي تعبر عنها هذه الأقوال، والتعاليم التي تشير إليها هي في صميم مذهبهم. ولكن عدم توافر المراجع الأخرى التي قد نستطيع عن طريقها تحقيق رواياته يفسح المجال للتهم التي وجهها إليه من يرميه بأنه مؤرخ غير ثقة من شأنه أن يضع للصوفية الأقوال والأحاديث، وهذه مسألة سنعرض لها عند ترجمته.
هذا وقد سبقني إلى البحث في رسالة السلمي الأستاذ ريتشارد فون هارتمان
1
جعل غايته منه كما يقول: «دراسة الرسالة نفسها لا الملامتية ولا مذهبهم.» أما دراسته للرسالة فلم تتعد تلخيصها وترجمة أهم أجزائها إلى اللغة الألمانية، ومقارنة رواياتها وأسانيدها بعضها ببعض، واستخلاص بعض أسماء الرواة الذين رووا لفلان أو عن فلان، وذكر ترجمات قصيرة لبعض رجال الملامتية اعتمد فيها الكاتب - في أغلب الأحيان - على رسالة القشيري وحدها، أو عليها وعلى طبقات الصوفية للشعراني. وقد ذكر فون هارتمان كلمة موجزة عن منزلة مذهب الملامتية من تاريخ الأديان، كما عرض لتفنيد رأي الأستاذ جولد زيهر في أن مذهبهم متصل بمذهب الكلبيين اليونان. ولمقال فون هارتمان قيمته من حيث تحقيق الغرض الذي توخاه منه، ولكنه ليس أكثر من محاولة أولية محدودة درس فيها بعض نواحي رسالة السلمي دراسة سطحية على ضوء المراجع القليلة التي رجع إليها، تاركا الجزء الأكبر من الموضوع من غير أن يمسه: أعني مذهب الملامتية كما هو وارد في الرسالة وفي غيرها من كتب التصوف الأخرى، وتاريخ هذه الفرقة ونشأتها، والفرق بين تعاليمها وتعاليم الصوفية. وهذه هي المسائل التي جعلتها موضوع بحثي في القسم الأول من هذا الكتاب، وسأعرض فيه كذلك لما بين الملامتية والصوفية وأهل الفتوة من صلات.
القسم الأول
مذهب الملامتية
نشأته التاريخية والصلة بين تعاليم الملامتية وتعاليم الصوفية وأهل الفتوة (1) معاني الملامة والفتوة والتصوف والصلة بينها
مضى نحو قرن من الزمان على ما كتبه العلامة «فون هامر» في المجلة الآسيوية
1
في موضوع الفتوة الإسلامية وصلتها بالفروسية الغربية، وأهمية دراسة الفتوة الإسلامية والحضارة الإسلامية عامة في فهم الفروسية المسيحية. وكان هذا أول ما كتب في الموضوع بطريقة علمية دقيقة. وكذلك ألقى العلامة «كاترمير» بعض الضوء على هذا الموضوع الغامض المتشعب الأنحاء في بعض تعليقاته على كتاب السلوك للمقريزي.
2
ولكن لم يظهر في الفتوة الإسلامية كتاب أو مقال ذو بال حتى نشر الدكتور «ثورننج»
3
سنة 1913 كتابه الجامع الذي ألم فيه بأطراف لم يعالجها من قبله واستند فيه إلى وثائق تاريخية هامة. وقد ظهرت مقالات أخرى قيمة في المجالات العلمية الألمانية لأمثال الأساتذة تشنر وفون هارتمان وشاخت؛
4
إلا أن هذا الموضوع الحيوي العظيم لم يلق بعد - لسوء الحظ - من العناية بدارسته دراسة مستفيضة ما هو جدير به. والحق أنه موضوع شاق عسير، أصعب ما فيه جمع مادته من بطون الكتب التاريخية والأدبية والصوفية وكتب الرحلات وغيرها، ولكن قيمته لا تقدر في تفسير كثير من النواحي الغامضة في التاريخ والأدب والتصوف والحياة الاجتماعية الإسلامية، وفي إيضاح العلاقات بين الجماعات التي خضعت لنظام الفتوة والتصوف وجماعات الفروسية المسيحية في القرون الوسطى.
ولست أقصد في هذا القسم إلى معالجة هذا الموضوع الواسع معالجة تفصيلية، ولا أن أعرض لمسألة نشأة نظام الفتوة في الإسلام أو في الأمم ذات الحضارة القديمة التي فتحها المسلمون، ولكني آمل أن أوضح - بقدر ما تسمح به النصوص التي بين يدي - نواحي الشبه وجهات الفرق بين المعاني الأساسية للتصوف والفتوة والملامة، وأحدد الصلة بينها منذ نشأة الملامتية الأوائل في القرن الثالث الهجري؛ وهي مسألة لم يمسسها - إلا من طريق عرضي - أحد ممن كتبوا في الفتوة أو في التصوف؛ فإنهم درسوا نظم الفتوة الإسلامية إما من ناحية صلتها بالفروسية المسيحية كما فعل فون هامر، أو من ناحية ما تمتاز به الفتوة من صفات عامة ثم ظهورها في صورة الفتوة الأرستوقراطية في عهد الخلفاء العباسيين، ثم انتشارها بين طبقات الشعوب الإسلامية الوسطى في ندوات أهل الحرف والصناعات كما فعل فون هامر وثورننج، أو من ناحية صلة الفتوة بالتصوف في كلمات عابرة قد تخلو أحيانا من دقة في التحليل كما فعل «هورتن».
5
ولم يطرق أحد موضوع الصلة بين الفتوة والملامة إلا ريتشارد هارتمان في مقال خاص تحت عنوان «الفتوة والملامة»؛
6
ولكنه لم يعرض للموضوع الأساسي لمقالته إلا في الصفحتين الأخيرتين منها معتمدا على بعض فقرات وردت في رسالة الملامتية للسلمي ورسالة التصوف للقشيري.
ونحن لا نزال نشعر بالحاجة إلى مراجع أغزر مادة في هذا الموضوع، وإن كانت رسالة السلمي في الملامتية قد تلقي كثيرا من الضوء على الجزء الأخير من هذا البحث لو حللت بعض نصوصها وقورنت بنصوص أخرى كالتي وردت في رسالة القشيري، وفي فتوحات ابن عربي، وكشف المحجوب للهجويري، وعوارف المعارف للسهروردي؛ وهذا ما حاولت القيام به في هذا القسم من الكتاب.
أما الملامية - أو الملامتية على غير قياس - فيكاد ينحصر علمنا بهم فيما أورده السلمي في رسالته وما أورده كتاب الطبقات عن مشايخهم مما أخذوه عن السلمي. ولا نكاد نتبين في وضوح شخصية الملامتية ولا الفكرة الأساسية في مذهبهم خلال ما ورد من تعاليمهم في رسالة السلمي لأنها في جملتها مصبوغة بصبغة سلبية.
فالصفات التي يجب ألا يتصف بها الملامتي أكثر من الصفات التي ينبغي أن يكون عليها، والأفعال التي يطالب بتركها أهم من تلك التي يطالب بالقيام بها. والتعاليم التي يفرضها الملامتية على مريديهم لا تكاد تعدو سلسلة من النواهي في تحريم كذا أو كراهية كذا أو إنكار كذا. ولكننا بالرغم من هذا نستطيع أن نتبين إلى حد كبير بعض الفوارق التي يتميز بها الملامتي من غيره من الناس، صوفيين كانوا أم غير صوفيين أكثر مما نتبين نوع الحياة الروحية التي يحياها.
فالملامتي مثلا مطالب بألا يظهر عبادته أو ورعه وزهده أو علمه أو حاله، وهو لا يتكلم في الإخلاص بقدر ما يتكلم في الرياء الذي هو نقيض الإخلاص، ولا يتكلم في فضائل النفس وكمالاتها بقدر ما يتكلم في عيوب النفس وآفاتها ورعوناتها. ولا يطالب نفسه بما يقوم النفس ويهذبها بقدر ما يفرض على نفسه اتهام النفس وتحقيرها ومصادرتها في جميع رغباتها ومطامعها. وهو يفضل الكلام عن نقائص الأعمال ومساويها على الكلام في مناقب الأعمال ومحاسنها.
وإنك لتجد هذه الصفة السلبية منعكسة حتى في الاسم الذي اختارته هذه الطائفة لنفسها، فاسم الملامتية مشتق من الملامة التي هي بخع وتأنيب للنفس.
وربما كان لهذا الأسلوب من التعليم ما يبرره - كما سيتضح لك فيما بعد - لأن الملامتية قوم ثائرون على الكثير مما كان مقررا ومعترفا به عند الصوفية وغيرهم من رجال الدين. فمن الطبيعي أن يضعوا ذلك النظام السلبي ليقاوموا به نظاما لم يرضوا عنه؛ ومن أجل ذلك أطلقوا هذا الاسم على أنفسهم في مقابل اسم الصوفية الذي كان يسمى به أهل العراق أولا. وقد اختص بهذا الاسم «الملامتية» أهل خراسان. يقول السهروردي صاحب عوارف المعارف: «ولم يزل في خراسان منهم طائفة ومشايخ يمهدون أساسهم ويعرفونهم شروط حالهم. وقد رأينا في العراق من يسلك هذا المسلك ولكن لم يشتهر بهذا الاسم. وقلما تتداول ألسنة أهل العراق هذا الاسم.»
7
وليس ببعيد أن يكون اسم الملامتية متصلا ببعض الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر اللوم، كقوله تعالى:
ولا أقسم بالنفس اللوامة ،
8
وقوله:
يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ؛
9
فإن الآية الأولى تعلي من شأن النفس اللائمة لصاحبها، المؤنبة المحاسبة له على كل ما يصدر منه، وهي النفس الكاملة في الاصطلاح الملامتي. وتذكر الآية الثانية من صفات عباد الله الذين يحبهم ويحبونه أنهم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، وأنهم في جهادهم في سبيل الله وإخلاصهم في ذلك الجهاد لا يخافون في الله لومة لائم ولا يكترثون بمدح الناس وذمهم. فإذا فهمنا الجهاد بالمعنى الصوفي أو الملامتي - أعني جهاد النفس - أدركنا أن الآية تشير إلى أخص صفات الملامتية، وأنها تصلح لأن تتخذ أساسا لمذهبهم وتكون مصدرا لاسمهم. ومما يعزز هذا الفرض قول حمدون القصار - وهو من أكابر مشايخهم وأوائل مؤسسي فرقتهم - وقد سئل عن طريق الملامة فقال: «ترك التزين للخلق بحال وترك طلب رضاهم في نوع من الأخلاق والأحوال، وألا يأخذك في الله لومة لائم.»
10
ولكن ما المراد بالملامة التي ينتسب إليها الملامتية؟ أهي لوم الملامتي نفسه، أو لوم الناس إياه، أم لوم الملامتي الدنيا وأهلها؟ أما لوم الدنيا فليس من نظام الملامتية في شيء لأن في تعاليمهم الصريحة النهي عن ذم الدنيا. رأى أبو حفص النيسابوري بعض أصحابه وهو يذم الدنيا وأهلها فقال: «أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه. لا تجالسنا بعد هذه ولا تصاحبنا.»
11
وأما المعنيان الآخران فيدخلان في جوهر الفكرة الملامتية وإليهما يشير كثير من تعريفاتها. ذلك أن الملامتي لا يرى لنفسه حظا على الإطلاق ولا يطمئن إليها في عقيدة أو عمل ظنا منه أن النفس شر محض وأنها لا يصدر عنها إلا ما وافق طبعها من رياء ورعونة؛ ولذلك وقف منها دائما موقف الاتهام والمخالفة، وهذا هو المراد بلوم النفس.
12
ومن ناحية أخرى يرى الملامتي أن معاملته مع الله سر بينه وبين ربه لا يصح أن يطلع عليه غيره، فهو حريص على كتمان ذلك السر، غيور على محبوبه أن يطلع الخلق على صلته به، فهو يظهر للخلق بآداب العبودية ويحفظ سره مع الله. بل إن الملامتية - خوفا من أن تنكشف أحوالهم وأسرارهم التي يضنون بها على الخلق، وخشية من أن يتسرب الغرور إلى نفوسهم إذا ظهروا للناس بما يوجب مدحهم - تعمدوا فعل ما يجلب عليهم من الخلق السخط والازدراء ويرسل ألسنتهم بالذم والتأنيب. وهذا هو لوم الناس إياهم. ويشير إلى هذا المعنى قول بعضهم: «الملامة ألا تظهر خيرا ولا تضمر شرا.»
13
وقول الآخر: «وأهل الملامة أظهروا للخلق ما يليق بهم من أنواع المعاملات والأخلاق وما هو نتائج الطباع، وصانوا ما للحق عندهم من ودائعه المكنونة.»
14
وإلى ملامة النفس وملامة الغير تشير عبارة أبي حفص وقد سئل عن مذهبه فقال: «أهل الملامة قوم قاموا مع الحق تعالى على حفظ أوقاتهم ومراعاة أسرارهم فلاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا من أنواع القرب والعبادات، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه وكتموا عنهم محاسنهم، فلامهم الخلق على ظواهرهم ولاموا أنفسهم على ما يعرفونه من بواطنهم.»
15
وهذا أكمل تعريف نعرفه للفكرة الأساسية في المذهب الملامتي، وفيه تظهر ناحيتا الملامة بكل وضوح كما تظهران في تعاليم الملامتية التي لخصها السلمي في رسالته وشرحنا أمهات مسائلها في هذا القسم عند الكلام على «أصول الملامتية».
ولا تكاد تخرج التعريفات العديدة التي أوردها السلمي لمذهب الملامتية عن هذا المعنى الذي أشار إليه أبو حفص . أما المعاني الصوفية التي تفرعت عن هذه الفكرة الأساسية كالإخلاص في الطريق، والرياء في القول والعمل والنية، ونحو ذلك، فقد عالجناها بشيء من التفصيل في جزء آخر من هذا البحث.
ويذهب ابن عربي الذي أفرد للملامتية صفحات عدة في كتابه «الفتوحات المكية» إلى أنهم اختصوا بهذا الاسم لأمرين: «الواحد يطلق على تلامذتهم لكونهم لا يزالون يلومون أنفسهم في جنب الله ولا يخلصون لها عملا تفرح به تربية لهم؛ لأن الفرح بالأعمال لا يكون إلا بعد القبول وهذا غائب عن التلامذة. وأما الأكابر فيطلق عليهم لستر أحوالهم ومكانتهم من الله حين رأوا الناس إنما وقعوا في ذم الأفعال واللوم فيها فيما بينهم لكونهم لم يروا الأفعال من الله وإنما يرونها ممن ظهرت على أيديهم، فأناطوا اللوم والذم بها، فلو كشف الغطاء ورأوا الأفعال لله لما تعلق اللوم بمن ظهرت على يديه، وصارت الأفعال عندهم في هذه الحالة كلها حسنة شريفة.»
16
ولا يخفى ما في عبارة ابن عربي هذه من إشارة إلى مذهبه في وحدة الوجود التي يهضم فيها فكرة الملامتية كما هضم غيرها من أفكار المذاهب الأخرى الصوفية وغير الصوفية.
ويضع ابن عربي الملامتية في أعلى درجات السالكين من أهل الله ويعتبرهم الكاملين من أهل الطريق؛ ولهذا يلتمس لاحتجابهم عن الخلق وظهورهم فيهم بما ينطق الناس بلومهم سببا آخر غير الذي ذكرناه: ذلك «أنهم لو ظهرت مكانتهم من الله للناس لاتخذوهم آلهة.» فلما احتجبوا عن العامة بالعادة انطلق عليهم في العادة ما ينطلق على العامة من الملام فيما يظهر عنهم مما يوجب ذلك. ثم يقول: «وهذه الطريقة مخصوصة لا يعرفها كل أحد، انفرد بها أهل الله.»
17
والملامتية فرقة متميزة من فرق زهاد المسلمين، لها طابعها الخاص وحياتها الروحية الخاصة بالرغم من أنهم يعتبرون عادة من بين طوائف الصوفية. وقد تنبه إلى الفروق الواضحة بين الملامتي والصوفي بعض رجال التصوف ومؤرخيهم؛ فأشار إليها السلمي في رسالته وابن عربي في فتوحاته والسهروردي في عوارف المعارف والتهانوي في كشافه. أما السلمي فيقسم أرباب العلوم والأحوال؛ أي أهل العلم الظاهر والعلم الباطن أو أهل الرسوم وأهل الحقائق، إلى ثلاثة أقسام: علماء الشريعة المشتغلين بظواهر الأحكام وهؤلاء هم الفقهاء، وأهل المعرفة بالله المنقطعين إلى الله الزاهدين فيما فيه الخلق من أسباب الدنيا الذين جعلوا همهم في الله فكانوا له وبه وإليه، وهؤلاء هم الصوفية. والطائفة الثالثة هم أولئك الذين زين الله بواطنهم بالقرب والاتصال به فلم يكن للافتراق إليهم سبيل، وقد غار الحق عليهم لئلا يعرف الخلق أحوالهم فأظهر للخلق منهم صفاتهم الظاهرة التي تدل على معنى الافتراق لكي يسلم لهم حالهم معه تعالى، وجعل من أسنى أحوالهم ألا يؤثر باطنهم في ظاهرهم لئلا يفتتن بهم الناس، وهؤلاء هم الملامتية، فالصوفية مع الله أشبه بموسى عليه السلام لما ظهر أثر باطنه في ظاهره عندما كلمه ربه فلم يطق أحد النظر إليه. والملامتية مع الله أشبه بمحمد عليه السلام، لم يؤثر باطنه في ظاهره بعد ما ناله من القرب والدنو عندما رفع إلى المحل الأعلى، فلما رجع إلى الخلق تكلم معهم في أمور دنياهم كما لو كان واحدا منهم، وهذا أكمل العبودية.
18
فالفرق الأساسي بين الصوفي والملامتي في نظر السلمي هو أن الصوفي ينم ظاهره عن باطنه وتظهر عليه أنوار أسراره في أقواله وأفعاله؛ لذلك لا يتحرج الصوفي عن إظهار الدعاوى كما فعل الحلاج وغيره، ولا عن إعلان ما يفتح الله به عليه من أسرار الغيب، ولا عن الخروج إلى الناس بكرامة يظهرها الله على يديه. أما الملامتي فحفيظ على سر الله يكتم في نفسه ما بينه وبين ربه. ثم هو فوق ذلك لا دعوى له لأن الدعاوى في نظره رعونات وجهل، ودليل على عدم التحقق من التقصير. ولا يظهر الملامتي كرامة خوفا من أن تكون الكرامة ابتلاء من الله يمتحن بها غرور النفس وعجبها، وخوفا من أن يفتتن الناس به.
19
أما ابن عربي فيستعمل اسم «الملامتية» في معنى أوسع بكثير مما يفهمه السلمي، فهو لا يدل عنده على طائفة معينة من طوائف الزهاد، ولا يشير إلى وجهة نظر معينة في الدين أو في حياة الطريق الصوفي، بل هو اسم لصنف من أهل الله يعيشون في كل زمان ومكان لهم صفات خاصة يتميزون بها من غيرهم: يزيدون وينقصون بحسب الوقت الذي يظهرون فيه. وليس موطنهم خراسان ولا نيسابور ولا شيخهم حمدونا القصار ولا أبا حفص أو أبا عثمان الحيري، على الرغم من أنه يذكر من مشايخ نيسابور ممن تحقق بمقام الملامتية حمدونا القصار خاصة، كما يذكر من بين من تحقق بهذا المقام أبا سعيد الخراز وأبا يزيد البسطامي وأبا السعود بن الشبل وعبد القادر الجيلاني وغيرهم من مشايخ الصوفية على اختلاف طبقاتهم وبلادهم، ويعد نفسه واحدا من الملامتية إذ يقول: «وهو (أي مقام الملامتية) حالنا.»
20
بل إن ابن عربي يتوسع في معنى «الملامتي» إلى حد إطلاقه على النبي
صلى الله عليه وسلم
بدعوى أن مقام الملامتية هو مقام القرب من الله، وهو مقام
ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى .
21
وهو في هذا أكثر جرأة من السلمي الذي اكتفى بتشبيه الملامتي بمحمد والصوفي بموسى عليهما السلام بعد أن تجلى لهما ربهما.
ويقسم ابن عربي السالكين إلى الله إلى ثلاثة أقسام لا تختلف كثيرا عن الأقسام التي ذكرها السلمي. الأول العباد الذين غلب عليهم الزهد وأفعال الظاهر المحمودة وتطهير النفس من مرذول الأفعال. وهؤلاء لا علم لهم بالأحوال والمقامات والعلوم الدينية والأسرار. وإن قرأ أحد منهم شيئا كان كتابه «الرعاية» للحارث المحاسبي أو ما يجري مجراه.
22
الصنف الثاني هم الصوفية الذين يرون الأفعال كلها لله وأنه لا فعل لهم أصلا. وهم مثل العباد في الورع والزهد والتوكل، أهل خلق وفتوة، يظهرون في العامة بما ينالونه من الكرامات وخوارق العادات ولا يبالون بإظهار أي شيء يؤدي إلى معرفة الناس بمنزلتهم من الله لأنهم لا يشاهدون - في زعمهم - إلا الله. وهم بالنسبة إلى الملامتية أهل رعونات وأصحاب نفوس، وتلامذتهم مثلهم أصحاب دعاوى يظهرون الرياسة على عباد الله.
23
والصنف الثالث الملامتية وهم رجال قطعهم الله إليه وصانهم صيانة الغيرة عليهم لئلا تمتد إليهم عين فتشغلهم عن الله: «قد انفردوا مع الله راسخين لا يتزلزلون عن عبوديتهم طرفة عين، لا يعرفون للرياسة طعما لاستيلاء الربوبية على قلوبهم، وليس ثم من حاز مقام الفتوة والخلق مع الله دون غيره سوى هؤلاء ...»
24
أما الصفات التي اختص بها الملامتية كما يفهمهم ابن عربي فهي أنهم رجال لا يتميزون عن سائر المؤمنين المؤدين فرائض الله بحالة زائدة يعرفون بها، فهم لا يزيدون على الصلوات الخمس إلا الرواتب، يمشون في الأسواق ويتكلمون مع الناس، يؤدون الفرائض مع الخلق ويدخلون في كل بلد بزي أهل ذلك البلد، لا يتوطن أحد منهم في المسجد، وتختلف أماكنهم في المسجد الذي تقام فيه الجمعة حتى يضيعوا في غمار الناس، وإذا تكلموا راقبوا الله في كلامهم، يقللون من مجالسة الناس إلا من جيرانهم حتى لا يشعر أحد بهم، ويقضون حاجة الصغير والأرملة، ويلاعبون أولادهم وأهلهم بما يرضي الله، ويمزحون ولا يقولون إلا حقا.»
25
وهذا وصف لا يختلف عن وصف السلمي للملامتية؛ مما يرجح أن ابن عربي أخذ مادته منه، وإن كان ابن عربي - كعادته - يتخذ من الملامتية شيعة لمذهبه في وحدة الوجود. ومن الواضح أنه خالف كل من سواه في فهمه لمعنى «الملامتي» حيث فهم «الملامة» على أنها مقام من مقامات الصوفية، بل اعتبرها أعلى المقامات، كما اعتبر الملامتية أكابر أهل الله «الذين حلوا من الولاية في أقصى درجاتها، وما فوقهم إلا درجة النبوة.»
26
وأما أبو حفص عمر السهروردي فالظاهر من مقارنته بين الصوفية والملامتية أنه يفضل الصوفية ويضعهم في منزلة من الحياة الروحية فوقهم؛ لأن حال فناء الصوفي عن كل ما سوى الله - بما في ذلك نفسه - أفضل في نظره من حال الملامتي الذي لا تزال تربطه بالخلق وبنفسه رابطة وهي شعوره بنفسه وبالخلق. وقد أشرنا في غير ما موضع من هذا البحث إلى كراهية الملامتية للدعاوى وإنكارهم أحوال الجذب والسكر ونحوهما، فمن الطبيعي لقوم هذا شأنهم ألا يتكلموا عن «الفناء» وهو أقصى حالات الجذب، ولا أن تبدر منهم الدعاوى التي تبدر من زملائهم الصوفية في مثل هذه الحالات. وإذا ادعى الصوفي الفناء عن الخلق أو عن نفسه وأعمالها، فإنه شاعر أبدا بالخلق وبنفسه قوي الملاحظة لهما، لا يغفل عن نفسه وتأنيبها واتهامها؛ لأنه - كما يقول السهروردي - «عظم وقع الإخلاص وموضعه وتمسك به، والصوفي غاب في إخلاصه.»
27
فالإخلاص حال الملامتي، ومخالصة الإخلاص حال الصوفي، وثمرة مخالصة الإخلاص فناء العبد عن رسومه برؤية قيامه بقيومه، بل غيبته عن رؤية قيامه، وهو الاستغراق في العين عن الآثار.
28
وإنني أرى أن عدم ذلك الاستغراق في الله، وعدم الغيبة عن النفس والعالم المحيط بها قد كانا الحائل المنيع الذي سد على الملامتية باب القول بوحدة الوجود أو بالحلول أو الاتحاد أو المزج أو ما شاكل ذلك من الأقوال التي شاعت على ألسنة الصوفية الذين تكلموا في الفناء، وبخاصة صوفية العراق والشام؛ فإنهم باسترسالهم في الكلام عن الفناء عن الخلق والبقاء بالحق، وباستغراقهم التام في الحق وغفلتهم التامة عن كل من سواه وما سواه، زلت أقدامهم من حيث لا يشعرون فوقعوا في القول بوحدة الوجود أو ما شابهه. ويظهر أن القول بالاتحاد والحلول ووحدة الوجود كان في معظم الحالات من لوازم القول بالفناء؛ ولذلك لا نجد في كلام رجال الملامتية - الأولين على الأخص - شيئا عن الفناء ولا عن وحدة الوجود ونظائرها.
