لفت انتباهي منذ صغري رويته في تقييم الآخرين؛ فلم يكن يتسرع في إصدار الأحكام ضدهم أو يتكلم عنهم بالسوء. وثمنت ذلك فيه وأنا أقف منه على مسافة تزداد بعدا.
أصبح أبي يقضي فترات طويلة في القبو، تحديدا في الورشة؛ حيث كان يمكنه أن يغزل حبائل أفكاره أو أن يهيم معها على غير هدى، وكان بوسعه هناك أن يخلص حياته من أي تأثيرات خارجية؛ فقد كانت الورشة بمثابة الملجأ والوطن له، وما زلت أدهش للنظام الذي كانت عليه الورشة. قام في السبعينيات بتثبيت لوح خشبي في السقف المنخفض، ثم ثبت فيه بانتظام أغطية برطمانات أغذية الأطفال، وبعد ذلك وضع الأشياء الصغيرة مثل المسامير والأزرار في تلك البرطمانات، ثم ثبتها في أغطيتها لتصبح متدلية من اللوح الخشبي، وما زالت العشرات منها معلقة من سقف الورشة حتى اليوم بانتظام ملفت، حتى إن زوجته وأولاده كانوا يجدون ما يبحثون عنه دون عناء.
عندما كان أحدنا يسأل: «أين أبي؟»
كان الرد يأتي عادة: «في الورشة على ما أظن.» «ماذا يفعل هناك؟» «بالتأكيد شيئا سخيفا آخر.» •••
تطفو في ذكرياتي مواقف مشابهة كثيرة من تلك الفترة فوق السطح. لم يرغب أحد من أعضاء الأسرة في أن يخرج أبي، الذي يعيش على هامش حياتنا الأسرية، عن عزلته ويقوم بإزعاج الأسرة في حياتها المعتادة (حتى ولو ظل المثقاب الكهربي في القبو يؤثر على صورة التليفزيون، وظل الطرق والضوضاء المتواصلين من جانب البيت هذا أو ذاك يضايقان الأطفال في الوقت الذي يجب عليهم الاستذكار فيه أو يرغبون في القراءة). حتى مشاعري عند بداية مرض أبي تبعت نفس النموذج. ظننت أني لا أريد أن يتسبب المرض في جعل أبي ينعزل عن حياتي وأن يؤثر عليها سلبا حتى وهو في عزلته. إذا أمعنا النظر فإن أبي عاش في بداية مرضه نفس حياته الرتيبة التي تشبه حياة الشخصية الروائية روبنسون كروزو، وكانت الأسرة تمثل له خلفية القصة؛ فهي البحر والريح والغابة والماعز وخادمه فرايداي.
وقصة روبنسون كروزو هي الرواية الوحيدة التي قرأها أبي في حياته، بل وقرأها عدة مرات. وتعد تلك الرواية من أهم أعمال الأدب العالمي، ولا يقوم الحب فيها بدور مهم؛ فأهم موضوعاتها كان تحقيق الذات. سمى أبي أول سيارة امتلكها، وكانت من طراز «دي كيه دبليو كابريو» موديل 1934، «روبين»، وقد سافر بهذه السيارة لمدة يومين أو ثلاثة إلى جنوب التيرول مع بعض أصدقائه في نفس عام شرائها 1955 قبل زواجه بفترة طويلة. •••
ومرت أعوام الثمانينيات ولم يكن والداي أفضل مثال على الزيجة السعيدة. أدى مرور الوقت إلى اتساع هوة الاختلاف بينهما بدلا من رأبها. سادت البيت حالة من الكآبة، وساعدت مراهقة الأبناء في تفكك البيت أكثر. ولأن المرء ينطلق دائما من أن الأسرة شيء منسجم ومتجانس، بدأ كل من في البيت يشعر بأنه جسم غريب فيه، وبعد فترة شعر الجميع بأنهم منعزلون؛ يعتمدون على أنفسهم، وينشغلون بأمور لا يأبه بها الآخرون.
قال عمي يوزيف ذات مرة: «لم تسر الأمور في بيتنا أيضا كما ينبغي لها أن تسير؛ فعندما كان أحدنا يواجه مشكلة في المدرسة لم يكن يتحدث عنها حتى مع أخيه، وإذا سعد لأمر، كان يخفيه ويذهب إلى الغرفة العلوية ليقفز في الهواء فرحا.»
وشابه ذلك تقييمي للوضع في بيتنا عندما كنت شابا؛ إذ لم أكن أشعر أني في بيتي إلا بوضع حدود واضحة تفصلني عن الآخرين، وفي آخر الأمر كان كل منا يشعر بأن الكيل قد طفح من الآخر، أو على الأقل كان هذا إحساسي. •••
عندما أنهيت دراستي الثانوية كان تمزق العائلة قد بدأ يؤثر بصورة ملحوظة على الحالة النفسية لأفرادها، ولكن لحسن الحظ كان تدارك ذلك ممكنا، كما ظهر عندما تغيرت الأوضاع بعد سنوات.
Bog aan la aqoon