وقد وقف دي غرشي على هذا الإنذار، وكان قد جاءه بلاغ من الحكومة البريطانية تنذره فيه بأنه بموجب شريعتها لا يمكنها أن توافق على اعتقال الشفاليه ديون ولا على ضبط أوراقه. وبناء عليه عدل السفير عن المكيدة التي كان يدبرها لاختطاف ديون وأخذه إلى فرنسا، وعزم على السعي بالفتك به سرا؛ فتصنع المسالمة والمصافاة ودعا الشفاليه إلى وليمة عشاء احتفالا بالمصالحة، فقبل ديون الدعوة، ولكنه ارتاب بها فذهب متحرزا متيقظا وعيناه مفتوحتان لرؤية كل شيء. وبينما كان آخذا بأطراف الحديث مع السفير رأى حاجب غرشي يدس سما في خمره، فكتم ذلك وتجاهله ولم يشرب الخمر. وبعد أيام استدعت محكمة لندن السفير متهما بمحاولة سم غيره، واعترف الحاجب بجريمته، لكن غرشي احتمى بامتياز كونه سفيرا، وأبى أن يحاكم.
وفي ذات ليلة كان ديون راجعا إلى منزله، فحملت عليه عصابة من السفلة المأجورين، ولكنه استل حسامه وأعمله في أقفيتهم فجندل ثلاثة منهم ونكص الباقون على أعقابهم هاربين، وبذل أعداؤه كثيرا من المساعي لإغرائه بالرجوع إلى فرنسا فلم يفلحوا.
وكان غرضهم من حمله على العودة إلى فرنسا أن يستردوا منه أوراقا تتضمن رسم خطة مدبرة من قبل لويس الخامس عشر نفسه لمهاجمة إنكلترة بعد إمضاء معاهدة باريس بشهرين. وكان أعداء الملك مستعدين لبذل كل غال نفيس في سبيل الحصول على هذه الأوراق، ومما يصح اتخاذه أوضح دليل على تفاني ديون في الأمانة والإخلاص لمليكه وشدة حرصه على كرامة نفسه وعزتها، استعداده لبذل نفسه في سبيل الاحتفاظ بهذه الوثائق وعدم التفريط فيها. وقد عرض عليه زعماء الحزب المعارض في مجلس النواب البريطاني عشرين ألف جنيه ثمن هذه الأوراق، وكان حينئذ صفر اليدين وفي أشد حالات الفقر المالي، فرفض قبول هذا المبلغ الباهظ بشمم وإباء لا مزيد عليهما. فأعجب لويس بشدة ولائه، وجعل له راتبا سنويا قدره نحو عشرة آلاف جنيه.
وبعد وفاة لويس الخامس عشر ساءت حالة ديون واضطر أن يسعى بواسطة بومارشيه في تملق الملك الجديد والتزلف إليه، ولكنه في هذه الأثناء ارتكب غلطة فظيعة؛ إذ اعترف بأنه امرأة. وهذه الغلطة اضطرته على رغمه أن يظل منتحلا هذه الجنسية إلى يوم وفاته. ويظهر أنه أفضى بهذا الاعتراف نفسه إلى المسيو غودن الذي صحب المسيو بومارشيه إلى لندن؛ فقد قال: «لقيت الآنسة ديون في وليمة العشاء التي أولمها اللورد ولكس حاكم لندن، فباحت لي وعيناها مغرورقتان بالدموع بأنها أنثى، وأرتني آثار الجروح التي أصابتها عندما قتل جوادها تحتها وداستها حوافر الخيل وغادرها أعداؤها مطروحة في ساحة القتال ظانين أنها ماتت.»
وهذا الاعتراف عاد على ديون بأوخم العواقب، وحال دون إجابة طلبه لأن يعاد تعيينه سفيرا لفرنسا في لندن. وألحت عليه حكومة فرنسا في وجوب ارتداء الملابس المخصصة بالجنس الذي اعترف بالانتماء إليه.
ومن أدلة تماديه في الخرق والغباوة أنه كتب عن نفسه في حاشية صك الاتفاق الذي عقده مع المسيو بومارشيه لاستمرار حصوله على الراتب السنوي، الذي سبقت الإشارة إليه ما ترجمته: «وقد تحقق كون الآنسة ديون أنثى بشهادة كثيرين من الأطباء والجراحين والقوابل والوثائق الرسمية.» وعلاوة على ذلك عاهدت (نشير إليها بصيغة المؤنث حسب إقرارها) أن ترتدي ملابس امرأة. وبناء عليه وخوفا من خسارة الراتب، عزمت ديون على العمل بموجب الاتفاق. وفي اليوم السادس من شهر أغسطس سنة 1777، ظهرت في لندن أول مرة تميس بحلة فاخرة ومزدانة بأغلى الحلى والجواهر. وفي اليوم التالي أولمت وليمة كبيرة دعت إليها كثيرين من الصديقات والأصدقاء، وبرزت أمامهم بحلتها الشائقة وحلاها النفيسة.
وبعد أيام برحت لندن إلى فرنسا بعد غياب طويل وهي في بذلة قائد دراغون وصدرها محلى بالوسامات التي عندها، فاستاء رجال الحكومة من عملها هذا، وهددوها بقطع الراتب إن لم تبادر إلى الظهور بملابس امرأة، فاعتذرت بأنه ليس عندها الآن من الملابس ما يليق بها الظهور فيه. وعلى الفور أهابت الملكة ماري أنطوانت بخياطتها الخاصة وأمرتها أن تخيط لديون كل ما هي في حاجة إليه.
وبعد بضعة أسابيع ذهبت لتزور والدتها العجوز بعد غيابها عنها ثماني عشرة سنة، فاستقبلت ولدها الضال، وخاطبتها بصيغة المؤنث مع كونها مثلت أمامها في ثياب رجل. ثم رجعت إلى قصر فرسايل وارتدت الحلة الجديدة التي أمرت الملكة بخياطتها لها، وحضرت الاحتفال بعيد سنت أرسولي في حلة زاهرة باهرة وهي معطرة بالأطياب ومحلاة بالأساور والقلائد والشنوف والخواتم.
وبعد بضع سنوات قضتها معتزلة في بلدة تونير مسقط رأسها غادرت فرنسا عائدة إلى إنكلترة حيث عزمت أن تقضي بقية أيامها، وكانت أعظم تسلية لها الارتياض بما كانت تزاوله في أيام صباها وهو اللعب بالسيف. وقد أظهرت فيه براعة أدهشت حتى أبطال هذا الفن المعدودين في بلاد الإنكليز.
وكانت في هذا الوقت قد أصبحت في أول العقد السادس من عمرها، ومع ذلك أقدمت على منازلة سنت جورج في اللعب بالسيف، وهو أشهر لاعب به في أوروبا، وقد حدث نزالها في كرلتون هوس بحضور ولي العهد، وكان لها الكفة الراجحة على خصمها.
Bog aan la aqoon