وقد بين السهروردي في مقارنته بين الصوفية والملامتية اختلاف الطائفتين في الغاية من الحياة الروحية: فغاية الصوفية الفناء في الله ورؤية الخلق بعين الزوال ومعاينة سر قوله تعالى:
كل شيء هالك إلا وجهه . وهؤلاء لا تعنيهم النفس ولا إخلاصها ولا الخلق وآراؤهم لأنهم استولى عليهم سلطان الحقيقة فلم يشاهدوا عينا ولا رسما. وهذه حال أبي يزيد البسطامي الذي يقول: «نظرت فإذا في باطني زنار (وهو الرابطة التي تربطه بالخلق) فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطعه، فكشف لي فنظرت إلى الخلق فإذا هم موتى فكبرت عليهم أربع تكبيرات.»
29
وهذا أيضا هو المعنى الذي أشار إليه بعضهم عندما قال: «صدق الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.»
30
أما الملامتية فأهل صحو وإدراك، يرون أن الغاية من الطريق الإخلاص في الأعمال وتحريرها من كل معنى من معاني الرياء. وهذا يقتضي مراقبة دقيقة للنفس وعدم «الفناء» عنها. وإلى ذلك يشير السهروردي بقوله: «إن الملامتي أخرج الخلق من عمله وحاله، ولكنه أثبت نفسه فهو مخلص، والصوفي أخرج نفسه من عمله وحاله كما أخرج غيره فهو مخلص. وشتان بين المخلص الخالص والمخلص.»
31
قال الدقاق: «لا بد لكل مخلص من رؤية إخلاصه وهو نقصان عن كمال الإخلاص.»
32
ولكن ليس هذا مذهب الملامتية.
ويظهر الفرق جليا بين الملامتية والصوفية في مسألة الإخلاص فيما ذكره القشيري عن أبي علي الدقاق أنه قال: «لما دخل الواسطي نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان (الحيري): بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعات ورؤية التقصير فيها، فقال: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها؟»
33
ومعنى ذلك أن إخلاص الملامتي هو رؤيته التقصير في عمله، وإخلاص الصوفي هو عدم رؤية الأعمال على الإطلاق، أو بعبارة أخرى الفناء عن الأعمال.
وستتضح للقارئ فروق أخرى كثيرة بين الصوفية والملامتية عند عرضنا لأصول الملامتية وتعاليمهم.
وأما «الفتوة» فاسم أطلق على مجموعة من الفضائل، أخصها: الكرم والسخاء والمروءة والشجاعة، تميز المتصف بها عن غيره من الناس. وبهذا المعنى الخلقي وجدت الفتوة قبل الإسلام وفي الصدر الأول منه في بلاد العرب وفارس. وبها لقب علي بن أبي طالب وأهل بيته. ولكنها كانت إلى ذلك العهد أمرا فرديا لا وجود له في جماعة منظمة، ولا يعرف نظام اجتماعي لأهل الفتوة إلا في عصر متأخر.
وقد اتصلت الفتوة بالتصوف منذ ظهور التصوف تقريبا وانصبغت بصبغته، وكان ذلك على الأخص في البلاد الإسلامية ذات الحضارات القديمة لا سيما فارس، حتى إنك لتجد آثارا واضحة للأفكار الصوفية في تعاليم أصحاب الفتوة في كل العصور الإسلامية تقريبا. والعكس صحيح أيضا، أي إن آثارا كثيرة للفتوة قد تسربت إلى بيئات الصوفية. ويدلك على ذلك الاتصال المتبادل بين الفتوة والتصوف أن كثيرا من الفتيان الذين نعرف شيئا عن تاريخ حياتهم كانوا إما صوفية أو ممن لهم ميل إلى الطريق الصوفي كما يظهر ذلك من قصة نوح العيار مع حمدون القصار.
34
ومن ناحية أخرى نرى أن كثيرا من رجال الصوفية المشهورين ذوي المكانة العالية كانوا من الفتيان قبل أن يدخلوا الطريق الصوفي، وذلك مثل علي بن أحمد البوسنجي وأحمد بن خضرويه وغيرهما.
كان الفتى قبل الإسلام فردا غايته المحافظة على شرفه الذي هو شرف قبيلته، فأصبح بعد الإسلام عضوا في جماعة يعمل من أجلها. ولكن الصفات التي يجب أن يتحلى بها الفتى كان لها أثر ظاهر في الحالتين.
ويظهر أن أول اتصال بين الفتوة المنظمة داخل هيئات اجتماعية وبين الصوفية كان في العراق المتصل اتصالا وثيقا ببلاد فارس. وكان ذلك في دائرة الحسن البصري الذي أطلق عليه أيوب بن أبي تميمة «سيد الفتيان». والحسن كما نعرف كان من أوائل من مهدوا لظهور التصوف في الإسلام، ومن الذين اعتبرهم متأخرو الصوفية من الأقطاب. ويظهر كذلك أن الانتقال كان إلى عهد الحسن البصري من نظام الفتوة إلى الطريق الصوفي كما تدل عليه عبارة الحسن نفسه التي يقول فيها: «كان الفتى إذا نسك لم نعرفه بمنطقه وإنما نعرفه بعمله وذلك العلم النافع.»
35
ولما ظهر التصوف ظهرت فيه مع فضيلة التقوى مجموعة من الفضائل الأخرى المستمدة من الفتوة، فلما كمل نموه في القرنين الثالث والرابع قويت فيه الفكرة الأساسية التي امتازت بها الفتوة العربية القديمة وهي فكرة الإيثار، واعتبرها الصوفية من أوائل مبادئهم وأضافوا إليها صفات أخرى متصلة بها مثل: كف الأذى، وبذل الندى، وترك الشكوى، وإسقاط الجاه، ومحاربة النفس، والعفو عن زلات الغير، وغير ذلك من معاني التصوف.
36
قال علي بن أبي بكر الأهوازي: «إن أصل الفتوة ألا ترى لنفسك فضلا واحدا.» وقال القشيري: «أصل الفتوة أن يكون العبد أبدا في أمر غيره.»
37
وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى:
قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم : «الفتوة هي كسر الصنم (الوارد في القصة)، وصنم كل إنسان نفسه ، فمن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة.»
38
وهذه كلها معان وجدت طريقها إلى بيئات الصوفية والملامتية على السواء، ولعبت دورا هاما في تشكيل أفكارهم ونظرتهم إلى الحياة الروحية.
وليس بصحيح ما ذهب إليه ثورننج من أن إقبال الفتيان على التصوف لا يتفق وأخلاق الفتوة، إلا إذا قصد بالفتوة الفتوة الأرستوقراطية التي كانت من مميزات طبقة خاصة من طبقات الأمة الإسلامية، وهذه لم تظهر إلا في زمن متأخر يحدده المؤرخون بالخليفة الناصر العباسي (575-622ه). أما إذا نظرنا إلى الفتوة في معناها العام وجدناها خالية من هذه النزعة الأرستوقراطية التي تتعارض مع روح التصوف، بل وجدناها دائما مسايرة للتصوف صديقة له يأخذ عنها وتأخذ عنه. وليس للفتيان دعوى امتياز على غيرهم إلا في الشعور بالواجب وفعل ما يقضي به الشرف، لا دعوى أفضلية طبقة على طبقة أخرى داخل النظام الاجتماعي، فإن ادعى فتيان الصوفية لأنفسهم ميزة على غيرهم، لزم أن نحمل هذه الدعوى على المحمل الأول.
ولما كان من صفات الصوفية عامة كثرة الدعاوى - وهي مسألة يختلفون فيها تماما عن الملامتية كما سنذكره فيما بعد - سهل على بعضهم اعتبار الدعاوى من مقومات الفتوة الصوفية، فالفتى الصوفي في نظر هؤلاء من كانت له دعوى يدافع عنها ويضحي بنفسه في سبيلها كالحسين بن منصور الحلاج الذي يقول: «إن رجعت عن دعواي (وهي قوله أنا الحق) وقولي، سقطت من بساط الفتوة.»
39
ويتخذ من دعوى إبليس أنه أفضل من آدم في قوله: «أنا خير منه.» ومن دعوى فرعون الألوهية في قوله: «أنا ربكم الأعلى.» دليلا على فتوتهما، فيقول على لسان الأول: «إن سجدت سقط عني اسم الفتوة.» وعلى لسان الثاني: «إن آمنت برسوله سقطت من منزلة الفتوة.»
40
وأما صلة الفتوة بالملامتية فقد أنكرها «هورتن» الذي لم يتردد في تقرير الصلة بين الفتوة والتصوف، مستندا إلى أنهما فكرتان متعارضتان. وهو يرى أن أصحاب الفتوة رجال يجمعون بين التقوى والشعور بالشرف، في حين أن أهل الملامة رجال يحتقرون الدنيا علنا ويعتبرون لوم النفس وسيلة ضرورية لتوصيلهم إلى الكمال الروحي أو الخلقي. ولكن إذا كانت هناك فتوة تتعارض مع المذهب الملامتي فهي «الفتوة الناصرية» المتأخرة التي أطلقنا عليها اسم «فتوة الأرستوقراطيين». أما الفتوة الأولى، أي الفتوة العامة المتصلة بالتصوف، فقد كانت شديدة الاتصال أيضا بالمذهب الملامتي. بل إنني أرى - اعتمادا على ما ورد في رسالة الملامتية للسلمي - أن صلتها بالملامتية كانت أقوى من صلتها بالصوفية، يؤيد ذلك أن السلمي عندما أراد أن يفسر صفات الملامتية ذكر من بينها أخص صفات الفتوة، وأن مؤسسي الملامتية الأولين فهموا «الملامة» على أنها نوع من الفتوة أو الرجولة وأطلقوا على أنفسهم اسم الفتيان والرجال. ويقول أبو حفص النيسابوري: «مريدو أهل الملامة متقلبون في الرجولية لا خطر لأنفسهم.»
41
أما صفات الفتوة التي يطالب الملامتية بها أنفسهم ومريديهم ويعتبرونها جزءا لا يتجزأ من شخصية الملامتي الكامل فكثيرة، نجد الشواهد عليها في كل صفحة من صفحات السلمي، فمن صفات الفتوة في الملامتي ما ورد في الأصل الحادي والأربعين من رسالة الملامتية في قول أبي حفص الحداد لعبد الله الحجام: «إن كنت فتى فيكون بيتك يوم موتك موعظة للفتيان.»
42
يريد بذل كل شيء وعدم الإبقاء على شيء خدمة للإخوان. ومنها ما ورد في الأصل الخامس والأربعين في قول أبي عثمان الحيري في الصحبة: «حسن الصحبة ظاهره أن توسع على أخيك من مال نفسك ولا تطمع في ماله، وتنصفه ولا تطلب منه الإنصاف
43 ... وتتحمل منه الجفوة ولا تجفوه» إلخ.
44
ومنها أن الملامتي هو: «من لا يكون له من باطنه دعوى ولا من ظاهره تصنع ولا مراءاة.»
45
ومنها: «إن الملامتية كرهوا أن يخدموا أو يعظموا أو يقصدوا، وقالوا: ما للعبد وهذه المطالبات؟ إنما هي للأحرار.»
46
ومنها: «ترك الاشتغال بعيوب الناس ودوام الاشتغال بعيوب النفس واتهامها.»
47
ومن أجمع ما ورد في رسالة الملامتية من الفقرات التي تشرح صفات الفتوة كما يفهمها الملامتية قول بعضهم وقد سئل عمن يستحق اسم الفتوة، فقال: «من كان فيه اعتذار آدم، وصلاح (أو صلابة) نوح، ووفاء إبراهيم، وصدق إسماعيل، وإخلاص موسى، وصبر أيوب، وبكاء داود ، وسخاء محمد
صلى الله عليه وسلم ، ورأفة أبي بكر، وحمية عمر، وحياء عثمان، وعلم علي، ثم هو مع هذا كله يزدري نفسه ويحتقر ما هو فيه ولا يقع بقلبه خاطر مما هو فيه أنه شيء ولا أنه حال مرضي، يرى عيوب نفسه ونقصان أفعاله وفضل إخوانه عليه في جميع الأحوال.»
48
بل لا أبالغ إذا قلت إن معظم تعاليم الملامتية مستمد من تقاليد الفتيان وتعاليمهم، وقد أشرت إلى ذلك بما فيه الكفاية عند كلامي عن أصول الملامتية وعن نشأة فرقتهم بنيسابور. وفي رأيي أن الملامتية هم «فتيان» زهاد المسلمين الحقيقيون، وفيهم تظهر الفتوة بآثارها الباطنة والظاهرة أكثر من ظهورها في غيرهم من فرق التصوف الأخرى. ولو أنصف الجنيد ما قال: «الفتوة بالشام واللسان بالعراق والصدق بخراسان.»
49
بل قال: «الفتوة والصدق بخراسان.» (2) نشأة الملامتية بنيسابور
ظهر مما ذكرناه من العلاقة الوثيقة بين رجال الملامة والصوفية وأصحاب الفتوة أن الملامتية لم تنشأ طفرة بنيسابور وبمعزل عن حركة التصوف العامة التي انتشرت في معظم أنحاء العالم الإسلامي في القرنين الثاني والثالث. كما أنها لم تقف بعد نشأتها عند الحدود الجغرافية التي ظهرت فيها، بل استمدت عناصرها من أصول سبقتها في تاريخ التصوف، فألبست هذه الأصول ثوبا خاصا وتعمقت في معانيها وجعلتها أساسا لتعاليمها، ثم شقت طريقها بعد نشأتها إلى أوساط أخرى صوفية وغير صوفية.
لذلك يجدر بالباحث في تاريخ مدرسة الملامتية بنيسابور أن يلم بحركة التصوف في خراسان عامة: كيف ظهرت هذه الحركة، ومن هم القائمون بها، وما صلة هذه الحركة بالاتجاهات الصوفية التي هي أقدم منها عهدا، ليحدد على سبيل التقريب مركز مدرسة نيسابور من مدرسة خراسان أولا، ومن مدارس التصوف الإسلامي الأخرى في نهاية الأمر. ثم لا بد له - من ناحية أخرى - من أن يلم بالحركات الصوفية التي ظهرت في القرن الرابع وما بعده ليتبين مدى تزاوج الأفكار الصوفية والملامتية خارج البيئة النيسابورية.
على أن نشأة الملامتية بنيسابور لم تتصل بالحركات الصوفية التي سبقتها في خراسان أو خارج خراسان فحسب، بل اتصلت - فيما أعتقد - بحركة أخرى ليست لها صبغة صوفية ولا دينية، وهذه هي حركة الفتوة التي لا تزال غامضة كل الغموض من هذه الناحية. بل ربما أتى كلام الصوفية عن الفتوة التي يعقد لها القشيري بابا خاصا في رسالته، نتيجة لهذه الصلة التي توثقت بين تعاليم الملامتية وتعاليم الفتوة في نيسابور قبل أن تحتل من تعاليم الصوفية خارج نيسابور محلا هاما. وهذه مسألة أعقد من سابقتها؛ لأن علمنا بالفتوة وأساليبها - بالرغم من كثرة ما كتب عنها - لا يزال ضئيلا. وهي حركة من أكثر الحركات في الإسلام خطرا، جديرة بأن يفرد لها الباحثون مؤلفا خاصا يوضح نواحيها التاريخية والاجتماعية والسياسية والصوفية.
لا نعرف من الوثائق التاريخية حركة صوفية في خراسان سابقة على حركة إبراهيم بن أدهم العجلي (المتوفى سنة 160ه) الذي تلقى أصول تصوفه عن أساتذة كلهم من رجال البصرة. ولا يعنينا في هذا الموضوع الذي نحن بصدده إبراهيم بن أدهم بقدر ما يعنينا أتباعه الذين عادوا بعد موته بالشام إلى مدينة بلخ وقاموا فيها بحركة واسعة، ونشروا عن طريق الوعظ والقصص الديني تعاليم أستاذهم في قبائل خراسان في النصف الثاني من القرن الثاني. وإنك لتجد أهم مميزات المدرسة البصرية في التصوف واضحة في مدرسة بلخ هذه؛ ففيها المبالغة في الزهد والعبادة والخوف، وفيها التزام آداب الفقر واعتبار التصوف أمرا باطنيا بحتا لا يؤبه فيه بالمظاهر الخارجية، كما تجد فيها محاربة الطقوس الدينية والتقاليد التي عظم أهل الشام من أمرها.
نعم لم يزد إبراهيم بن أدهم على تعاليم صوفية البصرة كثيرا، ولكنه تعمق - كما يقول الأستاذ ماسنيون - في بعض معانيهم: كالمراقبة التي أخذت معنى أدق من مجرد التأمل أو التفكير في النفس، وكالكمد الذي أحله ابن أدهم محل الحزن، وكالخلة التي أصبح معناها رضا الله الدائم عن العبد. ولكن تلامذة إبراهيم هم الذين أضافوا - تحت تأثير عوامل محلية إن صح هذا التعبير - كثيرا على ما قال به أستاذهم وما قالت به مدرسة البصرة، وأضافوا في شرح بعض الأفكار التي لم تكن قبل سوى قواعد بسيطة للسلوك في الطريق، إفاضة رفعت هذا الشرح إلى مستوى البحوث النظرية، فنرى شقيقا البلخي المتوفى سنة 194ه، وهو من أفضل تلامذة ابن أدهم، يفيض في الكلام عن التوكل الصوفي والرجوع إلى الله في كل شيء. نعم قال ابن أدهم وقال غيره بالتوكل على الله، والتوكل على الله من الأمور التي طالب الإسلام بها وحض عليها، ولكن شقيقا البلخي درس أسبابه وعلة تشريعه وما يترتب عليه من أثر في تنظيم سلوك المريدين، وانتهى من درسه إلى نتيجة ذات أثر بالغ في التصوف الخراساني عامة، وفي تصوف بعض ملامتية نيسابور بوجه خاص. إن قصة إبراهيم بن أدهم التي يبسطها أبو نعيم في ترجمة طويلة، هي قصة رجل راعى «التوكل» في كل خطوة خطاها، وإن تطوافه في العراق والشام طلبا للرزق الحلال الخالي من الشبهات لدليل قاطع على ثقته بالله وتوكله عليه. ولكن للتوكل الذي تكلم عنه تلميذه شقيق البلخي معنى آخر.
يرى شقيق أن التوكل معناه «طمأنينة النفس إلى موعود الله.» فإذا أردت أن تعرف مقدار صدق الزاهد في توكله فانظر بأي الأمرين يأخذ: أبما وعده الله، أم بما وعده الناس؟ وإذا كان الرجل لا يستطيع أن يزيد في حياته أو يغير من طبعه، فكيف يستطيع أن يزيد في رزقه؟ ولماذا يتعب الرجل نفسه في اقتناص أشباح زائلة، أو يتكالب على المكاسب التي قلما تخلص من الشبهات؟ أدت هذه الفكرة العميقة في «الجبرية» بشقيق إلى القول بالتسليم المطلق لإرادة الله والإذعان التام لقضائه وقدره، والتعطيل التام للإرادة الإنسانية، والرضا التام بما هو مقدر في علم الله. وكان من نتائجها قولان كان لهما أثرهما البالغ في تطور التصوف بعد عصر شقيق: أولهما ترك الكسب لأن كل المكاسب مسممة، وثانيهما تفضيل الفقر على الغنى. قال شقيق: «إذا صار الفقير يخاف من الغنى كما يخاف من الفقر فقد تم زهده.»
50
وقد أصبحت المقالة الأولى - مقالة ترك الكسب - من أهم مبادئ التصوف الخراساني منذ عهد شقيق، وعمل على نشرها من بعده تلميذه حاتم الأصم (237ه) وأحمد بن خضرويه (240ه) ومحمد بن الفضل البلخي (243ه). وممن عمل على نشرها في نيسابور أبو حفص الحداد الملامتي (264ه) وأحمد بن حرب (234ه). ويظهر أن المركز الصوفي القوي الذي اشتهرت به بلخ حقبة قصيرة من الزمن انتقل في النصف الثاني من القرن الثالث إلى نيسابور التي ظهر فيها رجال الملامتية الأولون. وقد كان لهؤلاء الرجال - كما سيتضح لك فيما بعد - صلة غير منقطعة بمشايخ مدرسة بلخ وبعض مشايخ بغداد عن طريق التلمذة أو الصحبة أو الزيارة، مما لا يدع مجالا للشك في وجود الاتصال الفكري بين رجال هذه المدارس كلها.
ولئن أراد السلمي وغيره من مؤرخي التصوف أن يرجعوا نشأة الملامتية إلى رجل بعينه كأبي حفص النيسابوري أو حمدون القصار (271ه) أو إلى الاثنين معا باعتبار أنهما واضعا الأسس الأولى لأصول هذه الفرقة، فإنني أرى أن من العبث أن نحاول رد جميع هذه الأصول إلى ما نعرفه من أقوال هذين الرجلين وحدهما، سواء في ذلك الأقوال التي رواها السلمي نفسه لهما في رسالته أو التي أوردها لهما غيره من مؤلفي كتب التصوف أو كتب طبقات المشايخ. بل من العبث محاولة رد جميع هذه الأصول إلى هذين الرجلين وإلى غيرهما من مشهوري رجال الملامتية الذين أخذوا عنهما مثل عبد الله بن منازل (329ه) وأبي عمرو بن نجيد (361ه) وأبي علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي (328ه) ومحفوظ بن محمود النيسابوري (303ه) ومحمد بن أحمد الفراء (370ه) وغيرهم؛ فإن لأصول الملامتية التي استخلصها السلمي في رسالته صلة لا يمكن إنكارها بمقالات لغير هؤلاء الرجال أخذوها عنهم وفسروها في ضوء نظريتهم العامة. بل إن السلمي نفسه لم يدع أنه استمد أصول الملامتية من عبارات الملامتية وحدهم، بدليل أنه يذكر من متصوفة القرن الثالث يحيى بن معاذ الرازي وشاه الكرماني وسهل بن عبد الله التستري، إلى جانب أبي حفص النيسابوري وحمدون القصار وأبي عثمان الحيري، ويذكر من متصوفة القرن الرابع أبا بكر الواسطي وأبا عمرو الدمشقي وأبا بكر محمد بن علي الكتاني، إلى جانب ملامتية القرن الرابع أمثال أبي عمرو بن نجيد وابن منازل وأبي محمد عبد الله بن محمد الرازي وغيرهم. بل إنه ليكثر من ذكر أقوال أبي يزيد البسطامي، ويستشهد بها على أصول الملامتية حتى يخيل للقارئ أن أبا يزيد كان واحدا منهم.
والحقيقة أن مذهب الملامتية يمثل نزعة خاصة في التصوف الإسلامي واتجاها خاصا في النظر إلى النفس الإنسانية وأعمالها وتقدير تلك الأعمال، وفي الزهد ومظاهر ذلك الزهد؛ فكل ما يصلح أن يكون أساسا لهذه النزعة سواء أكان من أقوال الملامتية أم من أقوال غيرهم، وسواء أكان آية قرآنية أم حديثا نبويا، قد ذكره السلمي على أنه أصل من أصولهم. وسنرى في دراستنا للأصول الخمسة والأربعين التي ذكرت في رسالة الملامتية أنها في الحقيقة فروع لعدد قليل جدا من المبادئ العامة التي تعين معالم الطريق الملامتي ويستند مذهبهم في جوهره إليها، وأن هذه المبادئ القليلة هي التي تظهر فيها الخصائص الأساسية لفكرة الملامتية، ويتبين فيها الاتجاه الذي يمتاز به رجال هذه الطائفة من غيرهم من رجال التصوف الآخرين.
مدرسة نيسابور
تعاصر في نيسابور في النصف الثاني من القرن الثالث ثلاثة من كبار الصوفية، أقدمهم يحيى بن معاذ الرازي (المتوفى سنة 258) الذي يقول فيه القشيري: «إنه كان له لسان في الرجاء خصوصا وكلام في المعرفة.»
51
والظاهر أن يحيى - بالرغم من منزلته العالية بين رجال التصوف الأولين - لم يترك أثرا كبيرا في أهل نيسابور لأنه عني بمسائل نظرية في التصوف، والنيسابوريون رجال عمليون في طريقتهم؛ ولأنه، من ناحية أخرى، لم يكن من أهل نيسابور كما كان أبو حفص وحمدون القصار اللذان التف حولهما مواطنوهما مع أنهما كانا أقل من يحيى بن معاذ درجة.
أما أبو حفص
52
فقد كان من كورداباد على باب نيسابور في الطريق إلى بخارى. وقد ذكر الهجويري وأبو نعيم أن أستاذه كان عبيد الله الأباوردي،
53
وذكر الشعراني من شيوخه عبد الله المهدي
54 - وهو الأباوردي الذي أشار إليه الهجويري وأبو نعيم - وعليا النصرابادي. وهذا الأخير من نيسابور أيضا ، ونصراباد حي فيها. ولكننا لا نعلم شيئا عن هذين الشيخين، وأغلب الظن أنهما لم تكن لهما شهرة خاصة ولا حظ كبير في حركة التصوف بنيسابور ولا في نشأة أبي حفص الملامتية.
وقد كان لأبي حفص منزلة عظيمة في نفوس النيسابوريين والبغداديين على السواء، فإن الخطيب البغدادي يحدثنا أنه: «لما ورد أبو حفص بغداد اجتمع إليه من كان بها من مشايخ الصوفية وعظموه وعرفوا له قدره ومحله.» وقد ذكر الخلدي أنه سمع الجنيد يقول وقد ذكر عنده أبو حفص النيسابوري: «كان رجلا من أهل الحقائق ولو رأيته لاستغنيت، وقد تكلم من غور بعيد. ثم قال: كان (أي أبو حفص) من أهل العلم البالغين، وأهل خراسان شيوخهم وأحوالهم وأمورهم وحقائقهم بالغة جدا.»
