وإذ لم تطق هورتنس الإقامة تنكرت في ليلة حالكة الأديم بلباس رجل، وهربت مصحوبة بإحدى خادماتها وهي متنكرة مثلها، ومعهما رجل يدعى كوبرفيل كان قد أعد لهما جوادا أركبهما عليه، وسار هو في خفارتهما راكبا على جواد آخر. ولما وصلت إلى ميلان (في إيطاليا) وجدت أختها ماري وزوجها في انتظارهما.
ولكنها لم تسر بملاقاة أختها لها، وودت أن تكون بمعزل عن جميع أنسبائها، فخلت في المسكن الذي اختارته لنفسها، ولم تأذن لأحد في الدخول عليها من غير الخدم وكوبرفيل الذي صحبها في هربها من الدير، وتعرضت في علاقتها به لذم الناس ولومهم؛ ولذلك لم تطل إقامتها في ميلان؛ إذ غادرتها إلى دير ثم انتقلت إلى بلدة أخرى.
وفي ميلان تمتعت هورتنس ما شاءت بمغازلة كثيرين من المحبين والعشاق. ولما برح كوبرفيل إيطاليا شغل مكانه عندها غير واحد من أهل الصبابة والهيام، مثل جاكس بلبيف النورمندي، وهو شاب بارع الحسن والجمال، والمركيز دي غريلو، والكونت دي مورسن، وسواهم من الذين تصبتهم وتيمتهم، وأذكت بينهم نار الغيرة والحسد، حتى ملت الاغتراب وسئمت مغازلة العشاق والأحباب. فعادت أدراجها إلى فرنسا يحدوها روح التوبة والندامة، وهناك تمكن الملك بعد مواصلة السعي من حملها على قبول راتب زهيد يدفعه إليها زوجها، بشرط أن يؤذن لها في الإقامة وحدها منفصلة عنه.
وفي الربيع التالي رجعت إلى رومية حيث وجدت أختها في أسوأ حالة من جراء إعراض زوجها عنها وشدة قساوته عليها. فإن محبته السابقة لها تحولت إلى فتور واشمئزاز ثم إلى بغض وكراهية، ولما شكت إليه هذه المعاملة الجائرة وعيرته غدره وخيانته، حاول أن يدس لها سما يذهب بحياتها، وحينئذ لم تر ماري بدا من الفرار والنجاة بنفسها، ورفعت أمرها إلى لويس فوعدها بحرس ينتظرونها على حدود فرنسا ويأتون بها. وعندما تم لها ما أرادت أخبرت أختها هورتنس بما عزمت عليه، وطلبت إليها أن تصحبها في فرارها، وانتهزت له فرصة غياب زوجها وخرجت مع أختها ليلا في مركبة مقفلة يحرسها رجلان. وسارت المركبة بما يستطاع من السرعة إلى سيفيتا فيكا؛ حيث توقعتا أن تجدا سفينة في انتظارهما لتسافرا عليها.
ولما وصلتا إليها أرسلتا أحد الرجلين اللذين معهما إلى السفينة التي كانت مزمعة أن تنتظرهما في مكان يبعد أربعة أميال من البلدة ليخبر ربانها بقدومهما. ثم غادرتا المركبة ودخلتا حرجة كثيفة قرب الشاطئ، ورقدتا فيها إلى الصباح حيث استيقظتا ووجدتا الرسول قد عاد وأخبرهما بأنه لم يعثر على السفينة في المكان المعين. وإذ كانت خيول المركبة قد برح بها السير وباتت غير قادرة على استئنافه، تركتاها وسارتا ماشيتين تكابدان ما لا يوصف من شدة الحر والتعب واضطراب البال لعدم وصول السفينة المنتظرة.
وعلى رغم هذه المشقات كلها واصلتا المسير بصبر ورباطة جأش حتى وصلتا إلى المكان المعهود، فرأتا فيه بدل السفينة الواحدة سفينتين، فاختارتا أكبرهما وصعدتا إليها، ولكن ربانها طلب أجرة أكثر جدا مما وقع الاتفاق عليه، مهددا لهما بأنه يقذف بهما من على ظهر السفينة إن لم تدفعا إليه الأجرة التي طلبها على الفور. ولم يسعهما إلا الإذعان والقبول. وكان كولونا (زوج ماري) قد علم بفرارها، وبعث رجالا على جناح السرعة يبحثون عنهما برا وبحرا.
وبعد تسعة أيام قضتها الشقيقتان في السفر بحرا وتعرضتا غير مرة لإخطار الغرق رست بهما السفينة في سيوتا (بلدة فرنسوية في جنوب مرسليا الشرقي) حيث استأجرتا جوادين وأغذتا عليهما سرى الليل إلى مرسليا. وعند وصولهما إليها أرسلا رجلا إلى لويس يخبره بقدومهما، ولكن هذا الرسول وقع في كمين على الطريق؛ حيث بات مجندلا بين حي وميت. ولم تلبث الأختان أن وجدتا الأعداء والمصاعب محدقة بهما من كل جانب، وذلك بسعي كولونا. ثم بلغهما ما زادهما قلقا وجزعا، وهو أن بعض الجنود كانوا قادمين إلى مرسليا للقبض على الدوقة هورتنس بأمر زوجها الدوق دي مازارين.
فلم يبق لهما أقل أمل بالوصول إلى باريس. وبلغ اليأس من هورتنس أن تركت شقيقتها وفرت إلى سافوي معللة نفسها بأن أميرها الدوق شارل عمانوئيل الثاني الذي كان أحد عشاقها وطالبي الاقتران بها ينجدها في كربتها وينقذها من الضيق المحيق بها. وقد حقق الأمير رجاءها، فإنه لقيها مرحبا بها مكرما وفادتها، وعلى الفور أعد لها قصرا وأنزلها فيه وبالغ في الاحتفاء بها. وظلت مقيمة عنده على ما شاءت من الإعزاز والإكرام إلى يوم وفاته، وحينئذ أوعزت إليها أرملته أن تلتمس لنفسها ملجأ في مكان آخر. وإذ كان السفر إلى فرنسا متعذرا عليها، وكانت لا تود الرجوع إلى إيطاليا، لم يبق أمامها سوى إنكلترة، فصممت على الرحيل إليها وسارت تقطع المسالك المتعادية والمسافات المترامية على ظهر جواد، مجتازة سويسرا وألمانيا وهولندا.
وكان تشارلس الثاني ملك إنكلترة لا يزال يذكر ابنة أخت الكردينال التي سلبت لبه وأسرت قلبه، وكان في استطاعتها الاقتران به لو أرادت عندما كان في منفاه. وقد أبصر بدر جمالها مشرقا بنور يبهر النظر ويفوق ضياء جميع الكواكب الطالعة في سماء بلاطه. فبسط لها ذراعي الترحيب والاحتفاء، وبوأها أرفع منزلة بين محظياته، وجعل لها راتبا سنويا قدره أربعة آلاف جنيه.
وبعدما كانت شريدة طريدة إذا بها قد بلغت من سمو المنزلة ورفعة الشأن ما لم يخطر في بال إنسان، فإن الملك جعلها أقرب الناس إليه، وشملها بعنايته ورعايته، وباتت قبلة أنظار الذين في قصره من الجلساء والأخصاء. وصار التغزل بحسنها وجمالها والتغني ببهائها وسنائها موضوع الأناشيد في أفواه الكبار والصغار؛ ومما أنشده فيها والر شاعر البلاط قوله مترجما:
Bog aan la aqoon