55
ولا بد أن بعض الأفكار المتصلة بالفتوة، ولا سيما فكرة التضحية بالنفس وإيثار الغير عليها، قد تسربت إلى رجال المدرسة النيسابورية بطرق لا ندري الآن تحديدها، واكتسبت على أيديهم معاني صوفية أخرى، مما جعل الفتوة في نظرهم مثالا أعلى في الحياة الروحية، كما كانت من قبل مثالا أعلى في الحياة الاجتماعية. ومما له مغزاه أننا نجد فيما نعرفه من تاريخ حياة الملامتية الأول أمثال أبي حفص وحمدون القصار وغيرهما كثيرا من الأقوال في الفتوة الصوفية التي تخصصوا في فنونها وأساليبها واعتبروا دون سواهم المبرزين فيها، ففي أبي حفص يقول أبو عبد الرحمن السلمي: «سمعت عبد الرحمن بن الحسين الصوفي يقول: بلغني أن مشايخ بغداد اجتمعوا عنده (عند أبي حفص) فسألوه عن الفتوة، فقال: تكلموا أنتم فإن لكم العبارة واللسان، فقال الجنيد: الفتوة إسقاط الرؤية وترك النسبة. فقال أبو حفص: ما أحسن ما قلت، ولكن الفتوة عندي أداء الإنصاف وترك مطالبة الإنصاف. فقال الجنيد: قوموا يا أصحابنا فقد زاد أبو حفص على آدم وذريته.»
56
وهذا اعتراف من الجنيد بأسبقية أبي حفص في ميدان الفتوة. وإذا قارنا بين عبارتي الرجلين تبين لنا الفرق بين وجهتي نظرهما في هذه المسألة: فالجنيد يرى الفتوة في إسقاط الرؤية؛ أي في عدم النظر إلى الأعمال نظرة اعتبار وتقدير، وترك النسبة؛ أي إسقاط العلائق والروابط التي تربط الإنسان بأي شيء أو أي موجود غير الله؛ وعلى ذلك فالفتوة عنده هي الزهد الكامل. أما أبو حفص فيرى الفتوة في أداء ما يراه الصوفي إنصافا وعدلا؛ أي القيام بجميع الواجبات الشرعية والاجتماعية بدون أن يطالب القائم بها بإنصاف من جانب الشرع أو من جانب المجتمع؛ أي إن الفتوة عنده هي التضحية الخالصة.
ومما يؤيد ما ذكرناه أيضا ما حكاه الخطيب البغدادي من أن أبا حفص لما أراد الخروج من بغداد شيعه من بها من المشايخ والفتيان، فلما أرادوا أن يرجعوا قال له بعضهم: دلنا على الفتوة ما هي، فقال: الفتوة تؤخذ استعمالا، معاملة لا نطقا، فعجبوا من كلامه.
57
أي أن الفتوة نظام أو أسلوب من الحياة يحياها الصوفي - وهي حياة الملامتية - لا نظرية تشرح ويتحدث عنها.
ومما له مغزاه أيضا أن أبا حفص قد التقى بأحمد بن خضرويه (240ه) الذي قصده من بلخ، وكان كما يقول المترجمون له: «كبيرا في الفتوة.» وشهد له أبو حفص عندما قال: «ما رأيت أحدا أعلى همة ولا أصدق حالا من أحمد بن خضرويه.» ويقول فيه السلمي: «وهو من مذكوري مشايخ خراسان بالفتوة.»
58
وقد كان أحمد من أصحاب أبي تراب النخشبي (245ه) المشهود له بالفتوة أيضا. ولا شك عندي أن اتصال أبي حفص بهؤلاء الفتيان الصوفيين قد كان له أثره في تشكيل فكرته الملامتية وتوجيهها وجهة خاصة. وقد تخرج به أعلام النيسابوريين من الملامتية أمثال أبي عثمان الحيري (298ه) فخر رجالهم وأطولهم باعا، وأبي الفوارس شاه بن شجاع الكرماني (حوالي سنة 300ه)، ومحفوظ بن محمود النيسابوري (303ه)، وغيرهم. وممن صحبه أيضا أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي الذي كان إمام وقته بنيسابور (328ه)، وأبو علي عبد الله بن محمد المعروف بالمرتعش (المتوفى ببغداد سنة 328ه)، وأب محمد عبد الله بن محمد الخراز المتوفى حوالي سنة 310ه وغيرهم.
وأشهر رجال الملامتية على الإطلاق أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة المعروف بالقصار المتوفى سنة 271ه، كان أحد علماء الفقه على مذهب الثوري. وأشهر أساتذته في التصوف اثنان:
الأول سلمان أو سالم الباروسي
59
الذي كان من كبار مشايخ نيسابور ذوي الأتباع. يحكي السلمي عن جده أبي عمرو بن نجيد الملامتي أنه قال: «دخل سالم بن الحسن (الباروسي) على محمد بن كرام
60 (المتوفى سنة 256) فقال له (أي للباروسي): كيف رأيت أصحابي؟ فقال: لو كانت الرغبة التي في بواطنهم على ظواهرهم والزهد الذي على ظواهرهم في بواطنهم لكانوا رجالا. ثم قال: أرى صلاة كثيرة وصياما كثيرا وخشوعا كثيرا، ولا أرى عليهم نور الإسلام.»
ولهذه القصة مغزاها في تأريخنا لرجل من مؤسسي الملامتية؛ لأنها تلقي بعض الضوء على ما كان يعتبر في ذلك الوقت فرقا بين الزهد الحقيقي والزهد الكاذب، أو بين الزهد الملامتي وغيره. نحن نعلم أنه كان من عادة ابن كرام وأصحابه أن يسيروا في البلاد يلبسون الجلد المدبوغ الممزق وعلى رءوسهم القلانس البيضاء يعظون في الأسواق ويروون الحديث، فلما رأى الباروسي مظهرهم أنكره؛ لأنه رأى فيه معنى الرياء، وطالب ابن كرام وأصحابه - كما طالب أساتذة الملامتية تلامذتهم فيما بعد - أن يكون الزهد زهد الباطن لا زهد الظاهر، وأن تكون الرغبة التي يدعونها في بواطنهم بادية على ظواهرهم، وألا يتظاهروا بكثرة الورع والخشوع والصلاة والصيام، ولا غرابة أن تصح فراسة الباروسي في رجل كابن كرام كان يقنع في تعاليمه بإيمان الإنسان بلسانه دون قلبه.
وثاني أساتذة حمدون هو أبو تراب النخشبي (245ه) الذي كان من كبار مشايخ نيسابور، وممن اشتهروا فيها بالعلم والزهد والفتوة. ولكثير من آرائه صدى في تعاليم تلميذه حمدون لا سيما في مسائل التوكل والسؤال والنهي عن لبس المرقعة، وفي معنى الصدق والإخلاص وغير ذلك.
ولحمدون شهرة خاصة من بين مشايخ نيسابور، وهي أنه المؤسس الحقيقي الأول لمذهب الملامتية بها، أو على الأقل أنه نص على أنه مؤسسها. فالسلمي يصفه بأنه «شيخ الملامتية بنيسابور، ومنه انتشر مذهب الملامة.»
61
وكذلك يردد هذه العبارة القشيري في رسالته والشعراني في طبقاته، وإن كان أتباع حمدون لا يسمون عادة باسم الملامتية بل باسم الحمدونية أو القصارية.
62
وقد أشرنا إلى صلة أبي حفص بأصحاب الفتوة الصوفية داخل خراسان وخارجها وإلى منزلته الخاصة فيها، ولكننا نجد أن صلة حمدون بالفتيان من الصوفية وغيرهم آكد وأشد. كان بنيسابور فتيان من غير الصوفية في زمن حمدون من غير شك، وكانت لهم هيئات أو جماعات لا نكاد نعرف من أمرها شيئا، وكان يطلق على الفتى منهم اسم «العيار» أو الشاطر أحيانا.
63
وكان الاتصال موجودا بين هؤلاء الفتيان وبين رجال الملامتية؛ بدليل القصة التي ذكرها الهجويري وفريد الدين العطار
64
وهي مما يلقي بعض الضوء على سيرة حمدون القصار ومن اتصل به من هؤلاء الفتيان. قال حمدون: «كنت أسير يوما في حي من نيسابور فلقيت نوحا العيار أحد المعروفين بالفتوة، وكان على رأس الشطار بنيسابور، فقلت له: يا نوح ما الفتوة؟ فقال: فتوتي أم فتوتك؟ فقلت: صف الاثنتين، فقال: «أخلع القباء وألبس الخرقة وأفعل الأفعال التي تليق بهذا الثوب لعلي أصبح صوفيا، وأقلع عن المعاصي لما أشعر به من الحياء من الله. ولكنك تخلع الخرقة لكيلا يخدمك الناس وينخدعوا بك، ففتوتي في اتباع ظاهر الشرع، أما فتوتك ففي تلبية نداء القلب.» وهذا بعينه هو الأساس الذي بنى عليه الملامتية مذهبهم وسلوكهم، خلع الخرقة وكل مظهر يرمز به إلى الورع والتقوى، وتلبية نداء القلب، وإخلاص المعاملة مع الله، فنوح الفتى يود لو لبس خرقة الصوفي لتحول بينه وبين إتيانه ما لا يليق بها من الأفعال وتحمله على فعل ما يتمشى مع ظاهر الشرع، وحمدون الملامتي يخلع عن بدنه ثوب الصوفية ليحول بين نفسه وبين الرياء، ويخلص لنداء قلبه المتصل بالله ليحول بين نفسه وبين ما لا يليق في جانب الله. وإذا كانت الفتوة بمعناها العام هي المروءة والرجولة والإيثار المحض، فهذه معان نجدها متحققة في حمدون القصار أكثر منها في زميله أبي حفص. وليس أدل على ذلك من العبارات المأثورة عنه في رسالة السلمي ورسالة القشيري وما أورده له مؤلفو الطبقات؛ فمن الفتوة عنده ألا يظهر الإنسان العجب والكبر، ومنها غض الطرف عن مواطن التقصير في الغير، ومنها الإيثار والاعتراف بالتقصير والتواضع والتماس المعاذير عند رؤية القبيح إذا صدر عن الغير، وهذه كلها شديدة الاتصال بمعاني الفتوة، ومنها يتألف عدد كبير من أصول تعليم الملامتية.
ليس من غير المحتمل إذن بعد الذي ذكرناه عن مشايخ مدرستي بلخ ونيسابور أن يكون نظام الفتوة الذي كان لا شك سائدا في خراسان، والفتوة الصوفية التي كانت قد ظهرت في العراق، قد مهدا الطريق لظهور المذهب الملامتي ولعبا دورا هاما في تشكيله، وإن كنا لا نستطيع الآن الجزم بشيء في تكييف ذلك التأثير أو تحديد مداه. وقد أشرت من قبل إلى أن عددا كبيرا من الصوفية - وأضيف هنا: والملامتية أيضا - كان ممن تفتى وعاشر الفتيان قبل دخوله في الطريق الصوفي أو الملامتي، نذكر من هؤلاء على سبيل المثال شقيقا البلخي.
65
ولكنا لا نستطيع أن نضع حدا فاصلا بين نشأة مذهب الملامتية على يدي أبي حفص وحمدون القصار، وبين تطوره على أيدي أتباعهما الكثيرين وما أضافوه إليه، فقد كان لكل من هذين الشيخين تلامذة ظهر أثرهم في نيسابور وخارجها، وكان لهم الفضل في إيصال تلك المعاني الأولية التي تألفت منها فكرة الملامة الساذجة إلى صورة المذهب الكامل، فمن أكبر أتباع أبي حفص النيسابوري أبو عثمان الحيري (298) أكثر شيوخ الملامتية أتباعا وأبعدهم أثرا. يقول أبو نعيم إنه كان رازي المولد، خرج مع شاه الكرماني في زيارة أبي حفص بنيسابور فقبله أبو حفص وزوجه ابنته. وأقام أبو عثمان عنده وتخرج به. ولما مات دفن بمقبرة الحيرة عند قبر أستاذه.
ويظهر أن أبا عثمان كان أكثر علما وأوسع أفقا من أستاذه أبي حفص، وإن كان أقل منه حالا. وقد وافق أستاذه في بعض ما ذهب إليه وخالفه في بعض، وانفرد بأقوال نجد صداها واضحا في تعاليم الملامتية. ثم هو من ناحية أخرى يشاطر حمدون القصار بعض آرائه، وإن لم تثبت عندنا صحبته له.
ومن المبادئ الأساسية التي صدر عنها في مذهبه الملامتي أن العالم شر لا خير فيه، وهو في هذا يتفق مع حمدون القصار؛ ولذلك يوجب على الملامتي التزام الحزن والكمد ورؤية التقصير في جميع أفعاله مهما خيل إليه أنه جود فيها، ويلزمه باتهامه نفسه دائما بذلك التقصير. وقد كان ذلك سببا دعا بعض الصوفية كأبي بكر الواسطي (المتوفى حوالي سنة 320ه) إلى وصف مذهب أبي عثمان بأنه مذهب مجوسي. قيل إنه لما دخل الواسطي نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان: بماذا كأن يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالطاعات ورؤية التقصير فيها، فقال: أمركم بالمجوسية المحضة. هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها؟
66
وفي هذا المعنى نفسه يقول أبو عثمان: «لا يرى أحد عيب نفسه وهو يستحسن من نفسه شيئا، وإنما يرى عيوب نفسه من يتهمها في جميع الأحوال.»
67
وإذا كانت الدنيا شرا محضا يجب التخلص منه فالزهد فيها أول ما يلزم به المتشائم نفسه؛ ولذلك كان أبو عثمان يرى وجوب الزهد المطلق في كل شيء، ويعتبر الزهد في الحرام فريضة، وفي المباح فضيلة، وفي الحلال قربة إلى الله.
68
وكان يرى أن الإيمان الكامل لا يتم للرجل حتى يستوي عنده المنع والعطاء والعز والذل. وهذا مقام لا يتحقق إلا لمن زهد في الدنيا زهدا مطلقا.
ومما يتمشى مع هذه النغمة الحزينة - نغمة التشاؤم - التي تغنى بها أبو عثمان، وضعه مذهبا كاملا في العبودية ووصفه الطريق التي تحقق معاني العبودية لأتباعه. يقول محمد بن الفضل البلخي (319ه): «إن الله تعالى زين أبا عثمان بفنون العبودية وأبرزه للناس ليعلمهم آداب العبودية.»
69
وطريق العبودية لله هو التخلص من استعباد النفس وشهواتها وصفات العجب والزهو والكبر؛ ولهذا يقول أبو عثمان: «الخوف من الله يوصلك إلى الله، والكبر والعجب في نفسك يقطعك عن الله.»
70
ومن العبودية ترك كل الأمور إلى الله والتفويض فيها. وفي ذلك يقول أبو عثمان: «التفويض رد علم ما جهلت إلى عالمه، والتفويض مقدمة الرضا، والرضا باب الله الأعظم.»
71
ومن العبودية التواضع لله والافتقار إليه والخوف منه والرجاء فيه، وكل هذه صفات يدعو إليها أبو عثمان، ويتخذها موضوعات لدروس وعظه الذي اشتهر به. والناظر فيها يرى فيها أثرا ظاهرا لعاملين مهمين:
أولهما:
فكرة «الفتوة» التي أخذت في اصطلاح هذا الرجل معنى «العبودية»: فالفتى الذي اتخذ التضحية بالنفس وإيثار الغير عليها مثاله الأعلى، هو الملامتي الذي استكمل كل صفات العبودية وتحقق بها فأصبح لا يرى لنفسه خيرا وأدام اتهامها على كل ما ظهر منها. فالفتى الكامل هو العبد الكامل المضحي بنفسه المؤثر لله وحده.
العامل الثاني:
هو ما وصفه «الواسطي» بالمجوسية، وليس من المستبعد أن يكون التشاؤم الزرادشتي والهندي قد وجد طريقه إلى بعض صوفية خراسان وإلى البيئة الثقافية التي عاش فيها أبو عثمان الحيري. بل ليس هناك من شك في أن نظرة أبي عثمان خاصة، والملامتية عامة، إلى النفس الإنسانية إنما هي نظرة رجال متشائمين تحمل طابعا غير إسلامي.
وإذا صنفنا شيوخ الملامتية في طبقات، كان أبو حفص وحمدون القصار وأبو عثمان الحيري أشهر رجال الطبقة الأولى التي تنتهي حوالي سنة 300ه. بعد ذلك تأتي الطبقة الثانية التي تتألف من أتباع وأصحاب أبي حفص وحده، أو حمدون القصار وحده، أو أبي حفص وحمدون وأبي عثمان جميعا. وليس من بين رجال هذه الطبقة من يستحق الذكر سوى محفوظ بن محمود النيسابوري الذي صحب أبا حفص وحمدونا وأبا عثمان، وأبي محمد المرتعش الذي صحب أبا حفص وأبا عثمان ثم ذهب إلى بغداد وصحب بها الجنيد، وأبي علي الثقفي الذي صحب أبا حفص وحمدونا وعليا النصراباذي، وأبي الحسين محمد بن سعد الوراق، وأبي عبد الله محمد بن منازل النيسابوري. وأشهر هذه الطبقة على الإطلاق هو هذا الأخير، فقد كان أخص أتباع حمدون القصار، وكان له الفضل في نشر المذهب الملامتي الذي وضعه أستاذه، بالإضافة إلى بعض الاتجاهات الخاصة التي انفرد بها.
ويختلف رجال هذه الطبقة في أقدارهم وفي مدى أخذهم بفكرة الملامة التي تلقوها عن شيوخهم، فبينا نجد محفوظ بن محمد أمينا على تعاليم أبي عثمان، يرى طريق الخلاص في اتهام النفس الدائم فيقول: «من أراد أن يبصر طريق رشده، فليتهم نفسه في الموافقات فضلا عن المخالفات.»
72
نجد أبا الحسين الوراق (حوالي سنة 320ه) يمثل الصوفي السني الذي يرى طريق الخلاص في استقامة الدين واتباع السنة والفناء عن النفس والخلق ليحيا الإنسان بمشاهدة الخيرات والمنن الإلهية.
73
على أن تعاليم الملامتية لم تعد بعد انتهاء القرن الثالث قصرا على مدرسة نيسابور، بل تجاوزتها إلى أجزاء أخرى من العالم الإسلامي بفضل أتباع رجال الملامتية الأولين، وكثير من شيوخ خراسان الذين كان لهم اتصال دائم بهم، فقد رحل عن هذه البلاد - لا سيما إلى بغداد التي كان على رأس مدرستها الجنيد - عدد غير قليل من هؤلاء المشايخ، منهم أبو عمرو محمد بن إبراهيم الزجاجي (الذي توفي بمكة سنة 348ه)، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الرازي المعروف بالشعراني النيسابوري (المتوفى سنة 353ه)، وأبو بكر محمد بن أحمد بن جعفر النيسابوري (المتوفى سنة 360ه)، وأبو الحسين علي بن بندار الذي صحب أبا عثمان ومحفوظا وبعض شيوخ مصر وبغداد (توفي سنة 350ه)، وأبو عبد الله محمد بن محمد الروغندي الذي كان من كبار مشايخ طوس (توفي سنة 350ه)، ومحمد بن علي النسوي المعروف بابن عليان الذي كان من كبار مشايخ نسا وأجلة أصحاب أبي عثمان، وأبو الحسن علي بن أحمد بن سهل البوشنجي
74 (المتوفى سنة 348ه)، وأبو القاسم إبراهيم بن محمد النصرابادي (المتوفى سنة 369ه)، وأبو عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي (الذي توفي بمكة سنة 366ه)، وغيرهم.
وقد كانت نيسابور إلى ذلك العهد من أكبر مراكز التصوف في العالم الإسلامي، يخرج منها أبناؤها لزيارة مشايخ بغداد أو للحج أو المجاورة بمكة، ويؤمها الصوفية من كل مكان ممن لهم أو ليس لهم صلة بالمذهب الملامتي. فقد قصدها مثلا أبو عثمان سعد بن سلام المغربي (المتوفى سنة 373ه) الذي كان من أصحاب أبي عمرو الزجاجي، وأبو يعقوب إسحق بن محمد النهرجوري من أصحاب أبي عمرو المكي والجنيد (توفي سنة 330ه)، وأبو بكر الطمستاني
75 (المتوفى سنة 340ه)، وأبو العباس أحمد بن محمد الدينوري (المتوفى بسمرقند حوالي سنة 340).
ولما تقدم الزمن بالملامتية، وظهرت الطبقة الثالثة من رجالها من تلامذة الطبقة الثانية، تحددت فكرة الملامة واتخذ المذهب الملامتي الصورة النهائية التي تنطبق عليها التعريفات الموضوعة له أكثر من انطباقها على الصور الأولى.
وقد كانت الفكرة الأصلية في المذهب الملامتي كما أوضحها حمدون القصار وتلميذه ابن منازل: الحرب الدائمة ضد النفس ورعوناتها وريائها، والعمل على كتمان حسناتها، فغالى أتباع الملامتية المتأخرون - مثل محمد بن أحمد بن حمدون الفراء (المتوفى سنة 370ه) وكان من أصحاب أبي علي الثقفي وأتباع ابن منازل - في تفسير هذا المبدأ وتطبيقه، فبعد أن كان مبدأ سلبيا صرفا يدعو إلى إخفاء الحسنات، اتخذ على أيدي هؤلاء اتجاها إيجابيا، فطالب أهل الملامة مريديهم بتعمد المخالفة والظهور في الناس بالمظاهر التي تثير لومهم وتجلب عليهم سخطهم وازدراءهم. وأصبح هذا في نظر الملامتية طريقا من طرق تقويم النفس وتأديبها وتعريفها قدرها، وصار هذا المعنى جزءا من مفهوم المذهب الملامتي.
وهكذا مضى الملامتية في غلوهم حتى وقعوا في العصور الحديثة، في تركيا خاصة، في نوع من الإباحية انمحى فيه كل فرق بين الحسن والقبيح والخير والشر. ولكننا لا نعرف صلة تاريخية - إلا في مجرد الاسم - بين هؤلاء الملامتية المستهترين وبين أوائل الملامتية الذين صورهم السلمي في رسالته بتلك الصورة الرائعة. (3) تحليل نقدي لأصول الملامتية
أول ما يسترعي نظر القارئ لرسالة الملامتية أنها رسالة عملية أكثر منها نظرية، فإن من السهل عليه أن يستخلص تعاليم الملامتية وقواعد طريقهم وآدابهم في العبادات والمعاملات أكثر مما يستخلص الأساس النظري الذي تستند إليه هذه الآداب والقواعد، فإذا تكلمنا عن الأسس النظرية للمذهب الملامتي كان ذلك محض استنتاج من جانبنا، بنيناه على ما لمسناه من روح عامة انصبغت بها تعاليم الملامتية وأقوالهم.
أما ما يسميه السلمي بالأصول التي ذكر منها خمسة وأربعين، فإنها لا تعدو الآداب والصفات الأساسية التي يطالب بها الملامتية أنفسهم ومريديهم معتمدين في ذلك - على حسب كلام المؤلف - على أصل من الكتاب أو السنة أو قول لمشهوري رجالهم أو رجال الصوفية . وقلما تتناول الرسالة مسائل المذهب الملامتي من الناحية النظرية، إلا إذا استثنينا ما ورد فيها عن النفس والروح والقلب والسر، وعن حال الترقي الصوفي من كل واحد من هذه إلى الآخر، وما ورد فيها عن ذكر اللسان والقلب والسر والروح وآفات كل منها.
ويخيل إلي أن الأساس النظري العام الذي يقوم عليه المذهب الملامتي هو التشاؤم الذي نظر به شيوخ هذه الفرقة إلى النفس الإنسانية وبنوا عليه مذهبا كاملا في تذليلها وتحقيرها ولومها واتهامها وحرمانها من كل ما ينسب إليها من علم أو عمل أو حال أو عبادة. وهي وجهة نظر قد يكون للبيئة الزرادشتية في فارس أثر فيها، وهي المبدأ الذي أوحى إلى رجال الملامتية بكل ما ذكروه من أقوال وما وضعوه من قواعد. وهناك أساس نظري آخر غير مستقل تماما عن الأساس السابق، وهذا هو فكرة الفتوة التي أعتقد أنها - فيما يتعلق بالملامتية - كانت فارسية أيضا، فالنفس التي دعاهم تشاؤمهم إلى تحقيرها وإذلالها وإدامة اتهامها، يجب التضحية بها في سبيل الله أولا، وسبيل الغير ثانيا، وفي التضحية بالنفس والانتصار التام عليها يتحقق معنى الإيثار المحض الذي هو أخص صفات الفتوة. ويظهر معنى الفتوة بكل وضوح في كثير من قواعد الملامتية وآدابهم المسماة بالأصول، سواء منها ما كان متصلا بمعاملة الله وهي الفتوة الصوفية، أو الفتوة الملامية التي يظهر فيها الإيثار لله، وما كان متصلا بمعاملة الخلق وهي الفتوة الاجتماعية. ويظهر في الحالتين إنكار الذات.
وإلى هذين الأصلين يمكننا أن نرد جميع «الأصول» التي ذكرها السلمي للملامتية بطريق مباشر أو غير مباشر. وعنهما صدر كلام الملامتية في المسائل الرئيسية الآتية: (1)
كلامهم في النفس وشريتها وصلتها بالقلب والسر. (2)
كلامهم في محاربة النفس وظواهرها وخاصة الرياء والعجب والشهرة، وما يتصل بهذه الصفات من مسائل متعلقة بالحياة الصوفية كمسألة الزي والدعاوى الصوفية والأحوال والسماع والفقر والتوكل، أو مسائل أخلاقية كمسألة أفعال العبد وإرادته ومعاني الحرية والعبودية، أو مسائل (إلهية) كمسألة الشرك، أو مسائل تتعلق بالحياة العملية كالكسب والقعود للناس في الوعظ والتذكير . ومن أقوالهم في هذه المسائل كلها تتألف آداب الطريق الملامتي عندهم. (3)
كلامهم في طرق محاربة النفس وظواهرها التي أهمها الزجر والبخع والتأنيب والاتهام وكل ما يمكن وضعه تحت العنوان العام الذي يطلقون اسم «الملامة» عليه. (4)
كلامهم في الغاية من الطريق وهي التحقق في مقام الإخلاص. (4) فلسفة الملامتية في النفس
يستعمل السلمي في رسالة الملامتية كلمات الروح والسر والقلب والنفس والطبع ويرتبها على هذا النحو من حيث الأفضلية بينها، ولكنه لا يحدد مفهومات هذه الألفاظ ولا يشير إلى وظيفة مدلول كل منها بالدقة كما فعل تلميذه وخلفه أبو القاسم القشيري، فهو يضع «الروح» في أعلى القائمة في الموضع الذي يضع فيه القشيري «السر». ولكن بعض أقوال الملامتية أنفسهم يشير إلى أن «السر» أفضل هذه القوى جميعها من حيث إنه محل المشاهدة، وهذا يتفق مع ما يقوله القشيري.
ولا بد من إيضاح معاني هذه الألفاظ لكي نعرف على وجه التقريب «النفس» التي يدعو الصوفية عامة والملامتية خاصة إلى محاربتها واتهامها والتضحية بها. أما النفس فتطلق في جملة ما تطلق عليه على اللطيفة المودعة في القلب الجسماني التي هي محل الأخلاق المذمومة والأفعال القبيحة، في مقابلة الروح التي هي لطيفة مودعة في القلب الجسماني أيضا ولكنها محل الأخلاق المحمودة والأفعال الحسنة، وفي مقابلة القلب والسر اللذين هما لطيفتان أخريان مودعتان في ذلك المجموع الذي نسميه إنسانا، فالإنسان بهذا المعنى مجموع قوى مسخر بعضها لبعض، لكل منها وظيفة خاصة، كما أن الجسم الإنساني كل في مجموعه كثير بقواه الجسمية وحواسه التي لكل منها وظيفته الخاصة. وقد أجمع الصوفية على أن الروح مبدأ الحياة، وأن النفس مبدأ الشهوات، والقلب مركز المعرفة، والسر مركز المشاهدة أو الشهود. أو كما يقال أحيانا: النفس مبدأ الشهوات والأفعال المذمومة، والروح مبدأ الحياة والأفعال المحمودة، والعقل محل العلم، والقلب محل المعرفة والمحبة أصالة، ولكنه إن مال إلى النفس اتصف بصفاتها، وإن مال إلى الروح اتصف بصفاتها، فهو متقلب بينهما. أما السر فهو محل المشاهدة التي ليس لواحدة من القوى السابقة اطلاع عليها. وقد يتكلم الصوفية أيضا عن سر السر أي السر المودع في لطيفة السر. وهذا أمر لا يطلع عليه إلا الله.
ويرتب القشيري هذه القوى بحسب لطافتها وفضلها على النحو الآتي: السر ثم الروح ثم القلب ثم النفس،
76
ويرتبها السلمي على نحو آخر هو: الروح ثم السر ثم القلب ثم النفس. ويجعل الترقي الصوفي في الأحوال من حال النفس إلى حال القلب من غير أن يشعر الطبع بذلك، ومن حال القلب إلى حال السر من غير أن تشعر النفس، ومن حال السر إلى حال الروح من غير أن يشعر القلب، فإذا وصل السالك إلى حال الروح حصلت له المكاشفة والمشاهدة.
77
وللنفس عند بعض الصوفية تعريف آخر، وهو أنها اسم لكل ما هو معلول (أي ذو علة ومعناها الصفة الذميمة)
78
من أوصاف العبد ومذموم من أفعاله وأخلاقه، سواء في ذلك ما اكتسبه العبد من المعاصي أو ما كان في طبعه في صفات ذميمة كالكبر والغضب والحقد وقلة الاحتمال ونحو ذلك مما ينتفي عن العبد بالمجاهدة والمنازلة.
وسواء عرفوا النفس بأنها قوة أو لطيفة تصدر عنها الشرور والآثام، أو بأنها مجموعة تلك الشرور والآثام، فهي لا شك عندهم العدو الأكبر الذي يجب على الصوفي منازلته، والشر المستطير الذي يجب عليه محوه. وهذا قدر مشترك بين الصوفية جميعا، إذ الكل مجمعون على أن النفس مصدر الآثام لأنها مصدر الشهوة والرغبة، وعلى أن جهادها عن طريق الحياة الصوفية هو الجهاد الأكبر. وربما كان أصلهم في ذلك ما ورد في القرآن والحديث من ذم النفس في مثل قوله تعالى:
إن النفس لأمارة بالسوء ، وكقوله تعالى:
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وقوله عليه السلام: «أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك.» ولكن الملامتية بالغوا في هذه الفكرة - تحت تأثير عامل غير إسلامي فيما أعتقد - مبالغة تجاوزت المعقول في كثير من الأحيان، فاعتبروا النفس شرا محضا، ونظروا إلى جميع أفعالها نظرة امتهان واتهام، وعدوا مجرد توهمها صدور شيء حسن عنها أو توهمها استحقاق قدر على أعمالها ضربا من ضروب الشرك الخفي؛ لأن ذلك في اعتقادهم تعظيم لفعل غير فعل الله. وليست طريقتهم التي سموها بطريقة الملامة سوى سلسلة من التعاليم يراد بها القضاء على النفس وجميع مظاهرها.
فالنفس ليست - في نظر الملامتية - مقابلة للروح فحسب من حيث أنها مصدر الشر والروح مصدر الخير، بل هي مقابلة لله من حيث أن رؤية أفعالها وتعظيمها والارتكان إليها بمثابة الإشراك بالله.
وتتبين قيمة تصنيف القوى النفسية عند الملامتية - كما ذكرها السلمي - فيما رتبوا عليه من النتائج المتصلة بمعرفة الله أو مشاهدته أو غير ذلك من المقامات الصوفية. فإذا كانت الروح عندهم محل المشاهدة - بدلا من السر عند القشيري - والمشاهدة حالة خاصة بين العبد وربه، اعتبر اطلاع السر على تلك المشاهدة نوعا من الرياء. وذلك لأن المشاهدة لا تكون إلا لأفضل قوة في الإنسان، فإذا اطلعت عليها قوة أخرى دونها في المرتبة لم تكن المشاهدة خالصة. وكذلك الحال في القوى الأخرى إذا اطلعت قوة منها على أعمال القوة التي هي فوقها في المرتبة، كالقلب إذا اطلع على أعمال السر، وكالنفس إذا اطلعت على أعمال القلب.
هذا من حيث اطلاع بعض القوى الإنسانية على وظيفة بعضها الآخر أو عمله، فقد فهم الملامتية هذه القوى على أنها منعزلة تماما تقوم كل واحدة منها - بل ويجب أن تقوم كل منها - بوظيفتها مستقلة تماما عن الأخرى. فإذا جاوزت إحداها حدودها واطلعت على ما يقوم به غيرها، شاب ذلك من إخلاصها وأوقع صاحبها في الرياء. أما إطلاع الملامتي غيره على فعله وحاله، أي إظهار ذلك له عن قصد، فهو أدخل في باب الرياء من سابقه، وهو في نظر الملامتية من رعونة الطبع ولعب الشيطان.
79
وهذا هو السر في أنهم حاربوا كل المظاهر المنبئة عن الأحوال والأفعال؛ فأنكروا لبس المرقعات، واستقبحوا السماع والتواجد فيه، وأخفوا الكرامات، وكرهوا القعود للناس للتذكير والوعظ وما أشبه ذلك من أسباب الإعلان عن الحال.
ويظهر أثر تصنيف الملامتية للقوى الإنسانية من ناحية أخرى في كلامهم في «الذكر»، فقد عدوا منه أربعة أنواع: ذكر اللسان وهو ذكر الجوارح، وذكر القلب، وذكر السر، وذكر الروح. وقالوا إذا صدق ذكر الروح سكت السر والقلب واللسان عن الذكر، وهنا تحصل المشاهدة في مقام الجمع أو مقام الفناء على حد قول الصوفية. وإذا صح ذكر السر سكت القلب واللسان، وهذا مقام الهيبة. وإذا صح ذكر القلب سكت اللسان، وذكر القلب هو ذكر الآلاء والنعماء. وإذا غفل القلب عن الذكر ذكر اللسان، وذلك أدنى مراتب الذكر وهو ذكر العامة.
ثم ذكروا لكل واحد من هذه الأذكار آفة، وآفة ذكر كل قوة اطلاع القوة التي دونها في المنزلة على ذكرها.
80
فذكر الروح هو ذكر الذات الإلهية في مقام المشاهدة، وذكر السر هو ذكر الصفات في مقام الهيبة والجلال، وذكر القلب هو ذكر أثر الصفات المعبر عنه بالآلاء والنعماء وذلك في مقام المعرفة، وذكر النفس هو الذكر باللسان، فإذا اطلع السر على ذكر الروح أفسد المشاهدة لأن المشاهدة الصادقة تقتضي نوعا من الفناء في الله، وإذا اطلع السر على ذكر الروح حصلت حالة الهيبة وهي منافية للتحقق بالفناء الكامل من حيث إن حصولها يقتضي وجودا وبقية للعبد الذي يشعر بها، وهذا مناف لحالة الفناء. وكذلك إذا اطلع القلب على ذكر السر أفسده؛ لأن القلب يذكر آلاء الله ونعماءه، وذكر الآلاء والنعماء يتنافى مع مقام الهيبة؛ لأن مقام الهيبة مقام قرب من الله ومقام ذكر الآلاء مقام بعد منه. أما ذكر النفس فالمراد به ذكر اللسان طلبا للثواب أو العوض وهو أدنى درجات الذكر عندهم، فإذا اختلط بذكر القلب أفسده لأنه يحول دون رؤية آلاء الله ونعمائه خالصة من الله الذي يمن بآلائه ونعمائه على العبد في غير مقابل أو عوض.
محاربة الرياء
ظهر مما ذكرناه عن نظرة الملامتية إلى النفس ومنزلتها أن لهم هدفا واحدا يرمون إليه وهو صدق المعاملة مع الله، ذلك الصدق الذي لا يتحقق إلا بتصحيح الأحوال والمقامات، والذي لا يتم إلا إذا انمحى كل أثر - ظاهر أو خفي - من آثار الرياء؛ ولذلك انطوى ذلك الأصل من أصولهم على معظم تعاليمهم، وكان بمثابة حجر الزاوية في بناء مذهبهم.
وإذا ذكر الرياء ذكر الإخلاص الذي هو ضده؛ لأن التخلص من الرياء شرط من شروط الإخلاص. ولكن الملامتية لم يتكلموا في الإخلاص - وهو هدفهم الإيجابي - بمثل ما تكلموا في محاربة الرياء وهي الوسيلة إلى ذلك الهدف، فقد حملتهم نظريتهم المتشائمة في النفس إلى إعلان حرب لا هوادة فيها ضد أخص صفة من صفاتها وهي الرياء الذي اتخذوا «الملامة» وسيلة إلى محوه. وإذا فهمنا الإخلاص على أنه إفراد الحق سبحانه بالطاعة، «والتقرب إليه سبحانه دون شيء آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب لمحمدة عند الناس أو محبة مدح من الخلق»، أو أنه «تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين»،
81
أو بعبارة أدق إذا فهمناه على أنه التحقق بالعبودية الكاملة لله دون غيره، وفهمنا «الصدق» على أنه التحرر من تقدير النفس والنظر إليها بعين الاعتبار والتعظيم، أدركنا أن الملامتي المخلص هو الذي لا رياء له، والملامتي الصادق هو الذي لا عجب له، وأدركنا مبالغة الملامتية في تطهير النفس من أدران هاتين الصفتين الحائلتين دون الوصول إلى درجة العبودية الكاملة التي هي درجة القرب.
وقد يقال إن تحريم الرياء من التعاليم الإسلامية الصحيحة، وإن الإخلاص والصدق من الصفات التي دعا الإسلام إليها وأفاض فيها الصوفية جميعا، خراسانيون وعراقيون ومصريون وشاميون. وقد يقال كذلك إن الملامتية أنفسهم يرجعون مذهبهم إلى أسس إسلامية محضة حيث يقول شيخ من أكبر شيوخهم وقد سئل عن معنى الملامة: «هي التزام ما وصفت
خلق الإنسان من عجل ،
إن النفس لأمارة بالسوء ،
وكان الإنسان عجولا ،
إن الإنسان لربه لكنود ،
إن الإنسان خلق هلوعا . أيمدح من كان بهذه الصفات أم يذم؟»
82
قد يقال كل ذلك ويتساءل القائل عن الصفة أو الصفات التي امتاز بها مذهب الملامتية من غيره. وجوابنا على ذلك أن الاتجاه الملامتي في التصوف لم يتميز عن غيره من الاتجاهات الأخرى إلا في الأمور الآتية:
أولا:
في جملته، أي من حيث هو مذهب له وحدة خاصة وصبغة معينة لا في تفاصيل المسائل الواردة فيه، وإلا فالرياء والإخلاص والصدق والعبودية وما إلى ذلك معان نراها عند الصوفية على اختلاف طبقاتهم، فالذي يمتاز به المذهب الملامتي هو تأليف وحدة منسجمة من هذه المعاني التي لا توجد في مذاهب غير الملامتية إلا في صور فردية غير ملتئمة، ثم محاولة تطبيق هذه المعاني وتحقيقها في الحياة العملية. ولا أدري لغير الملامتية نظاما محكما منسقا يرمي إلى إنكار الذات ومحو آثار النفس كنظامهم.
ثانيا:
فيما فهمه الملامتية في المصطلحات الصوفية من معان سلبية. وهذه النواحي السلبية هي المقصودة في الطريق الملامتي لأنها موضع المجاهدة والمحاربة. أما المعاني الإيجابية فأمور يلقيها الله في القلب إلقاء على سبيل المنة والفضل، فالملامتي لا يكتسب الإخلاص أو الصدق في طريقه؛ لأن الإخلاص والصدق صفتان يمنحهما الله للسالك إليه إذا أزال هو بمجاهدته ورياضته عوائق الإخلاص والصدق، أي إذا داوم على اتهام نفسه وعلى محاربة ريائه وعجبه.
ثالثا:
في ذلك المنظار الأسود الذي نظروا إلى النفس من خلاله وأنكروا عليها كل حسنة من حسناتها، وسلبوها وجودها الحقيقي وإرادتها وعلمها، وحرموها كل لذة حتى لذة الطاعات، وكل فكرة حتى فكرة حب الله أو القرب منه، وحسبوها جديرة بكل شر وإثم وقبح. وهذه نظرة لا أشك في أنها غير إسلامية.
ويجب ألا نفهم الرياء الملامتي بالمعنى الضيق المألوف، أي أنه إظهار غير ما يبطنه الإنسان. بل الرياء عند الملامتي إظهار غير الحقيقة، والحقيقة عنده معناها أن كل عمل فهو لله، وكل إرادة فهي لله، وإذن فادعاء الإنسان لنفسه عملا أو إرادة رياء محض؛ ولذلك لا يخلص العمل أو الحال عنده إذا دخل فيه عنصر الاختيار، وإنما يخلصان إذا أجراهما الله على العبد من غير اختيار منه، وأسقط رؤيته ورؤية الناظرين إليهما. والصادقون في نظر الملامتية هم الذين تركوا الاختيار ودعوى الأعمال والأحوال. وهذا هو تعظيم شعائر الله في القلوب.
هذا، وقد اتخذت محاربة الرياء في مذهب الملامتية صورا مختلفة نجملها فيما يلي:
أولا:
اتهام النفس (بالمعنى الذي يفهمه الملامتية من هذه الكلمة) ولومها في كل ما يصدر منها من قول أو عمل، أو يخطر لها من خاطر.
ثانيا:
عدم النظر إلى أعمال الطاعات والعبادات وتحريم استشعار اللذة بها، وإسقاط الافتخار بالأعمال والاغترار بها وبكل ما هو حظ للنفس كالإرادة وغيرها، بحيث لا يرون إلا الله، ولا ينظرون إلى أي فعل إلا على أنه لله. وربما كان هذا هو الذي يحمل بعض المتأخرين منهم في عصور تدهور هذا المذهب على ترك التكاليف الدينية.
ثالثا:
عدم النظر إلى العلم وعدم ادعاء شيء منه.
رابعا:
تحريم كل المظاهر التي قد يجد فيها الصوفي تمييزا بينه وبين غيره من الناس، أو التي قد تسبب له شهرة سواء في ذلك ما اتصل بطقوس أهل الطريق وشعائرهم التي تميزوا بها من غيرهم، أم بأحوال الصوفية ودعاويهم. وسنشرح كل واحد من هذه الأمور بالتفصيل.
اتهام النفس ولومها
وربما كانت فكرة اتهام النفس الأصل الذي تفرع عنه كل تعاليم الملامتية وأساليبهم. والاتهام والملام مترادفان في مذهبهم، وهما فكرتان تابعتان لرأيهم في طبيعة النفس كما أسلفنا.
وقد وقفوا من النفس موقف الاتهام والخصومة دائما، لا يرون لها معصية إلا اعتبروها من شيمتها، ولا طاعة إلا شكوا في إخلاصها فيها وتوجسوا خيفة من أمرها. والنفس في أصل طبيعتها في نظرهم مجبولة على الجهل والمخالفة والرياء، فإساءة الظن بها طريق لكشف خباياها وإظهار نزعاتها التي يرى الملامتي من واجبه مقاومتها؛ ولذلك جعل الملامتية سوء الظن بالنفس - في مقابلة حسن الظن بالله - أصلا من أصولهم. ودواء النفس من عللها السابقة الإعراض عنها، وتأديبها بمخالفتها، وصيانتها بملامتها وتقريعها. وبمقدار اتهام النفس تتضح عيوبها، وبمقدار معرفة الملامتي بعيوب النفس تكون معرفته بها.
ثم إن الملامتية ذهبوا في معارضة النفس كل مذهب ممكن، وأظهروا لها كل نوع من أنواع العناد، فهم يعلنون سيئاتهم ويخفون حسناتهم استجلابا للوم الناس وتعرضا لإيذائهم. وإذا أقبلت النفس على الناس عملوا على تنفير الناس منهم ليسلم لهم حالهم مع الله. وإذا ركنت النفس إلى شيء أو سكنت إليه أو استحسنت فعلا من أفعالها عمدوا إلى تذليلها وتحقيرها ومنعها مما تسكن إليه، وإذا رأت القبيح من أفعال الغير عمدوا إلى تحسينه، وإذا ظهرت لأحدهم حال أخفاها أو أنكرها. بل إنهم بالغوا في ذلك إلى حد أن أحدهم ليسلم على من يرد عليه كرها ولا يسلم على من يرد عليه طوعا، ويجالس من يحقره ويترك مجالسة من يكرمه، ويسأل من يمنعه ولا يسأل من يرضيه، إلى غير ذلك من أنواع معارضة النفس ومصادمتها في كل رغبة من رغباتها.
83
الرياء في الأعمال
سبق أن ذكرنا أن الملامتية يفهمون الرياء بمعنى إظهار كل ما هو غير حقيقي، وأن الحقيقة عندهم هي أن الله هو الفاعل لكل شيء، المريد لكل شيء، الواهب على سبيل المنة والفضل كل خير في الدنيا والآخرة بما في ذلك ثواب الأعمال. ومن الحقيقة عندهم أيضا أن كل ما يجري في الكون سواء في ذلك أفعال العباد أو غيرها قد قدر أزلا، وأن من العبث الوصول إلى غير المقدور.
فنظرتهم المتشائمة إلى النفس من ناحية، ونظريتهم في الجبر من ناحية أخرى قد وجها مذهبهم هذا الاتجاه الشاذ الذي قضى على قيمة كل عمل ومحا قيمة كل جزاء.
ولا تخلو أعمال العبد عن أن تكون طاعات أو مخالفات، فإن كانت طاعات كانت مما يجريه الله على يد العبد مما قدره أزلا، وإذن لا معنى في نظر الملامتية للفخر أو الاعتزاز بها. وأي مبرر يبرر استشعار اللذة بالطاعة أو الغبطة بها وهي ليست من عمله؟ قال بعضهم: «من أراد أن يسقط عنه الافتخار بما هو فيه أو النظر إلى ما هو عليه، فليعلم من أين جاء، وأين هو، وكيف هو ولمن هو، وممن هو، وإلى أين هو؟ فمن صح له علوم هذه المقامات لم ير لنفسه حظا ولم يظهر له حظ بحال، بل يراها مذمومة الكون ساقطة الأفعال، لا يبقى له من ظاهره افتخار ولا من باطنه اغترار.»
84
ولذلك ذهب الملامتية إلى مخالفة لذة الطاعات وعدوها سموما قاتلة ، بل اعتبروا إظهار لذة الطاعات نوعا من الغرور والرياء. قال أبو حفص: «العبادات في الظاهر سرور وفي الحقيقة غرور؛ لأن المقدور قد سن فلا يسر بفعله إلا مغرور.»
85
بل قد يذهبون في المبالغة في هذه الناحية إلى حد القول بأن نسبة الطاعات والعبادات إلى العبد نوع من الشرك الخفي لأنها بمثابة الاعتراف بوجود إرادة للإنسان إلى جانب الإرادة الإلهية. يحكي أبو عثمان الحيري عن شيخه أبي حفص في هذا المعنى أن رجلا قال له: أوصني، فقال أبو حفص: «لا تكن عبادتك لربك سبيلا لأن تكون معبودا، واجعل عبادتك له إظهار رسم الخدمة والعبودية عليك، فإن من نظر إلى عبادته فإنما يعبد نفسه.»
86
ومن هنا كانت الطاعة عند الملامتية من مرض النفوس إذا فهمت على أنها وليدة الاختيار. ودواء ذلك الإنابة المطلقة إلى الله، والتسليم المطلق بمسبوق القضاء، بحيث لا يرى العبد لنفسه أثرا في عمله إطلاقا، فهم على حد قول رويم: «يتحركون ويسكنون ويختارون، ولكن حركتهم وسكونهم واختيارهم ليست من أعمالهم، فلهم حركة وسكون واختيار في الظاهر، وفي الحقيقة المحرك والمسكن والمختار هو الله.»
هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى قد ضرب الملامتية للإخلاص في الطاعات والعبادات مثالا يقصر دونه كل عمل إنساني، ففيم إذن الافتخار والاعتزاز والمباهاة بالأعمال وهي قاصرة أبدا عن الوصول إلى درجة الكمال؟ وفي هذا المعنى يقول أبو يزيد البسطامي الذي ينطقه الملامتية بكثير من أقوالهم: «لو صفت لي تهليلة ما باليت بعدها بشيء.»
87
وهنالك سبب ثالث من أجله قلل الملامتية من النظر إلى طاعاتهم وحقروا من قيمتها، وذلك أنهم قاسوا ما للعبد من طاعات وعبادات إلى ما لله على العبد من عطايا ومنن، فعظم في نظرهم الدين الإلهي الذي شعروا أنهم لن يؤدوه مهما بذلوا من الجهد. عظم عندهم ما لله في جنب ما للعبد، وصغرت في أعينهم أعمالهم في جنب أعمال الله؛ ولذلك نظروا دائما إلى ما عليهم لا إلى ما لهم، واعتبروا من نظر إلى أعماله غافلا، ومن اعتز بها مرائيا مغترا. بل اعتبروا نظر العبد إلى عمله من طاعة ومجاهدة وزهد وعلم ونحوها حجبا كثيفة تحول بينه وبين ربه، كما قال لسان حالهم أبو يزيد: «أشد الناس حجابا عن الله ثلاثة: عالم بعلمه، وعابد بعبادته، وزاهد بزهده.»
88
ولما أنكر الملامتية على أنفسهم الفرح بالطاعات والتلذذ بالعبادات وعدوا ذلك من الرياء والشرك الخفي، لم يبق أمامهم إلا البكاء والندم على ما فرطوا في جنب الله. وأجاز لهم البكاء بعض شيوخهم كأبي حفص، وخالفه فيه تلميذه أبو عثمان الذي كان يرى أن بكاء الأسف يذهب بالأسف وأنه بمثابة السلوى، والتسلي عن الأسف بالبكاء يقطع مداومة الأسف، ومداومة الأسف واجبة عنده.
89
هذا فيما يتعلق بالأفعال التي تصدر عن الملامتية أنفسهم وهذا هو موقفهم منها، وهو موقف يدعو إلى الدهشة وإلى الألم أيضا لأنه موقف بلغ فيه التشاؤم أقصى حدوده، وذهب بكل جميل وجليل يمكن صدوره عن الإنسان، وقضى أو حاول أن يقضي على تلك السعادة الروحية التي يتذوقها الصوفي في حال قربه من الله عندما يدرك في عباداته ومجاهداته حضرة الربوبية ويعرف معنى التوحيد. وهي السعادة التي يرى الغزالي أنها وليدة هذه المعرفة، والمعرفة عنده هي «معرفة حضرة الربوبية المحيطة بكل الموجودات: إذ ليس في الوجود سوى الله تعالى وأفعاله، والكون من أفعاله، فما يتجلى من ذلك في القلب هو الجنة عند قوم وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق. وتكون سعة نصيب الإنسان من الجنة بحسب سعة معرفته، وبمقدار ما يتجلى له من الله وصفاته وأفعاله.»
90
ولكنهم كانوا أكثر تسامحا وأقل تشاؤما في نظرتهم إلى أفعال غيرهم من الناس؛ وهذا ما يجعل نظرتهم إلى أفعالهم نظرة خاصة يراد بها تأديب النفس وتطهيرها. وفي هذا أيضا تظهر فتوتهم، فبينا نراهم يقولون برؤية التقصير في أعمالهم، نراهم يلتمسون المعاذير لغيرهم فيما وقعوا فيه من المخالفات، ولا ينظرون إلى أحد بعين التحقير والنقص؛ لأنهم - كما يقولون - إما أن ينظروا إلى الخلق بعين الخلق فيلوموهم على تقصيرهم، وهذا يؤدي بهم إلى الخصومة والنزاع وهو ما لا يرضونه لأنهم يريدون أن يعيشوا في أمان مع غيرهم، أو ينظروا إليه بعين الحق، وهذا يؤدي بهم إلى التماس العذر لهم لأنهم يدركون أنهم مجبرون على فعل ما يفعلون، وإذن فهم لا يرون لوم الغير على كل حال.
91
وأما القسم الثاني من الأفعال التي تصدر عن الملامتية فهو المعاصي والمخالفات، وهذه أولى بألا يدعى فيها أو يعتز بها لأنها صادرة عن رعونات النفس وشهواتها التي تجب محاربتها بكل وسيلة ممكنة. ولكن الملامتي قد يتعمد - كما قلنا - الظهور بين الناس بما يخالف ظاهره ظاهر الشرع استجلابا للومهم وتنفيرا لهم منه كيلا يفتتنوا أو يغتروا به، وغيرة على ما يعتبرونه سرا خاصا بينهم وبين الحق لا يجب أن يطلع عليه سواه.
الرياء في الأحوال
وإذا كان إسقاط الملامتية لرؤية أفعالهم جزءا من نظريتهم في الإخلاص، فإسقاطهم لرؤية الأحوال جزء آخر لا يتم الإخلاص إلا به، فإذا صحت لأحدهم حال لم يظهر بها، بل حاول إخفاءها وحقر من أمرها ونظر إليها نظرة ريبة وخوف، وعدها محل استدراج أو امتحان من الله، لا محل ظهور ومباهاة؛ ولهذا كان الملامتية كلما صفت لهم الأحوال زادوا تواضعا وخوفا، ولأنفسهم ازدراء.
92
وكما أنهم عدوا الظهور بالأعمال رياء، كذلك عدوا الظهور بالأحوال دعاوى، والدعاوى تنافي مقام العبودية الخالصة، إذ العبد لا يدعي لنفسه شيئا، وإنما ينسب كل فضل إلى سيده. قال أبو عمرو إسماعيل بن نجيد الملامتي: «لا يبلغ الرجل شيئا من مقام القوم حتى تكون أفعاله كلها عنده رياء وأحواله كلها دعاوى.»
93
والأصل الذي يستندون إليه في ذلك هو أنهم يعتبرون الإخلاص سر الله في قلب العبد، ويستشهدون على ذلك بحديث يقول النبي
صلى الله عليه وسلم
فيه: «سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو؟ قال: سر من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي.» ففسروا الإخلاص بأنه كمال العبودية الذي لا يتم إلا إذا رأى العبد جميع ما يجري عليه وما يصدر عنه إنما هو من الله عز وجل. والسر هنا «هو ما أخفته الضمائر غيرة من أن يطلع عليه غير المنعم.»
94
وهو ليس إلا الأحوال التي ينكشف للملامتي (أو الصوفي) فيها معاني الحضرة الربوبية التي أسلفنا ذكرها، ومعاني القرب من الله. وفي هذا يقول أبو زكريا السنجي: «الأحوال أمانات عند أهلها، فإذا أظهروها فقد خرجوا من حد الأمناء.»
95
فالذي منع الملامتية من إظهار أحوالهم إذن أمران: الأول أن الأحوال أسرار خاصة بين الله والعبد، فهم بدافع الغيرة من جهة، وبدافع تأدية الأمانات إلى أهلها من جهة أخرى، يضنون بأحوالهم إلا على من يجب أن يطلع عليها وحده. وشأنهم في ذلك شأن المحب الذي يغار على محبوبه أن يطلع على حبهما ثالث. والأمر الثاني أنهم يرون أن في إظهار الأحوال نوعا من الدعوى، والدعوى رياء. بل الملامتي الكامل هو الذي وصفه أبو يزيد بأنه «من كتم حاله عن الناس تماما بحيث إنه يؤاكلهم ويشاربهم ويمازحهم ويبايعهم ويشاريهم، ولكن قلبه متعلق بملكوت القدس.»
96
وقد شرحنا الفرق بين إظهار الأحوال عند الصوفية وكتمانها عند الملامتية عند كلامنا عن الفرق بين الطائفتين فليرجع إليه هنالك.
ولشدة حرص الملامتي على كتمان حاله، كره كل ما يثير فيه الحال ويظهرها كالسماع والتواجد والذكر والصياح وأمثالها، كما كره أن تظهر على يديه أية أو كرامة خوفا من أن يفتتن بنفسه أو يفتتن به الناس. وكان الملامتية إذا ظهرت على أيديهم الكرامات نظروا إليها بعين الاستدراج واعتبروها بعدا عن سبيل الحق بدلا من أن يعتبروها علامة على القرب من الله. وهم في هذا يفرقون بين كرامة الولي ومعجزة النبي، ويرون أن الرسل مضطرون إلى الظهور بمعجزاتهم لكي تتأيد بها دعواهم وتيسر بها سبيلهم إلى تبليغ رسالاتهم. أما الأولياء، فليسوا بحاجة إلى هذا التأييد؛ ولهذا كان ظهور النبي بالمعجزة كمالا، وظهور الولي بالكرامة نقصا.
أما السماع، فيرى جمهورهم أن تركه أولى، وإن كانوا لا يحرمونه على مريديهم تحريما مطلقا. سئل بعضهم: ما بالكم لا تحضرون مجالس السماع؟ فقال: «ليس تركنا مجلس السماع كراهية وإنكارا، ولكن خشية أن يظهر علينا من أحوالنا ما نسره، وذلك عزيز علينا .»
97
وأما الذكر (أي ذكر اللسان) فقد فضلوا ذكر القلب عليه لما فيه أيضا من معنى الإعلان عن الحال. وكذلك كرهوا البكاء في السماع والذكر ونحوهما إذ كان في البكاء إعلان عن حال الباكي وإباحة بالسر الذي بينه وبين ربه، وطالبوا مريديهم بالصمت والكمد بدلا منه. وقد لاحظوا في كراهية البكاء معنى آخر علاوة على إعلانه الحال، وهو أن في البكاء تفريجا عن نفس الباكي ولذة له، وهذه اللذة وحدها كافية في نظرهم في إبطال قيمة البكاء؛ ولذلك أحلوا الكمد محله ولم يبيحوا من البكاء إلا بكاء الأسف كما قدمنا.
الرياء في العلم
وثالث الأشياء التي حرص الملامتية على كتمانها واعتبروا الجهر بها رياء وادعاء هو العلم، فالملامتي لا ينظر إلى علمه ولا يعترف بأن له علما جديرا بأن يعتز به أو يظهر به للناس؛ لأن رؤية العلم - كرؤية الحال والأعمال - من الحجب الكثيفة بين العبد وربه.
وحججهم في إنكار العلم ما يأتي:
أولا:
أن علم العبد من علم الله وأنه لا يساوي شيئا بالنسبة إلى علم الله المحيط بكل شيء، فالظهور به محض إعجاب ورياء.
ثانيا:
أن العبد مجبر على علمه كما هو مجبر على عمله، فالعلم عارية كما أن العمل عارية، يجريه الله على قلب العبد كما يجري الأفعال على جوارحه. قال أبو بكر محمد بن علي بن جعفر الكتاني المتوفى سنة 322: «كيف يعجب العاقل بعلمه وهو يعلم أنه لا يقدر على شيء من علمه؟»
ثالثا:
أن العلم أمانة أودعها الله قلب عبده، فالظهور به وإذاعته إذاعة لسر اؤتمن عليه، فالعلم - كالحال - يهبه الله لمن يشاء ويأتمنه عليه. وكما أن العبد مطالب بكتمان حاله، كذلك هو مطالب بكتمان علمه.
لذلك كره الملامتية الكلام في تفاصيل العلوم والمعارف الإلهية، ولزموا الصمت حيث اختار غيرهم الكلام. قيل لأبي حفص النيسابوري يوما: «ما بالكم لا تتكلمون كما يتكلم البغداديون وغيرهم من الناس وما بالكم اخترتم الصمت؟» فقال: «لأن مشايخنا صمتوا بعلم، ونطقوا على الضرورة، فوقع لهم محل الأدب في الكلام، فلم يتكلموا إلا بعد ما عقلوا عن الله فصاروا أمناء الله في أرضه، والأمين حريص على حفظ أمانته.»
98
يشير بذلك إلى أن كبار الملامتية فضلوا الصمت على الكلام في مسائل العلم إلا فيما عقلوه عن الله، فإذا نطقوا بما عقلوه عن الله كانوا مجرد ناقلين لا مبتدعين؛ لأنهم إنما يؤدون الأمانة على وجهها ويلتزمون جانب الأدب مع الله.
أما العلم بظاهر الشرع فلم ير الملامتية بأسا من الكلام فيه لأنه اقتداء ولا حظ للنفس فيه بحال، فالملامتي الصادق لا يتكلم في علوم الأحوال إلا مضطرا، أما إذا ترك له الخيار فإنه يلزم الصمت ويفضله.
وربما كان الملامتية في كتمان أحوالهم وعلومهم أقرب إلى ما يتطلبه منطق التصوف وأبعد عن التناقض من غيرهم؛ لأنه إذا كانت أحوالهم وعلومهم من الأمور الذوقية التي لا يمكن تعليلها ولا تفسيرها ولا التعبير عنها، فالصمت عن الكلام فيها أولى من وصفها بعبارات لا تخرج عن حدود المجازات والتشبيهات، بل تفسح المجال للتأويلات والتكهنات؛ ولهذا أراد الملامتية أن تكون حياتهم خاصة بهم وألا يطلع عليها غير الله، فإذا فعلوا شيئا فعلوه في صمت، وإذا كانت لهم حال مروا بها في صمت، وإذا كشف لهم عن علم وقفوا عليه في صمت، بينما اختار غيرهم وسائل الجهر بالأعمال والأحوال والعلوم، وفتحوا الباب للدعاوى العريضة التي لم يلتزموا فيها حد المعقول أحيانا؛ ولهذا السبب نفسه لم يخلف لنا هؤلاء الفلاسفة الصامتون مثل ما خلف زملاؤهم الصوفية من ثروة طائلة في وصف أحوال السائرين ومقاماتهم ومعارجهم الروحية وعلومهم وأذواقهم، فنحن لا نكاد نعرف شيئا عن حياتهم الروحية إلا تلك القواعد السلبية التي لا يعرف صداها الروحي في نفوسهم إلا هم، وهذا الصدى هو السر الذي آثروا الاحتفاظ به لأنفسهم. (5) إسقاط الدعاوى
إذا كانت الدعوى «إضافة النفس إليها ما ليس لها»، وكان الملامتية قد أنكروا الظهور بالأعمال لأنها مما يجريه الحق على يد العبد، أو لأنها رعونات للنفس يجب محاربتها والقضاء عليها، وأنكروا الظهور بالأحوال والعلوم لأنها آثار لله في قلب العبد وأسرار له يجب ألا يطلع عليها غيره، وأنكروا الظهور بالكرامات لأنها من المنن الإلهية التي يجب ألا تعلن للخلق. إذا كان كل ذلك، أمكننا أن ندرك حرص هؤلاء القوم أولا: على إسقاط الشهرة بجميع مظاهرها، ثانيا: إسقاط الدعاوى بجميع أنواعها، إذ الدعاوى لا تكون إلا في الأعمال والأحوال والكرامات والعلم. بل إن الملامتية بفرضهم على أنفسهم مبدأ الاتهام ورؤية التقصير في كل شيء، قد وضعوا سدا منيعا بين أنفسهم وبين الدعاوى التي ربما تخطر ببالهم، وتركوا هذه الدعاوى لغيرهم من الصوفية الذين يتكلمون في الوصول والقرب والفناء والحلول والاتحاد وما شاكل ذلك مما نجده في كلامهم.
على أن الدعاوى في نظرهم حجب غليظة بينهم وبين الله لأنها بمثابة التقرير لوجود النفس التي يعملون على محوها ومحو آثارها. هذا على ما في الدعاوى من معنى التعظيم للنفس والتقدير لها، وهم يعملون على تحقيرها وإذلالها.
وإذا كان الملامتية قد أعلنوا الحرب على الرياء في الأعمال والأحوال والعلوم، فإن حربهم ضد الدعاوى أشد وأظهر؛ لذلك لا تراهم يدعون لأنفسهم عبادة ولا صلاحا ولا تقوى، ولا خشوعا ولا ورعا ولا زهدا ولا فقرا، ولا ولاية ولا كرامة، ولا حبا لله ولا وصولا إليه ولا حلولا ولا فناء فيه، ولا ألوهية ولا تخلقا بصفات الألوهية، ولا أية صفة تميزهم عن سائر الخلق. •••
فمن ذلك يتبين أن هذه التفاصيل الدقيقة التي وصل إليها شيوخ نيسابور في ميدان التصوف الملامتي والتي رددتها إلى هذه الأصول العامة، قائمة في جوهرها على فكرتهم في النفس ومحاربتهم لأهم مرض من أمراضها وهو الرياء، أو بعبارة أخرى قائمة على فكرة إنكار الذات التي هي الفكرة الأساسية في الفتوة؛ لهذا أرى أن الفتوة والملامة وجهان لحقيقة واحدة، وأن الملامتية هم على وجه التحقيق فتيان الصوفية.
القسم الثاني
رسالة الملامتية ومؤلفها
(1) أبو عبد الرحمن السلمي ومنزلته من تاريخ التصوف
هو الزاهد أبو عبد الرحمن محمد الحسين بن محمد بن موسى النيسابوري الصوفي الأزدي السلمي: الأزدي من جهة أبيه، والسلمي نسبة إلى جده لأمه.
1
وفي نسبة السلمي إلى جده لأمه شيء من الغرابة؛ لأنه ليس من مألوف عادة العرب نسبة الرجل منهم إلى قبيلة أمه. ولكن ربما ارتفع ذلك العجب إذا أدركنا أن أهل السلمي من جهة أبيه لم يكن لهم من عريض الجاه ونابه الذكر ما كان لأهله من جهة أمه؛ فقد كان أبو عمرو بن نجيد السلمي الذي نسب إليه أبو عبد الرحمن من كبار رجال الصوفية في عصره، واسع الثراء عريض الجاه. يحكي لنا السبكي في طبقات الشافعية:
2 «أنه ورث من آبائه أموالا جزيلة فأنفقها على العلماء ومشايخ الزهد ... وأنه صحب - وهو فتى - أبا عثمان الحيري
3
شيخ الملامتية بنيسابور في وقته وأخذ عنه طريقته، وكان مقربا عند الشيخ حتى قال فيه مرة: «أبو عمرو خلفي من بعدي.» ومرة أخرى: «يلومني الناس في هذا الفتى، وأنا لا أعرف على طريقته سواه.»
4
ومما يستدل به على ثراء أبي عمرو وبذله المال عن سعة في وجوه الخير أن أبا عثمان الحيري طلب شيئا من المال لبعض الثغور فتأخر عنه فضاق صدره وبكى على رءوس الناس، فأتاه أبو عمرو بن نجيد بعد العتمة بكيس فيه ألفا درهم، ففرح أبا عثمان ودعا له. ولما جلس في مجلسه قال: يا أيها الناس إن أبا عمرو قد ناب عن الجماعة في ذلك الأمر وحمل كذا وكذا فجزاه الله عني خيرا، فقام أبو عمرو وقال: إنما حملت ذلك من مال أمي وهي غير راضية فينبغي أن ترده علي لأرده عليها، فأمر أبو عثمان بذلك الكيس فأخرج إليه وتفرق الناس، فلما جاء الليل جاء إلى أبي عثمان وقال: «يمكن أن تجعل هذا في مثل ذلك الوجه من حيث لا يعلم به غيرنا.» فبكى أبو عثمان. وكان يقول: إنني أخشى من همة أبي عمرو.
5
وفي أبي عبد الرحمن السلمي نفسه يقول السبكي:
6 «قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي: كان [أي السلمي] وافر الجلالة له أملاك ورثها عن أمه وورثتها هي عن أبيها.»
على أن أبا عمرو بن نجيد لم يكن الوحيد من أجداد أبي عبد الرحمن لأمه ممن اختصوا بالزهد والعلم ونباهة القدر، فقد كان له جد آخر من جلة العلماء المحدثين بنيسابور هو أحمد بن يوسف بن خالد النيسابوري. أما أبوه الحسين بن محمد بن موسى فلا نعرف عنه شيئا سوى أنه كان من رجال الصوفية أيضا، وأنه عنه وعن جده أبي عمرو بن نجيد ورث أبو عبد الرحمن التصوف، وكان لهما في نشأته الأولى في طريق القوم أثر كبير.
ويدل نسب السلمي على أنه انحدر من أصل عربي خالص من جهة أبيه وأمه على السواء، فنسبه من جهة أمه [أي السلمي] يصله بالقبيلة العربية المعروفة باسم سليم بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر.
7
ونسبه من جهة أبيه [الأزدي] يدل على أنه من سلالة قبيلة عربية أخرى يحتمل أن تكون قبيلة أزد بن الغوث المشهورة. فهو بكل ذلك يختلف عن جمهور مؤلفي التصوف ومترجمي رجاله ممن عاشوا قبله أو بعده وكانوا من أصل غير عربي.
ولد أبو عبد الرحمن في رمضان سنة 330ه في بيت علم وزهد كما قلنا، وفي هذا البيت نشأ، وعن أهله أخذ علوم التصوف والحديث، فقد أدرك جده أبا عمرو، وروى عنه، وكان من المعجبين والمقتدين به.
ولا نعرف شيئا عن حياته الأولى سوى أنه عكف منذ حداثة سنه على القراءة والدرس وجمع الكتب حتى أصبح لديه منها مكتبة عظيمة، وأنه سمع لعدد كبير من شيوخ عصره، منهم: أبو العباس الأصم، وأحمد بن علي بن حسنويه المقري، وأحمد بن محمد عبدوس، ومحمد بن أحمد بن سعيد الرازي، وغيرهم.
8
وأكثر ما عرف به السلمي مؤلفاته في التصوف، فقد وصفه الحافظ بن عبد الغفار فقال: «شيخ الصوفية في وقته، الموفق في جميع علوم الحقائق ومعرفة طريق التصوف، وصاحب التصانيف المشهورة العجيبة في علم القوم.»
9
وفيه أيضا يقول الهجويري صاحب كشف المحجوب:
10
إنه كان من أوائل من كتب في طبقات المشايخ وسيرهم وروى أقوالهم وبحث طرقهم وسلوكهم وآدابهم ومعاملاتهم وصحبتهم، وألف في أصول بعض فرقهم ،
11
ودافع عن تعاليمهم وتقاليدهم بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، كما فعل في كتابه «السماع». ولكن السلمي كتب أيضا في التفسير والحديث، فقد حدث - على حد قول السبكي - أكثر من أربعين سنة إملاء وقراءة.
ويظهر أن التأليف في التصوف كان شغله الشاغل وهمه الأول، وأنه لم يعن بالتفسير والحديث إلا بمقدار ما يستعين بهما على خدمة التصوف، فقد كتب تفسيرا للقرآن بلسان صوفي يعرف بتفسير أهل الحق وبحقائق التفسير.
12
واتهم بوضع الأحاديث للصوفية، اتهمه بذلك محمد بن يوسف النيسابوري القطان فقال: «السلمي غير ثقة [أي في الحديث]، وكان يضع للصوفية.»
13
وإن كانت هذه تهمة حاول ردها عنه كل من السبكي والخطيب. والظاهر أن حرصه الشديد على تأييد تعاليم الصوفية بالأدلة النقلية من الكتاب والسنة دفع به إلى تلمس الأحاديث التي يمكنه أن يستعين بها على تحقيق مأربه مهما كان مصدرها، ولا أستبعد أنه وضع الكثير منها، فقد جعل من كل صوفي ترجم له في طبقاته محدثا يروي من الأحاديث ما يتمشى عادة مع نزعته الصوفية. وكل هذه الأحاديث واردة في الدنيا ومحاسبة النفس على حلالها وحرامها وأنها سجن المؤمن وجنة الكافر، وفي الرزق وحمد الناس عليه دون الله، وفي الرضا والسخط، ونحو ذلك مما هو أدخل في صميم التصوف. وتروى هذه الأحاديث على لسان شقيق البلخي والحارث المحاسبي وذي النون المصري وأبي يزيد البسطامي ونحوهم، ممن عرف عنهم أنهم من رواة الحديث أو من غير رواته. أما تأييده قواعد التصوف بالحديث فظاهر في طبقاته هذه وفي رسالته في الملامتية، فإنه يعقد صلة بين كل أصل من أصولهم وحديث من الأحاديث أو آية من الآيات القرآنية، وهو منهج يكاد ينفرد به السلمي في تأريخه للتصوف ورجاله، ومن أجله اتهم بالضعف والوضع للصوفية وعدم الأمانة في النقل. على أنني لا أستبعد وضعه بعض الأحاديث فحسب، بل لا أستبعد كذلك وضعه كثيرا من عبارات الصوفية على ألسنة القوم بما يتناسب مع مشاربهم ونزعاتهم؛ فإن اللفظ في معظم المناسبات له، والمعنى والنزعة لهم. على أن هذا ليس بقادح في تآليف السلمي ولا في قيمتها ومنزلتها العالية في تاريخ التصوف، فإن السلمي سيظل بالرغم من كل هذا أستاذ مؤرخي هذا العلم غير منازع. ويكفي أن يشهد له ويدافع عنه رجال لهم خطرهم في تاريخ التصوف، أمثال أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري وأبي نعيم الأصفهاني وغيرهما، ممن نقلوا عنه وأخذوا بمنهجه، واعتبروه حجة في التصوف ومرجعا ثبتا.
14
فلا تكاد تخلو صفحة من صفحات رسالة القشيري من رواية عن السلمي - لا سيما في ترجمات المشايخ - وكثيرا ما يلجأ إلى الرواية عنه أبو نعيم في حليته، والخطيب البغدادي في تاريخه، مع ما عرف عن هذا الأخير من عدم تحيزه إلى الصوفية. أما أبو نعيم فيعترف بفضل السلمي عليه حيث يقول: «قد أتينا على من ذكرهم الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي ونسبهم إلى توطين الصفة
15
ونزولها، وهو أحد من لقيناه وممن له العناية التامة بتوطئة مذهب المتصوفة وتهذيبه على ما بينه الأوائل من السلف مقتد بسيمتهم، ملازم لطريقتهم، متبع لآثارهم، مفارق لما يؤثر عن المتخرمين المتهوسين من رجال هذه الطائفة، منكر عليهم؛ إذ حقيقة هذا المذهب عنده متابعة الرسول
صلى الله عليه وسلم
فيما بلغ وشرع، وأشار إليه وصدع، ثم القدوة المتحققين من علماء المتصوفة ورواة الآثار وحكام الفقهاء.»
16
ومما عيب على أبي عبد الرحمن السلمي أيضا تواجده في السماع، وأنه كان يقوم فيه موافقة للفقراء. ولكن الدلائل تشهد بأنه لم يكن يفهم التواجد بالمعنى الذي ينقص من قدر الصوفي المتواجد، ولا يفهمه على أنه وليد السماع وحده، بل على أنه نشوة روحية تعرض للرجل عندما يتبين له معنى من المعاني التي أشكلت عليه، وأن السماع لا مدخل له في إيجاد حركة المتواجد، وإنما هي نشوة الظفر بالمطلوب، وكشف غوامض الأسرار. يؤيد ذلك حكايتان ذكرهما السبكي في ترجمته للسلمي:
الأولى أنه جرى يوما ذكر أبي عبد الرحمن السلمي بين أبي القاسم القشيري وأبي علي الدقاق، فقال القشيري: «كنت بين يدي أبي علي الدقاق، فجرى حديث أبي عبد الرحمن السلمي وأنه يقوم في السماع موافقة للفقراء، فقال أبو علي: مثله في حاله لعل السكون أولى به، امض إليه فستجده عاقدا في بيت كتبه، وعلى وجه الكتب مجلدة صغيرة مربعة فيها أشعار الحسين بن منصور، فهاتها ولا تقل له شيئا. قال : فدخلت عليه، فإذا هو في بيت كتبه والمجلدة بحيث ذكر أبو علي، فلما قعدت أخذ في الحديث وقال: «كان بعض الناس ينكر على واحد من العلماء حركته في السماع، فرئي ذلك الإنسان يوما خاليا في بيت وهو يدور كالمتواجد، فسئل عن حاله، فقال: كانت مسألة مشكلة علي فتبين لي معناها، فلم أتمالك من السرور حتى قمت أدور، فقل له مثل هذا يكون حالهم.» وهذه الحكاية فوق دلالتها على قوة الفراسة عند كل من أبي علي الدقاق والسلمي، توضح لنا ما يفهمه هذا الأخير من معنى التواجد، وأن حركة التواجد لا يحدثها السماع، وإنما تنكشف للصوفي أسرار ومعان تكون قد أشكلت عليه قبل السماع، فهي مظهر الاغتباط الروحي بما يظفر به الصوفي، لا دليل لذة حسية ناشئة من السماع.
والحكاية الثانية تدل على إنكار السلمي للسماع، وهي أنه خرج يوما من نيسابور إلى مرو ليزور الأستاذ أبا سهل الصعلوكي، وكان من عادته أن يعقد في غدوات أيام الجمعة مجلس ورد القرآن ليختم فيه، فلما حضر مجلس الصعلوكي وجده قد رفع مجلس القرآن وعقد لرجل مجلس القول، فأحس بمرارة في نفسه من ذلك، فلما سأله الصعلوكي: «إيش يقول الناس في؟» قال: «يقولون رفع مجلس القرآن ووضع مجلس القول.» فقال الصعلوكي: «من قال لأستاذه لم، لا يفلح أبدا.»
17
والمراد بمجلس القول هنا مجلس السماع، فالسلمي في هذه الناحية أقرب إلى مشرب السلف ومذهب الملامتية الذين ينكرون السماع، ويعتبرون التواجد فيه ضربا من ضروب الرياء.
تلاميذ السلمي
قصد كثير من العلماء أبا عبد الرحمن السلمي للصحبة والدرس والرواية عنه، لمكانته في التصوف وبعد صيته في هذا الميدان وفي ميدان الحديث وغيره من علوم الدين. وقد ذكر كل من الذهبي في طبقات الحفاظ وتذكرة الحفاظ، والسبكي في طبقات الشافعية، عددا غير قليل من العلماء الذين تتلمذوا له ونقلوا عنه، وكان له على مؤلفاتهم في التصوف وغيره فضل كبير. قال الذهبي:
18 «وحمل عنه (أي عن السلمي) القشيري والبيهقي، وأبو صالح المؤذن، ومحمد بن يحيى المزكي، وأبو عبد الله الثقفي، وعلي بن أحمد الأخرم المؤذن، ومحمد بن إسماعيل التفليسي، وخلق سواهم.» وقال في طبقات الحفاظ:
19 «سمع [أي السلمي] الأصم، ومنه البيهقي والقشيري.» وقال السبكي:
20 «روى عنه [أي السلمي] الحاكم أبو عبد الله، وأبو القاسم القشيري، وأبو بكر البيهقي، وأبو سعيد بن مرامش، وأبو بكر بن يحيى المزكي، وأبو صالح المؤذن، وأبو بكر بن خلف، وعلي بن أحمد المديني المؤذن،
21
والقاسم بن الفضل الثقفي، وخلق سواهم.»
ويكفي السلمي فخرا أن يكون القشيري صاحب الرسالة المشهورة في التصوف أحد تلاميذه الذين عاشروه وأخذوا عنه مباشرة. ويجمع مترجمو القشيري على أنه صحب السلمي وروى عنه إلى أن صار أستاذ خراسان، فيقول السبكي في طبقاته:
22
إن القشيري سمع الحديث من طائفة من العلماء منهم أبو عبد الرحمن، ويذكر في مكان آخر
23
أن القشيري بعد وفاة أبي علي الدقاق [صهره] عاشر أبا عبد الرحمن السلمي. والرسالة القشيرية ذاتها تفيض بروايات مؤلفها مباشرة عن السلمي مما لا يدع مجالا للشك في فضل الأستاذ على تلميذه. ولسوء الحظ لم يخلف لنا القشيري ترجمة صوفية لأستاذه كنا نستشف منها شيئا عن حياته الروحية التي نجهل الكثير من نواحيها، بل هو يعتذر عن إغفاله ذلك في آخر الفصل الذي أفرده لترجمات المشايخ
24
حيث يقول: «فأما المشايخ الذين أدركناهم وعاصرناهم وإن لم يتفق لنا لقياهم، مثل الأستاذ الشهيد لسان وقته وأوحد عصره أبي علي الحسن بن علي الدقاق، والشيخ نسيج وحده في وقته أبي عبد الرحمن السلمي إلخ، فلو اشتغلنا بذكرهم وتفصيل أحوالهم لخرجنا عن المقصود في الإيجاز، وغير ملتبس من أحوالهم حسن سيرهم في معاملاتهم.» وقد مات القشيري سنة 465ه، أي بعد وفاة السلمي بثلاث وخمسين سنة.
أما أبو بكر البيهقي فهو أحمد بن الحسين بن علي بن عبد الله بن موسى الحافظ النيسابوري الخسرجردي،
25
كان من فحول الحفاظ الذين أخذوا عن السلمي وتتلمذوا له، وكان محدثا كبيرا ومؤلفا في مذهب الشافعي لا ند له، شهد له إمام الحرمين شهادة لم يشهدها لشافعي غيره فقال: «ما من شافعي إلا وللشافعي في عنقه منة إلا البيهقي، فإن له على الشافعي منة لتصانيفه في نصرة مذهبه.»
26
وليس للبيهقي أثر في التصوف وتاريخه مثل ما للقشيري، فإن كان للسلمي فضل عليه فذاك في علم الحديث الذي يعد البيهقي من فحول رجاله. وقد مات البيهقي سنة 458ه، أي بعد وفاة السلمي بست وأربعين سنة.
ويجب أن نعتبر أيضا من تلاميذ السلمي الحافظ الكبير أبا نعيم الأصفهاني صاحب الحلية، وإن لم يذكر مترجموه أنه روى عن السلمي مباشرة، ولكن أبا نعيم نفسه يعترف بفضل السلمي عليه وأخذه أخبار الصوفية عنه، ويشهد فيه شهادة تبرئه من كثير مما ألصقه به بعض الناقمين عليه. يقول أبو نعيم:
27 «وهو (أي السلمي) أحد من لقيناه وممن له العناية بتوطئة مذهب المتصوفة وتهذيبه ... وسأقتفي في باقي الكتاب من ذكر التابعين حذوه، إذ هو شرع في تأليف طبقات النساك.» فأبو نعيم يعد نفسه صراحة من تلاميذ السلمي في مادته ومنهجه. والناظر في ترجمات المشايخ المشتركة بين حلية أبي نعيم وطبقات السلمي يدرك مدى انتفاع صاحب الحلية بمؤلف الطبقات في طريقته في عرض تراجم الصوفية واقتباس الأقوال المأثورة عنهم، وإن كان لأبي نعيم أسلوبه الخاص به، وهو أسلوب يمتاز بالإطناب والمبالغة في وصف عجائب الصوفية وكراماتهم.
على أن السلمي من ناحية أخرى قد روى عن أبي نعيم مع تقدمه في السن عليه، إلى حد أن السبكي يعد أبا نعيم من مشايخه،
28
إلا أنه مما لا شك فيه أن فضل السلمي على أبي نعيم يربو بكثير عن فضل أبي نعيم عليه. وقد مات أبو نعيم سنة 430ه، أي بعد وفاة السلمي بثماني عشرة سنة.
أما بقية تلاميذ السلمي الذين ذكرهم السبكي والذهبي، فليس لهم كبير حظ من ناحية التصوف وتاريخه، وإن كان لبعضهم مؤلفات في علوم الحديث والتاريخ العام، نخص بالذكر منهم أبا عبد الله
29
الحاكم صاحب التصانيف في علم الحديث وصاحب تاريخ نيسابور، وأبا صالح المؤذن الذي كان من كبار الحفاظ وقد روى عن السلمي وأبي نعيم معا.
30
تصانيفه
كان السلمي - كما أسلفنا - من أوائل مؤرخي التصوف ومصنفي الطبقات، ولكنه لم يكن مؤرخا للتصوف ورجاله فحسب، بل كتب أيضا في مسائل التصوف ذاتها عددا غير قليل من الكتب ضاع للأسف بعضها، وبقي بعضها مخطوطا لم ينشر بعد. وقد تناول وجوها كثيرة من التصوف في كتبه، ملخصا قواعد الطريق الصوفي وآدابه أحيانا، أو شارحا وناقدا من يرى أنه خرج على روح التصوف الحقيقية أحيانا أخرى. كما أنه انفرد بوضع كتب في بعض فرق الصوفية، كرسالته في الملامتية وأصول تعاليمهم، وهي الرسالة التي ننشرها هنا.
ويذكر الحافظ عبد الغافر في كتبه أن السلمي قد ألف في علوم التصوف «ما لم يسبق إلى ترتيبه حتى بلغ فهرس تصانيفه المائة وأكثر.»
31
ولكني لم أقف على أسماء أكثر من ستة عشر كتابا له، ورد بعضها في بروكلمان ولم يرد البعض الآخر. ولم تتح لي الفرصة بعد لدرسها كلها وتحليل مادتها، وإن كنت اطلعت على ما نشره منها الأستاذ ماسنيون من النصوص المتصلة بالحلاج، كما اطلعت على طبقات السلمي المخطوطة بمكتبة المتحف البريطاني وعلى رسالتيه في الملامتية وغلطات الصوفية؛ ولهذا سأكتفي بمجرد سرد أسمائها والنص على أنها مخطوطة أو مطبوعة، وأين توجد مخطوطاتها. (1)
كتاب طبقات الصوفية: مخطوط توجد منه نسخة بالمتحف البريطاني بلندرة رقم
Add 18520 ، وأخرى ببرلين رقم 9972، وثالثة بمكتبة عاشر أفندي رقم 677، ورابعة بمكتبة عمومي بإسطنبول رقم 157، وتوجد بمكتبة الجامعة المصرية نسخة شمسية مأخوذة من نسخة المتحف البريطاني، ويشتغل الأستاذ
J. Pederson
الآن بنشر هذا الكتاب. (2)
تاريخ الصوفية: مخطوط نشر منه الأستاذ ماسنيون بعض أجزائه في كتابه
Quatre Textes inédits relatifs à Hallaj ، في باريس سنة 1914، من ص17-25. (3)
تفسير صوفي للقرآن يعرف بتفسير أهل الحق أو بحقائق التفسير: مخطوط بالمتحف البريطاني وبمكتبة الأزهر. وتوجد منه ثلاث نسخ خطية بمكتبة فاتح بإسطنبول رقم 260 و261 و262، واثنتان بمكتبة كوبرولو رقم 91 و92 بإسطنبول إلخ. وقد نشر منه الأستاذ ماسنيون ما يتصل بالحلاج في مجموعة النصوص الحلاجية في كتابه
Essai sur les Origines du lexique technique de la mystique ، من ص23-76. (4)
رسالة الملامتية: وتوجد مخطوطة بدار الكتب المصرية رقم 178 مجاميع تصوف تحت عنوان أصول الملامتية وغلطات الصوفية، كما توجد منها نسخة أخرى خطية بمكتبة برلين رقم 3388 تحت عنوان رسالة الملامتية، وبالجامعة المصرية صورة شمسية من هذه الأخيرة رقم 26036، وبالمتحف البريطاني مخطوط رقم
Or 7555 ... وسأرمز لمخطوطة برلين بالحرف ب ومخطوطة القاهرة بحرف ق. (5)
رسالة غلطات الصوفية: وهي جزء من مخطوط القاهرة الآنف الذكر رقم 178 مجاميع تصوف، وإليها يشير ابن عربي في كلامه عن الجوع، ورأي السلمي فيه، حيث يقول في قول النبي
صلى الله عليه وسلم
في الجوع: «إنه لبئس الضجيع»: إن هذا لسان العموم، والرأي الذي عليه أئمة المشايخ أن الجوع لو كان أمرا يباع في السوق للزم الصوفية أن يشتروه. ومن نظر إلى ما نظره النبي
صلى الله عليه وسلم
جعله من أغاليط أهل الطريق كأبي عبد الرحمن السلمي، إذ عمل أوراقا فيما غلطت فيه الصوفية، وهو مذهبنا.»
32 (6)
جوامع الصوفية: مخطوط بمكتبة جامع لالالي بإسطنبول رقم 1516. (7)
جوامع آداب الصوفية: مخطوط ببرلين رقم 3081. ولعله الكتاب السابق. (8)
منهج العارفين: مخطوط ببرلين رقم 2831. (9)
عيوب النفس ومداواتها: مخطوط ببرلين رقم 3131، ومنه نسخة خطية أخرى بالخزانة التيمورية المحفوظة بدار الكتب المصرية رقم 74 لم يذكرها بروكلمان. (10)
درجات المعاملات: مخطوط ببرلين رقم 3453. (11)
أدب الصحبة وحسن العشرة.
33 (12)
سلوك العارفين: مخطوط بالخزانة التيمورية: مجموعة رقم 74 لم يذكره بروكلمان. (13)
كتاب السنن [لعله المعروف بسنن الصوفية]: ذكره ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس، حيث قال: «وجاء أبو عبد الرحمن السلمي فصنف لهم كتاب السنن وجمع لهم حقائق التفسير.»
34 (14)
تاريخ أهل الصفة: أشار إليه الهجويري في كشف المحجوب،
35
وهو الكتاب الذي نقل عنه أبو نعيم الأصفهاني معظم تراجم أهل الصفة، كما سبقت الإشارة إليه. (15)
كتاب السماع: أشار إليه الهجويري أيضا.
36 (16)
ذكر أسماء [مختصر الكتاب الأول الذي هو الطبقات]: مخطوط بمكتبة كوبرولو رقم 1603.
وقد توفي أبو عبد الرحمن السلمي سنة 412ه / 1021م. (2) رسالة الملامتية [47ب]
37
الحمد لله الذي اختار من عباده عبادا جعلهم أئمة في بلاده، فزين بعبادته ظواهرهم، ونور بواطنهم بمعرفته ومحبته، ودلهم على معرفة أنفسهم، ومكنهم من تذليلها، وعرفهم مكرها، وأعانهم على تصغيرها وتحقيرها، فهم العلماء بالله وأحكامه، والقائمون بأمره والعارفون بإنعامه، والله يختص برحمته من يشاء. سألتني وفقك الله أن أبين لك طريقا من طرق «أهل الملامة» وأخلاقهم وأحوالهم، فاعلم رحمك الله أنه ليست للقوم كتب مصنفة، ولا حكايات مؤلفة، وإنما هي أخلاق وشمائل ورياضات، وأنا ذاكر من ذلك قدر وسعي وطاقتي أطرافا يستدل بها على ما وراءها من سيرهم وأحوالهم، بعد أن أستعين بالله في ذلك وأستوفقه وأستهديه، وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اعلم وفقك الله الرشاد أن أرباب العلوم والأحوال على طبقات ثلاث: طبقة انتدبوا إلى علوم الأحكام والاشتغال على جمعها ومنعها، وبذلها وعطائها، ولا يخبرون عما عليه الخواص من أهل المعاملات والمنازلات والمشاهدات، وهم علماء الظاهر وأرباب الاختلافات والمسائل التي بها يحفظون أساس الشريعة وأصول الدين، وإليهم المرجع في تصحيح المعاملات وتقييدها بالكتاب والسنن. فهم علماء الشرع وأئمة الدين، ما لم يخلطوا عملهم ويدنسوا، بطبع أنفسهم، بجمع شيء من حطام هذه الفانية، فحينئذ يسقط عنهم الاقتداء، فلا يكونون من أهله. والطبقة الثانية منهم الخواص الذين خصهم الله تعالى بمعرفته، وقطعهم عما فيه الخلق من جميع الأشغال والإرادات، فشغلهم بالله وإرادتهم له، فلا حظ لهم فيما فيه الخلق من أسباب الدنيا، ولا لهم همة فيما هم فيه من جميع جهاتها، بل همتهم مجتمع الهمة له وعليه، فلا لهم مع الخلق قرار، ولا لغيرهم إليه سبيل بحال. بل هم خواص [48أ] الخواص الذين خصهم الله بأنواع الكرامات وقطع أسرارهم عن المكنونات، فكانوا له وبه وإليه. وهذا بعد أن أحكموا طريق المعاملات، وحفظوا على أنفسهم ألسن المجاهدات، فأسرارهم إلى الحق ناظرة، وإلى الغيوب متطلعة، وجوارحهم بزينة العبادات مزينة، لا يخالف ظاهرهم شيئا من سنن الشرع، ولا يغيب باطنهم عن ملاحظة الغيب. وهم الذين قال فيهم النبي
صلى الله عليه وسلم : «من جعل الهموم هما واحدا كفاه الله سائر همومه.» فهؤلاء أهل المعرفة بالله عز وجل. والطبقة الثالثة، وهم الذين لقبوا بالملامتية: وهم الذين زين الله تعالى بواطنهم بأنواع الكرامات من القربة والزلفة والاتصال، وتحققوا في سر السر في معاني الجمع، بحيث لم يكن للافتراق عليهم سبيل بحال من الأحوال، فلما تحققوا في الرتب السنية من الجمع والقربة والأنس والوصلة، غار الحق عليهم أن يجعلهم مكشوفين للخلق، فأظهر للخلق منهم ظواهرهم التي هي في معنى الافتراق من علوم الظواهر، والاشتغال بأحكام الشرع وأنواع الأدب، وملازمة المعاملات، فيسلم لهم حالهم مع الحق في جمع الجمع والقربة، وهذا من أسنى الأحوال ألا يؤثر الباطن على الظاهر. وهذا شبيه بحال النبي
صلى الله عليه وسلم
لما رفع إلى المحل الأعلى من القرب والدنو، وكان قاب قوسين أو أدنى، ثم لما رجع إلى الخلق تكلم معهم في الأحوال الظاهرة، ولم يؤثر من حال الدنو والقرب على ظاهره شيء. والحال التي تقدم ذكرها كحال موسى عليه السلام [من] أنه لم يطق أحد النظر إلى وجهه بعدما كلمه الله عز وجل. وذلك شبيه بحال الصوفية، وهم الطبقة الثانية ممن تقدم ذكرنا لهم، وهم الذين تظهر عليهم أنوار أسرارهم. وأهل الملامة إذا صحبهم المريدون دلوهم على ما يظهرون لهم من الإقبال على الطاعة واستعمال السنن في جميع الأوقات وملازمة الآداب ظاهرا وباطنا في كل الأحوال. ولا يمكنونهم من الدعاوى والإخبار عن آية أو كرامة ولا الاستناد إليه، بل يدلونهم [48ب] على تصحيح المعاملات وإدامة المجاهدات، فيأخذ المريد في طريقهم ويتأدب بآدابهم، وإذا رأوا منه تعظيما لشيء من أفعاله وأحواله بينوا له عيوبه ودلوه على إزالة ذلك العيب لئلا يستحسنوا شيئا من أفعالهم ولا يعتمدوها. ومتى ادعى المريد عندهم حالا أو لنفسه مقاما، صغروا ذلك في عينه إلى أن يتحقق صدق إرادته وظهور الأحوال عليه، فيدلونه على ما هو عليه من سر الأحوال وإظهار الآداب من الأوامر والنواهي، فيكون تصحيح المقامات كلها عليه في حال الإرادة؛ فبصحة الإرادة عندهم تصح المقامات كلها إلا مقام المعرفة. والمريد إذا تأدب بغيرهم أطلقوا له الدعاوى في حال الإرادة، فيأخذ أحوال الأئمة سترا لنفسه، فيدعي بها، فلا يزيدهم مرور الأيام عليه إلا إدبارا وبعدا عن سبيل الحق وطريقه؛ ولذلك كان شيخ هذه القصة أبو حفص النيسابوري قدس الله روحه
38
يقول فيما أخبرني عنه محمد بن أحمد بن حمدان
39
قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا حفص يقول: مريدو أهل الملامة متقلبون في الرجولية لا خطر لأنفسهم، ولا لما يبدو منها عليهم، إلى مقامهم سبيل؛ لأن ظواهرهم مكشوفة وحقائقهم مستورة، ومريدو الصوفية يظهرون من رعونات الدعاوى والكرامات ما يضحك منه كل متحقق، لكثرة دعاويهم وقلة حقائقهم. سمعت أحمد بن عيسى
40
يقول: سمعت أبا الحسن القناد
41
يقول: سئل أبو حفص: ما هذا الاسم الذي سميتم به من الملامة؟ فقال: هم قوم قاموا مع الله تعالى على حفظ أوقاتهم ومراعاة أسرارهم، فلاموا أنفسهم على جميع ما أظهروا من أنواع القرب والعبادات، وأظهروا للخلق قبائح ما هم فيه وكتموا عنهم محاسنهم، فلامهم الخلق على ظواهرهم، ولاموا أنفسهم على ما يعرفونه من بواطنهم، فأكرمهم الله بكشف الأسرار والاطلاع على أنواع الغيوب وتصحيح الفراسة في الخلق وإظهار الكرامات عليهم، فأخفوا ما كان من الله تعالى إليهم بإظهار ما كان منهم في بدء الأمر من ملامة النفس ومخالفتها، والإظهار للخلق ما يوحشهم [49أ] ليتنافى الخلق عنهم ويسلم لهم حالهم مع الله. وهذا طريق أهل الملامة. وسمعت أحمد بن أحمد الملامتي
42
يقول: سمعت إبراهيم القناد يقول: سألت حمدون القصار
43
عن طريق الملامة، قال: ترك التزين للخلق بكل حال وترك طلب رضاهم في نوع من الأخلاق والأفعال، وألا يأخذك فيما لله عليك لومة لائم بحال. قال عبد الله بن المبارك
44
حين سئل عن الملامة، فقال: هم قوم لم يكن لهم في الظاهر آيات للخلق ولا لهم في باطنهم دعوى مع الله تعالى، وسرهم الذي بينهم وبين الله عز وجل لا تطلع عليه أفئدتهم ولا قلوبهم. قال: وسمعت جدي إسماعيل
45
بن نجيد يقول: لا يبلغ الرجل شيئا من مقام القوم حتى تكون أفعاله كلها عنده رياء وأحواله كلها دعاوى. وسئل بعض مشايخهم: ما أول هذه القصة؟ فقال: تذليل النفس وتحقيرها ومنعها عما تسكن إليه، أو يكون لها فيه راحة وإليه ركون، وتعظيم الخلق وحسن الظن لهم وتحسين قبائحهم وتحقير النفس وتذليلها وسوء الظن بها. وحضر بعض المشايخ مع حمدون القصار في مجلس، فجرى فيه ذكر بعض أخدانهم فقيل: إنه كثير الذكر، فقال حمدون: ولكنه دائم الغفلة، فقال له بعض من حضر: أليس يجب عليه شكر ما أنعم الله عليه بأن وفقه للذكر باللسان؟ فقال: أولا يجب عليه رؤية تقصيره في غفلة القلب عن الذكر؟
قال رحمه الله: ورأيت في كتاب كتبه أبو حفص إلى شاه الكرماني
46
فقال له: اعلم يا أخي أن من لم يعرف فاقة نفسه وعجزه في جميع ما يبدو منه من الطاعات، ليشوبها بالرياء، ومن لم يستعمل الترقي ويجعله زماما لنفسه في جميع أحواله، ثم يعلم أنها (أي النفس) وإن لانت أنها الأمارة بالسوء لا تنقاد لطاعة إلا وتضمر فيها خلافا، فيقابلها بالملامة في جميع أوقاته ولا يدعها تستقر في حالة من أحوالها، فقد أخطأ النظر في نفسه. وحكى عن يحيى بن معاذ
47
أنه قال: من أخلص لله لا يحب أن يرى شخصه ولا يحكى قوله. وسئل بعضهم عن أحوال القوم، فقال: هم قوم تولى الله حفظ أسرارهم وأسبل على أسرارهم ستر الظاهر، فهم مع الخلق من حيث الخلق، ولا يفارقونهم في أسواقهم ومكاسبهم، ومع الله سبحانه من حيث الحقيقة والتولي، [49ب] فباطنهم يلوم ظاهرهم على الانبساط مع الخلق والكون معهم برسوم العوام، وظاهرهم يلوم باطنهم بأنه ساكن في مجاورة الحق وغافل عما فيه الظاهر من معاشرة الأضداد، وهذا من أحوال الأئمة والسادة. قيل لأبي يزيد: ما أعظم آية العارف؟ قال: أن تراه يؤاكلك ويشاربك ويمازحك، ويبايعك ويشاريك، وقلبه في ملكوت القدس؛ هذا أعظم الآيات. وقال أبو يزيد:
48
من صدق في عين الجمع بالحرية كان لازما بجوارحه على أدب العبودية وبصيرته في مشاهدة الحق، ومن كان في عين الافتراق فإنه يجمع جمع المجتهدين في عبوديته ويكون ذلك كالهباء. قال: وسمعت عبد الرحمن بن محمد
49
يقول: سألت عبد الله الخياط
50
عن «الملامة» فقال: من يفرق بين ملامته لنفسه وملامة الغير له، ويتغير عنده الحال والوقت في ذلك، فهو بعد في رعونة الطبع، ولم يبلغ درجة القوم. وسئل بعضهم: من يستحق اسم «الفتوة»؟ فقال: من كان فيه اعتذار آدم، وصلاح نوح، ووفاء إبراهيم، وصدق إسماعيل، وإخلاص موسى، وصبر أيوب، وبكاء داود، وسخاء محمد
صلى الله عليه وسلم ، ورأفة أبي بكر، وحمية عمر، وحياء عثمان، وعلم علي؛ ثم مع هذا كله يزدري نفسه ويحتقر ما هو فيه، ولا يقع بقلبه خاطر مما هو فيه أنه شيء، ولا أنه حال مرضي، يرى عيوب نفسه ونقصان أفعاله وفضل إخوانه عليه في جميع الأحوال. قال: ورأى أبو حفص بعض أصحابه وهو يذم الدنيا وأهلها، فقال: أظهرت ما كان سبيلك أن تخفيه، لا تجالسنا بعد هذه ولا تصاحبنا. وسمعت أبا أحمد بن عيسى
51
يقول: سمعت أبا زكريا السنجي يقول: الأحوال أمانات عند أهلها، فإذا أظهروها فقد خرجوا من حد الأمناء. قال: وأنشد محمد بن الحسن
52
لبعضهم في معناه:
من سارروه فأبدى السر مشتهرا
لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وجانبوه ولم يسعد بقربهم
وأبدلوه مكان القرب إيحاشا
لا يصطفون مذيعا بعض سرهم
حاشا ودادهم من ذلكم حاشا
53
قال: وسمعت أبا طاهر أحمد بن طاهر
54
يقول: سمعت أبا الحسن الشركي
55
يقول: سمعت محفوظا
56
يقول: كان أبو حفص يكره لأصحابه الأسفار من غير فرض حج أو غزو أو رؤية شيخ أو طلب علم، فأما الأسفار على المراد فكان يكرهها، ويقول: الرجولية البصر في موضع الإرادة، فقال له حمدون القصار معارضا له: أليس الله يقول:
أولم يسيروا في الأرض فينظروا ، [50أ] فقال: إنما يسير في الأرض من لا ينظر إلا بالمسير، فمن فتح عليه الطريق في المقام فسيره ترك للطريق وإضلال له. وسأل عبد الله الحجام حمدون القصار، فقال: أعلي مطالبة في ترك الكسب؟ فقال: الزم الكسب؛ فلأن تدعى عبد الله الحجام أحب إلي من أن تدعى عبد الله العارف أو عبد الله الزاهد. وسئل بعض مشايخهم عن الخشوع، فقيل له: إنك تبطل إظهار شيء من الأحوال، فهل الخشوع إلا على ظاهر البدن؟ فقال: أوه من فهوم بعدت عن حقائق المعاني، بل الخشوع اطلاع الله على الأسرار فتخشع، فتتأدب الظواهر بذلك الاطلاع. ألا ترى إلى قوله
صلى الله عليه وسلم : إن الله تعالى إذا تجلى إلى شيء خضع له؟ هل التجلي إلا على الأسرار؟ فإذا خشعت الأسرار بالتجلي ورثت الظواهر حسن الأدب. وقال بعضهم: أفضل مصحوب الإنسان العلم؛ لأنه اقتداء، ولا حظ للنفس فيه بحال، وهو جار على مخالفة الطبع، وشر مصحوب الإنسان نسكه؛ لأنه لا ينفك من التزين والإخبار عنه، ورؤيته التكبر والتعظيم. ألا ترى الملائكة لما كان مصحوبهم الطاعات، كيف سالموا رؤيتهم بقولهم:
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، فلما بلغوا مقام العلم قالوا:
لا علم لنا ؟ فإذن أفضل مصحوب الإنسان العلم، وشر مصحوب الإنسان النسك. وقيل لأبي يزيد: متى يبلغ الرجل مقام الرجال في هذا الأمر؟ فقال: إذا عرف عيوب نفسه، وقويت تهمته عليها. وقال بعضهم: من أراد أن يسقط عنه الافتخار بما هو فيه، أو النظر إلى ما هو عليه، فليعلم من أين جاء هو، وأين هو، وكيف هو، ولمن هو، وممن هو، وإلى أين هو، فمن صح له علوم هذه المقامات لم ير لنفسه حظا، ولم يظهر له خطر بحال، بل يراها مذمومة الكون ساقطة الأفعال، لا يبقى له من ظاهره افتخار ولا من باطنه اغترار. وقال بعضهم: لا يبلغ العبد درجة القوم في الإيمان حتى لا يفكر فيما مضى ولا في شيء فيما يأتي، ويكون في وقته على مشيئة مليكه؛ وهذا هو الباعث على إسقاط التكليف. وعندهم أن الكامل في أفعاله من يبقي ظاهره للمريدين على آداب العبودية للاقتداء به والأخذ عنه، ويبقي سره وحاله لمن يقصده إلى سياسات الأحوال وآداب المشاهدة، فيكون السر مشاهدا للحق في جميع الأوقات، يتلاشى فيه من يقصده، وهو مشرف على الخلق وعين عليهم، فسره أمام تصحيح العارفين، وظاهره أمام آداب المريدين، وهذا من أحوال أئمة الصادقين. كذلك قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «تنام عيناي ولا ينام قلبي.» [50ب] أخبر عن الظاهر بحال النوم وهو الإغفاء ، وأخبر عن السر بالتيقظ الدائم والمشاهدة والقرب. وسئل بعضهم: لم استوجبت النفوس منكم الملامة على دوام الأوقات؟ فقال: لأنها كف من عجب في قالب ظلمة مربوط بشواهد العامة، ولأنها كف من جهل في قالب الرعونة مربوط بحبال الأطماع، فدواؤها الإعراض عنها، وتأدبها مخالفتها، وصيانتها ملامتها. وقال: لقد أسقط الله رؤية الأفعال حتى عن الأنبياء والرسل عليهم السلام، ألا ترى الكليم موسى صلوات الله عليه لما قال:
كي نسبحك كثيرا ، قال:
ولقد مننا عليك مرة أخرى ، أي كيف يجوز أن تعد علي تسبيحك وتكبيرك وتنسى ما كان مني إليك من أنواع الفضل في قوله:
واصطنعتك لنفسي
الآية، وأنت تعد علي تسبيحك والكل مني إليك. وسئل بعضهم: لم أذللتم أنفسكم وأظهرتم منها ما لامكم عليه الخلق؟ قال: لأن النفس خلقت مهانة من ماء مهين ومن حمأ مسنون، فأورثت فيها مخاطبة الحق معها عزا، فتعززت بذلك، ولم تعلم أن العزيز فيها ما [هو] ملحق مستودع [بها] لا ما هي مجبولة عليه، فإن تركت النفس في تعزيها ترعنت، وخرجت من حدها، ورسخت في طبعها. فالموفق من العباد من أراها من قيمتها، فأعلمها أن جميع ما يتصل بها من أعمالها وأحوالها مذموم، لئلا تسكن إلى شيء ولا تفتخر بشيء؛ لأن العزيز منها ما لله فيها من كريم ودائعه وجميل نظره وفوائده. وقال بعضهم: من أراد أن يعرف رعونة النفس وفساد الطبع فليصغ إلى مادحه، فإن رأى نفسه خرجت عن الحد بأقل قليل فليعلم أنه لا سبيل لها إلى الحق؛ لأنها تسكن إلى ما لا حقيقة لمدحه، وتضطرب من ذم ما لا حقيقة لذمه، فإذا قابلها في الأوقات بما تستحق من التذليل لم يؤثر فيه مدح مادح، ولم يلتفت إلى ذم ذام، حينئذ يدخل في أحوال «الملامة». قال أبو يزيد: كنت اثني عشر عاما حداد نفسي، وخمس سنين مرآة قلبي، وسنة كنت أنظر فيما بينهما، فنظرت فإذا في باطني زنار، فعملت في قطعه خمس سنين أنظر كيف أقطعه، فكشف لي، فنظرت إلى الخلق فإذا هم موتى ، فكبرت عليهم أربع تكبيرات، قال الله تعالى:
أموات غير أحياء وما يشعرون
فهذا من رسوم القوم وأخلاقهم. وأبو يزيد في حالته يخبر عن نفسه بمثل هذا، وهو إمام أهل المعرفة وقائدهم، يعمل كل هذا ويروض نفسه حتى يرى الخلق بعين الفناء فيسقط عنه رؤيتهم والتزين لهم، فهذا من جليل مقاماتهم. قال الله تعالى:
أومن كان ميتا فأحييناه ، قالوا فيه ميتا بنفسه ونظره إلى الخلق، فأحييناه بنا وبإسقاط الخلق منه [51أ]. وقال أبو يزيد رضي الله عنه: أشد الناس حجابا عن الله ثلاثة: عالم بعلمه، وعابد بعبادته، وزاهد بزهده. فأما العالم فلو علم ماذا علم، وأن علم الخلق كلهم وما أخرجه الله تعالى إلى الخلق لا يكون سطرا من اللوح المحفوظ، ثم ماذا علم من جملة العلوم التي أخرجها الله تعالى إلى الخلق، يعلم أن التكبر بذلك والتزين به خطأ محض. والزاهد لنفسه إن علم أن الله تبارك وتعالى يسمي الدنيا بأسرها «قليلا»،
57
فكم ملكه من ذلك القليل، وفي كم زهد فيما ملك، يعلم أن زهده فيما ملك ليس مما يوجب الافتخار به. والعابد لو عرف منة الله تعالى عليه فيما أهله له من عبادته، لذابت رؤيته لعبادته في جنب ما يرى من منن الله تعالى عليه. وسئل بعض مشايخهم: كيف يعمل الإنسان فلا يقع له رؤية ولا مطالبة؟ قال: إذا شغله فرحه بالأمر وأنه مأمور به من جهة الحق، ويقع على قلبه هيبة الأمر فتشغله هيبة الأمر وفرحه بالأمر عن النظر إلى شيء مما يظهر عليه وما يبدو منه. وسئل بعضهم: ما بال هؤلاء لم يحققوا لأنفسهم حالا، ولم يظهروا لها طاعة ، ولم ينسبوا إليها شيئا ولم ينتهوا إلى شيء؟ فقال: كيف يتحقق لها شيء وهي لا شيء؟ وما كان لها من شيء فهو عارية مؤداة، فإذا تحقق العطاء لا يحتاج إلى إظهاره، فإن الحقيقة ناطقة عنها وإن كتمها. قال بعض السلف: كاد وجه المؤمن أن ينطق بما في قلبه. وأكثر مشايخهم حذروا أصحابهم أن يجدوا طعم العبادة والطاعة؛ فإن ذلك من الكبائر عندهم، فإن الإنسان إذا استحلى شيئا واستلذه عظم عنده وفي عينه، ومن استحسن من أفعاله شيئا واستلذه أو نظر إليه بعين الرضا فقد سقط من درجة الأكابر. وقال: سمعت عبد الواحد بن علي السياري
58
يقول: سمعت خالي القاسم بن القاسم السياري
59
يقول: سمعت محمد بن موسى الواسطي
60
يقول: إياكم والنفس في جميع الأحوال، حتى إن أحدهم ليسلم على من يرد عليه بالكراهية، ويترك السلام على من يرد عليه طوعا، ويترك مجالسة من يسره ويختار مجالسة من يحقره، ويسأل من يمنعه ولا يسأل من يعطيه، [51ب] ويقبل على من يعرض عنه ويعرض عمن يقبل عليه، ويعطي من لا يحبه ولا يعطي من يحبه، وينزل عند من يكرهه ولا ينزل عند من يهواه، ويعاشر من يبغضه ولا يعاشر من يهواه، ويأكل ما يعافه ولا يأكل ما يشتهيه، ويسافر إذا أراد المقام، ويقيم إذا أراد السفر، وهكذا في جميع الأحوال يختارون مخالفة النفس، ويدعون ما للنفس فيه راحة ولها إليه سكون، ويجتهدون غاية جهدهم في إسقاط الجاه ونظر الخلق إليهم بعين التعظيم، ويركبون من ظاهر الأمور ما يلامون عليه وإن كان ذلك مباحا في ظاهر العلم مثل صحبة من ليس هو من طبقتهم من الناس، والقعود في مواضع تشينهم؛ كل ذلك تلبيسا للحال، وصونا لوقتهم أن يعترض لهم معترض. بل ابتذلوا الظواهر للمعاني والتذلل، وصانوا أحوالهم وأسرارهم بذلك عن الاطلاع عليها. وهذا من وصية مشايخهم إليهم. (1)
ومن أصولهم أنهم رأوا التزين بشيء من العبادات في الظواهر شركا، والتزين بشيء من الأحوال في الباطن ارتدادا. (2)
ومن أصولهم ألا يقبلوا ما يفتح عليهم بعز ويسألوا بذل، حتى إن أحدهم يسأل عن ذلك فيقول: في السؤال ذل وفي الفتوح عز، وإنا لا نأكل إلا بذل لأنه ليس في العبودية تعزز. وأصلهم في ذلك قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد.» فإن قيل إن هذا مخالف لظاهر العلم، فإن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما آتاك الله من هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فاقبله. قيل: إن عمر رضي الله عنه رأى في ذلك عزا لنفسه، فرأى النبي
صلى الله عليه وسلم
تعززه بذلك، فقال يحثه على ذلك مخالفة لنفسه وإسقاطا لذلك التعزز عنه، فقال: ما آتاك الله من هذا المال بغير مسألة ولا إشراف فاقبله، ولا تعزز بذلك، فإن في رد الرفق حظا للنفس وتكبرا يحدث فيها. (3)
ومن أصولهم قضاء الحقوق وترك اقتضاء الحقوق. (4)
ومن أصولهم محبة استخراج الشيء منهم بالجهد، وإن كانوا يحبون إخراجه بضد الجهد إسقاطا بذلك لحظ رؤية النفس منهم إن أحدهم بذله، أو يستحي أن يستخرج ذلك منه كرها،
61
حتى بلغني عن بعض مشايخهم أنه كان يؤخذ ما له منه ويقول لهم: هذا حرام ولا يحل لكم، والقوم يأخذونه، فقيل له [52أ] في ذلك: أنت تقول هو حرام وهم يأخذونه، فقال: إنما يأخذون أموالهم، ليس لي فيها شيء، ولكن كذا يستخرج الحق من البخيل. وأصلهم في ذلك قول النبي
صلى الله عليه وسلم : إن النذر لا يغني من الحق شيئا، وإنما يستخرج به من البخيل. (5)
ومن أصولهم أن الغفلة هي التي أطلقت للخلق النظر في أفعالهم وأحوالهم، ولو عاينوا أمانا من الحق إليهم لاستحقروا ما يبدو منهم في جميع الأحوال، واستصغروا ما لهم في جنب ما عليهم. (6)
ومن أصولهم مقابلة من يجفوهم بالحلم، والاحتمال والخضوع والاعتذار والإحسان دون مقابلتهم بمثل ذلك. وأصلهم في ذلك قول الله عز وجل لنبيه
صلى الله عليه وسلم : «ادفع بالتي هي أحسن.» (7)
ومن أصولهم اتهام النفس في جميع الأحوال، أقبلت أم أدبرت ، أطاعت أم عصت، وقلة الرضا عنها والميل إليها بحال. (8)
ومن أصولهم أن ما ظهر من أحوال الروح للسر صار رياء في السر، وما ظهر من أحوال السر في القلب صار شركا في السر، وما ظهر من القلب إلى النفس صار هباء منثورا، وما أظهره الإنسان من أفعاله وأحواله فهو رعونة الطبع ولعب الشيطان به. والذي يحقرها يكون في زيادة، ولا يزال يترقى في الأحوال حتى يعلو حال السر إلى حال الروح، والقلب لا يشعر بذلك، ويترقى حال القلب إلى حال السر والنفس لا تشعر بذلك، ويترقى حال النفس إلى حال القلب والطبع لا يشعر بذلك. فحينئذ يكون مكاشفا ينظر بعينه إلى ما يشاء، فيشاهده على ما هو عليه، وينظر بقلبه فيخبر عن مواضع الغيب. والروح والسر حصلا في المشاهدة، فليس لهما إلى القلب والنفس رجوع بحال. ومع هذا فظاهره ملازم للعلم، مظهر للتهمة، مخاطب لنفسه بأنها في حال الاغترار والاستدراج؛ لئلا يألفه فيسقط عن درجات الصديقين. وسئل بعضهم: ما صفة أهل الملامة؟ فقال: دوام التهمة، فإن فيها دوام المحاذرة، ومن قويت محاذرته سهل عليه رد الشبهات وترك السيئات. سمعت محمد بن الفراء
62
يقول: سمعت عبد الله بن منازل
63
يقول، وقد سئل: هل يكون للملامتي دعوى، فقال: وهل يكون له شيء فيدعي به؟ وسمعت عبد الله بن محمد
64
يقول: سمعت أبا عمرو بن نجيد وسألته: هل للملامتي صفة؟ فقال: نعم! لا يكون له في الظاهر رياء ولا في الباطن دعوى، ولا يسكن إليه شيء. قال: وسمعته يقول: [52ب] سألته مرة عن هذا الاسم، فقال: هو التزام ما به وصفت
خلق الإنسان من عجل ،
إن النفس لأمارة بالسوء ،
وكان الإنسان عجولا ،
إن الإنسان لربه لكنود ،
إن الإنسان خلق هلوعا . أيمدح من كان بهذه الأوصاف أم يذم؟ فهذه صفة الملامة. وأحب مشايخهم التزيي بزي الشطار والاستعمال بعمل الأبرار، وأحبوا لأصحابهم أيضا ملازمة الأسواق بالأبدان والفرار منها بالقلوب. وسمعت جدي يقول: سمعت أبا محمد الجوني، وكان من أصحاب أبي حفص: الزم السوق والكسب، وإياك أن تأكل من كسبك وأنفقه على الفقراء، وما تأكله فاسأل الناس. فكنت إذا سألت الناس يقولون هذا الطموع الشره يعمل طول نهاره ثم يسأل الناس، حتى عرفوا ما أمرني به أبو حفص، فكانوا يعطونني، فقال لي أبو حفص: اترك الكسب والسؤال جميعا، فتركتهما. وقال أبو حفص: أخبر الخلق عن القرب والوصول والمقامات العالية، وإنما سؤالي الله عز وجل يدلني الطريق ولو بخطوة . قال أبو يزيد البسطامي: الخلق يظنون أن الطريق إلى الله تعالى أبين من الشمس وأشهر منها، وإنما سؤالي منه أن يفتح علي من الطريق ولو مقدار رأس إبرة. وكان سادات مشايخهم كلما كان حالهم مع الله أصح وأعلى كانوا أشد تواضعا وأكثر ازدراء بأحوالهم وأنفسهم، وذلك ليتأدب المريدون بهم، وتصحيح ما بينهم وبين الحق ألا يلتفتوا منه إلى شيء سواه فيحرموا ذلك المقام. وسئل بعضهم: ما بالكم قل ما يقع بكم ادعاء؟ فقال: وهل الدعاوى إلا رعونات وسخرية؟ إذا رجع صاحبها إلى نفسه رآها خالية مما أظهر، بعيدة مما ذكر، وهل هو إلا كما قال الشاعر:
وفي نظر الصادي إلى الماء حسرة
إذا كان ممنوعا سبيل الموارد
قال: وسمعت محمد بن الفراء إذ قلت له: ما أصل الملامة؟ قال: كلما كان حالهم مع الله أصح ووقتهم معه أعلى، كانوا أكثر التجاء وتضرعا، وألزم لطريق الخوف والرهبة، خوفا [من] أن الذي هم فيه محل استدراج، كما وصف الله عز وجل أصحاب نبي من أنبيائه عليهم السلام في قوله:
وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا
الآية، فوصفهم بهذه الصفة (53أ) وقوله الحق. ثم أخبر الله تعالى بما أظهروه من أنفسهم مع ما تقدم لهم من الأحوال، فقال:
وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . والنبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبيد.» ومما يشبه هذا الحال ما سمعت علي بن بندار
65
يقول: سمعت محفوظا يقول: سمعت أبا حفص يقول: منذ أربعين سنة حالي مع الله أنه ينظر إلي نظرة أهل الشقاوة، وعملي دليل على شقاوتي. وكل طريقة أبي حفص وأصحابه في هذا أنهم يرغبون المريدين في الأعمال والمجاهدات، ويظهرون لهم مناقب الأعمال ومحاسنها ليرغبوا بذلك في دوام المعاملة والمجاهدة والملازمة عليها. وكانت طريقة حمدون القصار وأصحابه تحقير المعاملات عند المريدين، ودلالتهم على عيوبها لئلا يعجبوا بها ويقع ذلك منهم موقعا؛ فتوسط أبو عثمان
66
رحمه الله وأخذ طريقا بين طريقتين وقال: كلا الطريقين صحيح، ولكل واحد منهما وقت، فأول ما يجيء المريد إلينا ندله على تصحيح المعاملات ليلزم العمل ويستقر عليه، وإذا استقر عليه ودام فيه واطمأنت نفسه إليه، فحينئذ نكشف له عن عيوب معاملاته والأنفة منها لعلمه بتقصيره فيها، وأنها ليست مما يصلح لله تعالى، حتى يكون مستقرا على عمله غير مغتر به. وإلا فكيف ندله على عيوب الأفعال وهو خال من الأفعال؟ وإنما ينكشف له عيب الشيء إذا لزمه وتحقق به، وهذا أعدل الطرق إن شاء الله تعالى. وسئل بعضهم: ما طريق الملامة؟ فقال: ترك الشهرة فيما يقع فيه التمييز من الخلق في اللباس والمشي والجلوس والكون معهم على ظاهر الأحكام، والتفرد عنهم بحسن المراقبة، ولا يخالف ظاهره ظاهرهم بحيث يتميز منهم، ولا يوافق باطنه باطنهم، فيساعدهم على ما هم عليه من العادات والطبائع، ولا يخالف ظاهرهم بحيث يتميز. وسئل بعضهم: ما الملامة؟ فقال: ألا تظهر خيرا ولا تضمر شرا. وسئل بعضهم: مالكم لا تحضرون مجالس السماع؟ فقال: ليس تركنا مجلس السماع كراهة ولا إنكارا، ولكن خشية أن يظهر علينا من أحوالنا ما نسره، [53ب] وذلك عزيز علينا وعندنا. سمعت محمد بن أحمد البهمي
67
يقول: سمعت أحمد بن حمدون يقول: سمعت أبي، حمدون القصار، يقول وقد سئل عن الملامة، فقال: خوف القدرية ورجاء المرجئة. وإنما أحبوا هم حضور مجالس السماع للمتمكنين الذين لا يظهر عليهم شيء من السماع وإن أداموا عليه. (9)
ومن أصولهم أن الأذكار أربعة: فذكر باللسان وذكر بالقلب وذكر بالسر وذكر بالروح، فإذا صح ذكر الروح سكت السر والقلب عن الذكر، وذلك ذكر المشاهدة. وإذا صح ذكر السر سكت القلب والروح عن الذكر، وذلك ذكر الهيبة. وإذا صح ذكر القلب فتر اللسان عن الذكر، وذلك ذكر الآلاء والنعماء. وإذا غفل القلب عن الذكر أقبل اللسان على الذكر، وذلك ذكر العادة. ولكل واحد من هذه الأذكار عندهم آفة: فآفة ذكر الروح اطلاع السر عليه، وآفة ذكر النفس رؤية ذلك وتعظيمه أو طلب ثواب أنك تصل به إلى شيء من المقامات. وأقل الناس قيمة من يريد إظهاره إلى الخلق، ويريد الإقبال عليه بذلك أو بشيء منه، وهو أخس الطبع وأدونه. وقال بعضهم: خلق الله الخلق وزين بعضهم بلطائف أنواره ومشاهدته وموافقته وسابق عنايته، وجعل بعضهم في ظلمات نفوسهم وطبائعهم وشهواتهم، فمن زينهم بالزينة أهل التصوف، لكنهم أظهروا ما لله تعالى عليهم من الكرامات للخلق، وابتدءوا بالتزين بها والإخبار عنها، والكشف عن أسرار الحق إلى الخلق. وأهل الملامة أظهروا للخلق ما يليق بهم من أنواع المعاملات والأخلاق، وما هو نتائج الطباع، وصانوا ما للحق عندهم من ودائعه المكنونة أن يجعلوا لأحد إليها نظرا أو للخلق إليها سبيلا، أو يكرموا عليها أو يعظموا بها، ومع ذلك غاروا على جميع أخلاقهم ومحاسن أفعالهم، فخافوا أن يظهروها، وعلموا ما للنفس فيها من المراد، فأظهروا للخلق ما يسقطهم عن أعينهم، وما يكون فيه تذليلهم وردهم، وما لا قبول لهم معها ليخلص لهم ظاهرهم وباطنهم. وقال بعضهم: طريق الملامة إظهار «مقام التفرقة» للخلق، وإضمار «التحقق بعين الجمع» مع الحق. (10)
ومن أصولهم مخالفة لذة الطاعات، [54أ] فإن لها سموما قاتلة. (11)
ومن أصولهم تعظيم ما لله عندهم من جميع الوجوه، وتصغير ما يبدو منهم من الموافقات والطاعات، وملازمة حدهم مع الله من غير قصد، من استنباط في قول أو إظهار ما يجب كتمه من الأحوال، كما حكي عن محمد بن موسى الفرغاني
68
قال: خلق الله آدم عليه السلام بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، ثم قال له:
إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ، عرفه قدره لئلا يعدو طوره. وحكي لي عن بعض مشايخهم أنه قال: من قام بنفسه ظهر فيه الفضول واعترضه الفتور. قال: وسمعت منصور بن عبد الله الأصفهاني
69
يقول: سمعت عمي
70
البسطامي يقول: سمعت أبا يزيد يقول: من لم ينظر إلى شاهده بعين الاضطرار، وإلى أوقاته بعين الاغترار، وإلى أحواله بعين الاستدراج، وإلى كلامه بعين الافتراء، وإلى عبادته بعين الاجتزاء، فقد أخطأ النظر. وكتب محمد ابن الفضل
71
إلى أبي عثمان يسأله عما يخلص للعبد من الأفعال والأحوال، فقال له: اعلم أكرمك الله بمرضاته أنه لا يخلص للعبد من الأحوال والأفعال إلا ما أجرى الله تعالى عليه من غير تكلف له فيه، وأسقط عنه رؤيته أو رؤية الناظرين إليه، وليس له من الأحوال إلا حال السر الذي لا يطلع عليه إلا فحوله. قال الله تعالى:
ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ، وعندي والله أعلم، أن المعظم لشعائر الله هو المتبع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه
صلى الله عليه وسلم ، يعظم ذلك في قلبه حتى لا يجد إلى غير الاقتداء وترك الاختيار سبيلا. وهذا من علامة الصادقين، وهذا الذي كان يأمرنا به شيخنا أبو حفص؛ وعلى ذلك كان يدل كبار أصحابه. قال: وسمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت عمي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا يزيد يقول: لو صفت لي تهليلة ما باليت بعدها بشيء. وحكى عن أبي حفص أنه قال: العبادات في الظاهر سرور وفي الحقيقة غرور؛ لأن المقدور قد سن فلا يسر بفعله إلا مغرور. وقال: خلقت النفس مريضة ومرضها طاعاتها، وجعل دواؤها الاستناد إلى مسبوق القضاء، فلا يزال العبد يتقلب في الطاعات وهو منقطع عنها. ولقد رأيت لرويم
72
رحمه الله فصلا في كتاب «دليل العارفين» يقرب من طريقتهم وقال: [54ب] حين سئل كيف يبرأ من السكون والحركة من جعل ساكنا متحركا، أو يخلو من الاختيار من جعل مختارا مميزا؟ فقال: لا يبرأ من ذلك حتى تكون حركته لا به، وسكونه لا إليه، ولا يخلو من الاختيار حتى يوافق اختياره اختيار الحق فيه وله، فيحصل له سكون وحركة في الظاهر، ولا حركة ولا سكون في الحقيقة، ويحصل له اختيار ولا اختيار له؛ لأن اختياره اختيار الحق له، وهذه من المقامات السنية، وهو قريب مما يضمر القوم في خفي علومهم دون ما يبدونه. (12)
ومما يشبه أصولهم ما بلغني عن سهل بن عبد الله
73
نضر الله وجهه أنه قال: ليس للمؤمن نفس لأن نفسه ذهبت. قيل له: فأين ذهبت نفسه؟ قال في المبايعة، قال الله تعالى:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .
74 (13)
ومن أصولهم ما سمعت محمد بن عبد الله الرازي
75
يقول: سمعت أبا علي الجرجاني
76
يقول: حسن الظن بالله غاية المعرفة، وسوء الظن بالنفس أصل المعرفة بها. سمعت محمد بن أحمد الفراء يقول: سمعت أبا الحسن الشراكهي
77
يقول: سمعت أبا عثمان يقول: قال رجل لأبي حفص: أوصني، قال: لا تكن عبادتك لربك سبيلا لأن تكون معبودا، واجعل عبادتك له إظهار رسم الخدمة والعبودية عليك، فإن من نظر إلى عبادته فإنما يعبد نفسه. وقال بعضهم: من رجع إلى الخلق قبل الوصول فقد رجع من الطريق، فيورثه ما تقدم من رياضته حب الرياسة وطلب الاستعلاء على الخلق، ومن رجع إلى الخلق بعد الوصول صار إماما ينتفع به المريدون. وسمعت أبا عمرو بن محمد بن أحمد بن حمدان يقول: سمعت أبي يقول: كان أبو حفص إذا دخل البيت لبس المرقعة والصوف وغير ذلك من ثياب القوم، وإذا خرج إلى الناس خرج بزي أهل السوق، يرى في لبس ذلك فيما بين الناس رياء أو شبه رياء أو تصنع. (14)
ومن أصولهم التأدب بإمام من أئمة القوم، والرجوع في جميع ما يقع لهم [55أ] من العلوم والأحوال إليه. سمعت أحمد بن أحمد يقول: سمعت أبا عمرو الزجاجي
78
يقول: لو أن رجلا بلغ أعلى المراتب والمقامات حتى يكشف له عن الغيب ولا يكون له أستاذ لم يجيء منه شيء. وقال: وسمعت الشيخ أبا يزيد محمد بن أحمد الفقيه
79
يقول: سمعت إبراهيم بن شيبان
80
يقول: من لم يتأدب بأستاذ فهو بطال. وكره أكثر مشايخهم أن يشهر الإنسان نفسه بشيء من العبادات، كالصوم الدائم والصمت الدائم والأوراد الظاهرة من الصلاة وغير ذلك، حتى يعرف بذلك ويذكر به. ولقد سمعت قريبا من هذا من محمد بن عبد الله الرازي، يقول: سمعت حمزة البزاز
81
يقول: سمعت عبد الله بن حمدون يقول: سمعت عبد الله المغازلي
82
يقول: سمعت بشر الحافي
83
يقول: أتيت المعافى بن عمران
84
فدققت الباب فقيل: من ذا؟ قلت: أنا بشر، وجرى على لساني حتى قلت الحافي، فقالت لي بنية من الدار: يا عم! لو اشتريت نعلا بدانقين لسقط عنك هذا الاسم. وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه نهى عن الشهرتين، وقال عليه السلام: كفى بالمرء شرا أن يشار إليه في أمر من الدنيا أو الآخرة. وكره أكثر مشايخهم القعود للناس على وجه التذكير والموعظة، وقالوا في ذلك: إخراج أحسن ما عندك إلى الخلق، فما تبقى لك مع الحق؟ إن كلمتهم بأحوال السلف ظلمتهم، حيث طرقت لهم السبيل إلى الدعاوى. قال كذلك سمعت أبا عمرو بن حمدون يقول: سمعت أبا حفص يقول لأبي عثمان: القعود للخلق هو الرجوع من الله إلى الخلق، فانظر أي رجل تكون. (15)
ومن أصولهم أن كل عمل وطاعة وقعت عليه رؤيتك واستحسنته من نفسك فذلك باطل. وأصلهم في ذلك ما حدثنا أبو محمد عبد الله
85
بن علي بن زياد عن محمد بن المسيب الأرغاني قال: حدثني عبد الله بن حسن قال: قال علي بن الحسين عليهما السلام: كل شيء من أفعالك اتصلت به رؤيتك فذلك دليل أنه لم يقبل منك؛ لأن القبول مرفوع مغيب عنك، وما انقطع عنه رؤيتك فذلك دليل القبول. (16)
ومن أصولهم رؤية تقصير أنفسهم ورؤية عذر الخلق فيما هم فيه. قال كذلك: سمعت عبد الله بن محمد المعلم
86
يقول: سمعت أبا بكر الفارسي
87
يقول: خير الناس من يرى الخير في غيره ويعلم أن الطرق إلى الله كثيرة [55ب] غير الطريق الذي هو عليه؛ لكي يرى تقصير نفسه بنفسه فيما هو فيه، ولا ينظر إلى أحد بعين التقصير والنقص. سمعت جدي إسماعيل بن نجيد يحكي عن شاه الكرماني أنه قال: من نظر إلى الخلق بعينه طالت خصومته معهم، ومن نظر إليهم بعين الحق عذرهم فيما هم فيه، وعلم أنهم لا يستطيعون غير ما جبروا عليه. (17)
ومن أصولهم حفظ القلب مع الله بحسن المشاهدة، وحفظ الوقت مع الخلق بحسن الأدب، وكتمان ما يظهر عليه من الموافقات إلا ما لا بد من إظهاره؛ ولذلك قال أبو محمد سهل رحمه الله: وقتك أعز الأشياء عندك، فاشغله بأعز الأشياء عليك. وقال أبو عبد الله الحربي: ليس في الدنيا شيء أعز من قلبك ووقتك، فإن ضيعت قلبك عن مطالعات الغيوب، وضيعت وقتك عن ممارسة آداب النفس، فقد ضيعت أعز الأشياء عليك. (18)
ومن أصولهم أن أصل العبودية شيئان: حسن الافتقار إلى الله عز وجل، وهذا من باطن الأحوال، وحسن القدوة برسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهذا الذي ليس فيه للنفس نفس ولا راحة. (19)
ومن أصولهم أن الإنسان يجب أن يكون خصما على نفسه، غير راض بحال من الأحوال. قال كذلك: سمعت أبا بكر بن شاذان
88
يقول: سمعت علي بن داود العكي يقول: المؤمن خصم الله على نفسه في جميع أحواله وأفعاله وأذكاره وأقواله. (20)
ومن أصولهم أن النظر إلى العمل والعجب [به] من قلة العقل ورعونة الطبع. كيف تفتخر بما ليس لك فيه شيء، وهو يجري من الغير إليك، ينسب ذلك إليك نسبة عارية، وفي الحقيقة ليس لك معه نسبة، لأنك مدبر فيه ومجبور عليه. وهل الافتخار بهذا الأمر إلا من قلة العقل ورعونة الطبع؟ وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: المتصنع بما لم يعط كلابس ثوبي زور. قال: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن علي الكتاني
89
يقول: كيف يعجب عاقل بعمله وهو يعلم أنه لا يقدر على شيء من عمله؟ (21)
ومن أصولهم ترك الكلام في العلم والمباهاة به وإظهار أسرار الله منه عند غير أهله. قال: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت عبد الله بن محمد
90
النيسابوري يقول: قلت لأبي حفص [56أ]: ما بالكم لا تتكلمون كما يتكلم البغداديون وغيرهم من الناس، وما بالكم اخترتم الصمت؟ فقال: لأن مشايخنا صمتوا بعلم ونطقوا على الضرورة، فوقع لهم محل الأدب في الكلام، فلم يتكلموا إلا بعد ما عقلوا عن الله، فصاروا أمناء الله في أرضه، والأمين حريص على حفظ أمانته. (22)
ومن أصولهم أن السماع إذا عمل فيمن يتحقق فيه أن هيبته تمنع الحركة والصياح، لتمام هيبته عليهم. قال: سمعت محمد بن الحسن الخشاب
91
يقول: سمعت علي بن هارون الحصري
92
يقول: السماع الحقيقي إذا صادف مكانا من قلب متحقق زينه بأنواع الكرامات، أوله أن تبدو هيبته على الحاضرين حتى لا يتحرك بحضرته أحد، ولا يصيح ولا ينزعج لتمام هيبته. وحقيقة مصاحبة السماع منه أن يغلب وقته أوقات الحاضرين ويقهرهم، فهم تحت قهره وأمره. (23)
ومن أصولهم أن الفقر سر لله عنده، فإذا ظهر عليه فقره منه فقد خرج عن حد الأمناء. والفقير منهم عندهم فقير ما لم يعلم أحد فقره إلا من يكون افتقاره إليه، فإذا علم منه غيره فقد خرج من حد الفقر إلى حد الحاجة، والمحتاجون كثير والفقراء قليل. وأصلهم في ذلك ما سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم
93
يقول: سمعت طلحة السلمي [السلي هكذا] يقول: كان شاه الكرماني يقول: الفقر سر الله عند العبد، فإذا كتمه كان أمينا، وإذا أظهره سقط عنه اسم الفقر. (24)
ومن أصولهم ترك تغيير اللباس، والكون مع الخلق على ظاهر ما هم عليه، والاجتهاد في إصلاح السر. وأصلهم في ذلك ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم. (25)
ومن أصولهم ترك الاشتغال بعيوب الناس شغلا بما يلزمهم من عيوب أنفسهم، محاذرة شرها ودوام تهمتها، والإقامة على إصلاحها ومكنون عذرها وخفاء سرها. وأصلهم في ذلك قول الله تعالى:
إن النفس لأمارة بالسوء . قيل المعنى إلا من ذللها الله لصاحبها وأظهره عليها بدوام المخالفة، وردها من طريق المخالفة إلى طريق الموافقة، وما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. (26)
ومن أصولهم أن المعطي يجب عليه ألا يرى عطاءه شيئا؛ لأنه يعطي ما لله عنده ويوصل الحقوق إلى مستحقها، فإذا أعطى حق الغير كيف يعظم ذلك عنده؟ وأصلهم في ذلك حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه [56ب] حين أتى النبي
صلى الله عليه وسلم
مع الأشعريين ليستحملوه، فحلف ألا يحملهم، ثم حملهم، فقالوا: نسي رسول الله يمينه، فأتوا النبي
صلى الله عليه وسلم
فقالوا له: حلفت ألا تحملنا، فقال: ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم. وقوله عليه السلام: أنا قاسم والله المعطي. فإذا عرف العبد حقيقة ذلك سقط عنه رؤية بذله وسخائه. (27)
ومن أصولهم أن أقل العبيد معرفة بربه عبد ظن أن فعله وطاعته تستجلب عطاءه، وأن عطاءه يقابل فضله، ولا يصح للعبد عندهم شيء من مقام المعرفة حتى يعلم أن كل ما يرد عليه من ربه من جميع الوجوه فضل غير استحقاق. وأصلهم في ذلك قول النبي
صلى الله عليه وسلم : لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته. (28)
ومن أصولهم ألا يبصر [الإنسان] عيب أخيه إلا أن يكون معيبا. وأصلهم في ذلك قول النبي
صلى الله عليه وسلم
لصفوان: هلا سترته بردائك كان خيرا لك؟ (29)
ومن أصولهم كراهة الدعاء إلا للمضطرين، والمضطر عندهم من لا يجد لنفسه وجها ولا متاعا ولا مقاما عند الله تعالى ولا عند الخلق، فيكون رجوعه إلى ربه بانكسار وضعف دون أن يقدم أحواله وأفعاله، ويكون رجوعه إلى ربه على حد الإفلاس والتخلي من كل شيء، فيكون الدعاء مباحا في ذلك الحال، ويرجى لدعائه الإجابة. وأصلهم في ذلك ما حكي عن أبي حفص أنه قيل له: بماذا تقدم على ربك؟ قال: وما للفقير أن يقدم به على الغني سوى فقره إليه؟ قال أبو يزيد: نوديت في سري: «خزائني مملوءة من الخدمة، فإن أردتنا فعليك بالذلة والافتقار.» (30)
ومن أصولهم أن الغفلة - التي هي رحمة الله - هي على من استوفى أوقاته في المجاهدة والمعاملة، فإذا أراد الله به رفقا أو رفاهية أورد عليه غفلة يستريح فيها لذلك. سئل شيخهم أبو صالح عن الغفلة التي هي رحمة، فقال: ذلك يكون على فلان الذي لا يمكنه أن يأتي الفراش إلا حبوا من كثرة الاجتهاد، وإذا أتى الفراش يكون كالحية على المقلى. (31)
ومن أصولهم أن كثرة الحركة في الأسباب من علامة الشقاوة، وأن التفويض والسكون تحت مجاري الأقدار من علامات السعادة؛ ولذلك قال حمدون: خلق الله الخلق مضطرين إليه لا حيلة لهم، [57أ] فأسعد الناس من أراد الله قلة حيلته. (32)
ومن أصولهم أنهم كرهوا أن يخدموا أو يعظموا أو يقصدوا، ويقولون: ما للعبد وهذه المطالبات؟ إنما هي للأحرار. وأصلهم في ذلك ما سمعت من محمد بن أحمد الفراء يقول: سمعت عبد الله بن أحمد بن منازل يقول: سمعت حمدون يقول وقد سئل: من العبد؟ فقال: الذي يعبد ولا يحب أن يعبد. قال أبو حفص: لا تكن عبادتك سببا [في] أن تكون ربا يستعبد عبيده. (33)
ومن أصولهم في الفراسة أن الإنسان يجب أن يتقى من فراسته، والمؤمن لا يدعي فراسة لنفسه؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: اتقوا فراسة المؤمن. ومن يتقي [فراسة] الغير فيه كيف يدعي فراسة لنفسه؟ وهذا قول أبي حفص. (34)
ومن أصولهم ما سمعت محمد بن أحمد الفراء يقول: سمعت ابن منازل يقول: سمعت أبا صالح يقول: المؤمن يجب أن يكون بالليل سراجا لإخوانه وعصا لهم بالنهار. المعنى: حسن عونه لهم في اشتغالهم وما يحتاجون إليه. (35)
ومن أصولهم ما حكى أبو عثمان عن أستاذه أبي حفص أنه قال: من كثر علمه قل عمله، ومن قل علمه كثر عمله، فرجعت إلى أبي حفص فسألته عن معنى كلامه هذا، فقال: من كثر علمه استقل كثير عمله، لعلمه بتقصيره فيه، ومن قل علمه استكثر قليل عمله، لقلة رؤية التقصير فيه والعيب. (36)
ومن أصولهم أن سماع الأذن يجب ألا يغلب مشاهدة البصر؛ المعنى ألا يغلبه سماع ما سمعه في نفسه من الثناء بالظن بما يتحققه هو من آفات نفسه ومشاهدته، وأول هذا الفضل لأبي حفص. وأصلهم في ذلك ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: ليس الخبر كالمعاينة. وقال عمر رضي الله عنه: المغرور من غررتموه. (37)
ومن أصولهم ترك الكلام في دقائق العلوم والإشارات، وقلة الخوض فيها، والرجوع إلى حد الأمر والنهي. وأصلهم في ذلك ما سمعت عبد الله بن علي
94
يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم بن شيبان
95
يقول: كتب محمد بن القاسم الحلواني إلى أبي كتابا أكثر فيه الإشارات، وكتب إليه أبي: «بسم الله الرحمن الرحيم، من العبد الذليل إبراهيم بن شيبان. يا أخي! إن اتبعت الأمر والنهي فأنت بخير.» قال: وحدثني جدي قال: سمعت أبا عياض يقول: إذا نزع عن باطن الإنسان الخيرات أطلق لسانه بالدعاوى العظيمة ودقائق العلوم. (38) [57ب] ومن أصولهم في التوكل ما سمعت ابن عبد الله يقول: سمعت عمي البسطامي يقول: سمعت أبا يزيد يقول: حسبك من التوكل ألا ترى ناظرا غيره، ولا لرزقك جالبا غيره، ولا لعملك شاهدا غيره. (39)
ومن أصولهم كتمان الآيات والكرامات، والنظر إليها بعين الاستدراج والبعد عن سبيل الحق. كذلك سمعت محمد بن شاذان يقول: سمعت أبا عمرو الدمشقي
96
يقول: كما فرض الله على الأنبياء إظهار الآيات والكرامات، كذلك فرض على الأولياء كتمانها لئلا يفتتن بها الناس. (40)
ومن أصولهم ترك البكاء عند السماع والذكر والعلم وغير ذلك، وملازمة الكمد، فإنه أحمد للبدن. وأصلهم في ذلك ما سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد العزيز المكي يقول لرجل في مجلسه وقد بكى: تلذذك بالبكاء ثمن البكاء. وأطلق أبو حفص لأصحابه من البكاء بكاء الأسف، وقال هو محمود. وخالفه أبو عثمان في ذلك، وقال بكاء الأسف يذهب بالأسف، ومداومة الأسف أحمد عاقبة من التسلي عنه بالبكاء، إلا أن يكون البكاء بكاء ذوبان الروح، فتكون الدمعة من ذلك البكاء تهد البدن وتفنيه، وأنشد في هذا المعنى:
وليس الذي يجري من العين ماؤها
ولكنها روحي تذوب وتقطر (41)
ومن أصولهم قالوا: يجب أن يكون الواعظ منك يوم موتك بيتك، لا أن تظهر من الفقر طول حياتك، فإذا مت كان بيتك كأحد بيوت من سلف من أرباب الفقر. وقالوا: يجب أن تظهر الغنى والاستغناء أيام حياتك، فإذا مت أظهر فقرك بيتك، فيكون موتك راحة للماضين وموعظة للباقين. وأصلهم في ذلك ما قال أبو حفص لعبد الله الحجام:
97
إن كنت فتى فيكون بيتك يوم موتك موعظة للفتيان. (42)
ومن أصولهم ترك الرجوع إلى أحد من المخلوقين والاستعانة بهم، فإنك لا تستعين إلا بمحتاج أو مضطر، ولعله أشد حاجة واضطرارا منك وأنت لا تشعر. وأصلهم في ذلك ما سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الثقفي
98
يقول: سمعت حمدون يقول: استعانة المخلوق بالمخلوق كاستعانة المسجون بالمسجون. (43)
ومن أصولهم إذا رأوا لأنفسهم إجابة دعوة حزنوا واستوحشوا، وقالوا هذا مكر واستدراج، كما حكي عن الدقي
99
عن أبي نصر الرافعي [58أ] عن أبي عثمان النيسابوري أنه قال: خرجنا مع أبي حفص إلى بعض الجبال، فقعد أبو حفص يكلمنا، فبينا هو كذلك إذ جاءه ظبي فبرك بين يديه، فبكى أبو حفص وتغير عليه وقته، فقلنا له: ما بالك؟ فقال: وقع في قلبي أنه لو كان عندنا هذه الليلة شاة لاجتمعنا عليه، فما استحكم هذا الخاطر من قلبي حتى جاء هذا الظبي كما تراه، وما يؤمنني أن أكون كفرعون، أجيب لما سأل وقد ختم له من الله بالشقاوة؟ (44)
ومن أصولهم قبول الرزق إذا كان فيه ذل، ورده إذا كان فيه عزة نفس وشره طبع. سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت الحسين بن علي الدمشقي يقول: وجه عصام البلخي
100
إلى أبي حاتم الأصم
101
شيئا فقبله منه، فقيل له: لم قبلت؟ فقال: وجدت في أخذه ذلي وعزه، وفي رده عزي وذله، فاخترت عزه على عزي وذلي على ذله. (45)
ومن أصولهم ما سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الرازي يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن إسماعيل
102
يقول وقد سئل عن الصحبة فقال: حسن الصحبة ظاهره أن توسع على أخيك من مال نفسك ولا تطمع في ماله، وتنصفه ولا تطلب منه الإنصاف، وتكون تبعا له ولا يكون تبعا لك، وتتحمل منه الجفوة ولا تجفوه، وتستكثر قليل بره وتستقل ما منك إليه. ومن جامع ما سمعت شيخ هذه القصة محمد بن أحمد الفراء يقول: سألني الأحدب غلام القناد: «ما الملامتية وما كلامهم؟» فقال: ليس لهم مرسوم علم ولا مكتوب كتب، ولكن كان لهم شيخ يقال له حمدون القصار، فقال: «الملامتي» لا يكون له من باطنه دعوى، ولا من ظاهره تصنع ولا مراءاة، وسره الذي بينه وبين الله لا يطلع عليه صدره، فكيف الخلق؟ قال محمد بن أحمد الفراء: بلغني أنه حكى الحاجب للشيخ أبي الحسن الحصري ببغداد فقال له: لو جاز أن يكون في هذا الزمان نبي لكان منهم.
قال أبو عبد الرحمن رحمة الله عليه: بينت في هذه الفصول التي تقدمت من منثور كلام مشايخهم وأئمتهم من ظاهر أصولهم ما نسأل الله تعالى ألا يحرمنا بركاته، ومنها ما يستدل به من وفقه الله لفهمه على ما وراءه من أحوالهم وعبادتهم. ونحن نسأل الله تعالى ذكره أن يوفقنا لمرضاته، ويعيننا على ما فيه الصلاح لدنيانا وأخرانا، بفضله وسعة رحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه. (تمت الرسالة.)
أهم المراجع
(1)
رسالة الملامتية، نسخة رقم 26036 بمكتبة جامعة فؤاد الأول مأخوذة من نسخة برلين الخطية رقم 3388. (2)
نسخة خطية بدار الكتب المصرية، تحت عنوان «أصول الملامتية وغلطات الصوفية»، رقم 178 مجاميع تصوف. (3)
طبقات الصوفية، لأبي عبد الرحمن السلمي، نسخة مأخوذة من مخطوط المتحف البريطاني رقم 18520
Ad . (4)
شرح الرسالة القشيرية للأنصاري وعليه حاشية العروسي. طبع بولاق. (5)
رسالة القشيري، مصر سنة 1330. (6)
اللمع، للسراج، نشرة الأستاذ نيكولسون. (7)
كشف المحجوب، للهجويري، ترجمة الأستاذ نيكولسون. (8)
التعرف، للكلاباذي، نشرة آربري. (9)
عوارف المعارف، للسهروردي، على هامش الإحياء . (10)
الفتوحات المكية، لابن عربي، طبع بولاق. (11)
الحلية، لأبي نعيم. (12)
نفحات الأنس، لعبد الرحمن جامي. (13)
طبقات الصوفية، للشعراني، طبع مصر سنة 1317. (14)
تذكرة الأولياء، لفريد الدين العطار. (15)
محاضرة الأبرار، لابن عربي، مصر سنة 1305. (16)
مدارج السالكين في شرح منازل السائرين، للهروي. (17)
قوت القلوب، لأبي طالب المكي، مصر سنة 1351. (18)
طبقات الشافعية، للسبكي. (19)
مرآة الجنان، لليافعي، حيدر آباد سنة 1338ه. (20)
طبقات الحفاظ، للذهبي. (21)
تذكرة الحفاظ، للذهبي. (22)
ابن الأثير، الجزء التاسع. (23)
تاريخ بغداد، لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي ، مصر سنة 1931. (24)
شذرات الذهب، لأبي الفلاح عبد الحي بن العماد. (25)
الأنساب للسمعاني، المجموعة التذكارية «لجب». (26)
كشاف اصطلاحات العلوم والفنون، للتهانوي. (27)
تلبيس إبليس، لابن الجوزي. (28)
الخطط، للمقريزي، ج4. (29)
معجم البلدان، لياقوت. (30)
بروكلمان، ج1، ص200، وكذلك الذيل. (31)
مقالة عن رسالة الملامتية للأستاذ فون هارتمان في
Der Islam, April 1918 . (32)
، تأليف الأستاذ ماسينيون. (33)
نصوص صوفية متعلقة بالحلاج، نشرها الأستاذ ماسينيون تحت عنوان:
Quatre Textes Inédits etc . (34)
الكواكب الدرية في تراجم السادة الصوفية لعبد الرءوف المناوي، مصر 1938. (35)
الرسائل والمسائل، لابن تيمية، طبعة المنار. (36)
دائرة المعارف الإسلامية، مادة، نيسابور، فتوة إلخ. (37)
The Dervishes, by J. Brown, 1868. (38)
Studies in Islamic Mysticism by R. A. Nicholson. (39)
Essai by Massignon. (40)
Tawasin of Hallaj ed. Massignon. (41)
Die Islamischen Futuwwabüude: Von Fr. Taeschner, Z.D.M.G. Band XII 1933-34, P. 6-49 . (42)
Futwwa und Malama: Von R. Hartmann, Z.D.M.G. Band LXXII, 1918, P. 193-198. (43)
Beiträge zur Kenntnis des Islamischen Vereinswesens (Türkische Bibliothek, Bd 16) by Her. Thorning. (44)
V. Hammer, J. A. IV S 13, 1849: J. A. V S 6 1855. (45)
Hist. des Sultans Mamlouks par Makrizi I, I, S - 58: Quatremèr. (46)
Contribution à la connaissance de l’Orient: Tome XII: Horten. (47)
Die Futuwwa, Bündnisse des Kalifen En-Nasir (622/1225), in “Festschrift Jacob”, Leipzig 1932, P. Kahle. (48)
Eien Futuwwa, Erlass des Kalifen En-Nasir aus dem jahre 604 (1207), in “Festschrift Max Fr. Von Oppenheim”, Berlin 1933, P Kahle.
Bog aan la aqoon