وحينئذ لم يبق في وسع الكونتس أن تمانع. وفي أحد أيام شهر ديسمبر أعلنت رضاها بأن تصير زوجة له، وكان ذلك في بيتها في بال مال قرب دكان الخياط الذي كانت والدتها منذ نحو ثلاثين سنة تجلس فيه تعمل بإبرتها عند صاحبه. وبموجب هذا الزواج أصبح ممكنا - بل محتملا كل الاحتمال - أن نرى أحد أعقاب الخياطة جالسا على العرش الذي لم يؤذن لإحدى بناتها في الدنو منه.
وقد كتما زواجهما ولم يبوحا بسره إلى أحد. ولكن تعلق الدوق بالكونتس ذاع وشاع، فاستوقف الأنظار وأصبح موضوع أحاديث القوم. ولم تكن ملاحظاتهم مقصورة على ما شاهدوه من ملازمة الدوق لها وعدم انفصاله عنها، بل لاحظوا أيضا أن القائمين على خدمتها يرتدون ملابس شبيهة بالرسمية، وأن حجاب الدوق نفسه يسيرون في خفارتها، ويوفونها من الاحترام ما هو حقيق بالأميرات. هذه الملاحظات وأشباهها وسعت مجال الارتياب والانتباه أمام الخواطر والأفكار، وأطلقت العنان للألسنة المولعة بالغيبة والنميمة، فتناولت الكونتس بما شاءت من التهم.
وكان الأمير لا يقل عن زوجته رغبة في كشف حجاب الخفاء عن زواجهما وطلب رفعها إلى المقام اللائق بزوجة أخي الملك، ولكنه رأى أنه لم يحن بعد وقت مفاوضة الملك في ذلك. وكان الملك قبل هذا قد بلغه أن أخاه دوق كمبرلند قد تزوج مسز هورتن الحسناء، وهي أرملة رجل من دربشير، فحمي غضبه حموا لا مزيد عليه، ودعا أخاه إليه وقال له: «أف لك أيها الأرعن الأحمق! بئس ما فعلت! إن تلك الأرملة التي تزوجتها لن يكون لها أقل صلة وانتساب بالأسرة الملكية. لن تكون شيئا يعتد به على الإطلاق.» - إذن ماذا أفعل؟ - اذهب عني. سر إلى حيث شئت وانتظر ريثما أتمكن من حل هذه المعضلة.
فرجع الدوق على عقبه إلى كاليه حيث كانت زوجته، وأخبرها بما لقيه من أخيه من الانتهار والامتهان.
ولما اتصل خبر هذه الحادثة بمسمع أخيه الأمير وليم زوج ماري، قال في نفسه: «إذا كان هذا مبلغ غيظه وغضبه على أخي فردريك وهو أكبر مني، فكم يكون مبلغهما علي أشد وأعظم؟» ثم إن الإسراع في قضاء هذا الأمر كان ضروريا جدا؛ لأن زوجته كانت مشرفة على الولادة، فإن لم يعترف بزواجه أنه شرعي قانوني عد الولد نغلا.
فلم ير بدا من أن يكتب إلى أخيه الملك ويخبره بأمر زواجه باللادي والدغرايف، ويطلب إليه أن يبعث إليها من قبله من يعنى بها في نفاسها اعترافا بأنها من أميرات الأسرة المالكة. فلما قرأ رسالته استشاط حنقا على أخيه، وعد زواجه شائنا معيبا. وبعدما سكن غيظه قضى ليله في الأرق والبكاء. وقال لواحد من رجاله: «إن قلبي يوشك أن يتفطر حزنا على حادثة أخي وليم؛ لأن محبتي له تفوق الوصف.» ولكنه لم يجبه عن كتابه.
وأخيرا هدده وليم برفع شكواه إلى مجلس الأعيان. فاضطر الملك أن يبعث لجنة مؤلفة من رئيس أساقفة كنتربوري وبعض الوزراء إلى بيت أخيه لينظروا في أمر زواجه، ويرفعوا إليه تقريرا عنه. فجاء في تقرير اللجنة أن الزواج بين الدوق والكونتس حصل حقيقة، ولكن التقرير لم يشر إلى هذا الزواج بكونه شرعيا. فبلغ اليأس من الدوق كل مبلغ؛ لأن ولادة الطفل كانت منتظرة ساعة بعد ساعة، فهرع قبيل نصف الليل إلى قصر رئيس الأساقفة، فوجده مع مطران لندن يستعدان للنوم، فشكا إليهما أمره وألح عليهما أن يذهبا على الفور إلى الملك ويقولا له إن كان عنده أقل شك في شرعية الزواج وصحته فأخوه مستعد أن يزيله. فقال له رئيس الأساقفة: «ليس في إمكاننا أن نذهب إليه في وقت كهذا.» فأجابه بعزم واهتمام: «لن يتاح لأحدكما أن يلقي رأسه على وسادته قبل ذهابكما إلى جلالته!» فذهبا مضطرين غير مختارين.
ولكن الملك أبى أن يجيب طلبهما، وأصر على وجوب إنكار الزواج الأول وعدم الاعتراف به ما لم يحتفل بزواجهما مرة ثانية. فرفض أخوه هذا الاقتراح رفضا مطلقا، واضطر الملك أن يعترف بالزواج، وكان ذلك قبيل ولادة الدوقة ابنا.
وبعدما أعلن الملك اعترافه بصحة اقترانهما زالت العقبات من سبيل ابنة ماري كليمنت، فأصبحت إحدى أميرات الأسرة المالكة، وبلغت غاية ما تمنته وعللت نفسها بالحصول عليه، وتسنى لها الوقوف في أعلى درجات العظمة والمجد، مرفوعة الرأس موفورة الكرامة وقاطعة ألسنة الوشاة والنمامين، وظلت بضع سنوات ناعمة في ظلال الصفاء والرخاء، تجر ذيول الغبطة والسعادة، وترشف كئوس المسرة مترعة.
ولكن الدهر الذي بسم لها مصافيا مواليا عاد فعبس وتجهم. فبعدما أخلص لها زوجها الحب والوفاء، مال عنها بعد سنوات إلى اللادي أليرا كربنتر، وكانت ذات حسن بارع وجمال رائع، فسبت لبه وأسرت قلبه. وبذلت الدوقة ماري جهدها في نصحه وإرجاعه عن غيه، فذهبت مساعيها أدراج الرياح. ولما أعيتها الحيل وتحققت أن زوجها انتزع قلبه منها ووهبه لغيرها، أبت البقاء معه وسعت في الانفصال عنه. وقضت بقية أيامها في عزلة وانفراد متفرغة لإغاثة الفقراء والمساكين بالرفق بهم والتصدق عليهم. ولما توفيت في 23 أغسطس سنة 1807 بعد وفاة زوجها بسنتين لم يكن الاحتفال الملكي الفخم بجنازتها عنوان إيفائها حقها من التجلة والتكريم، بل كانت كما قال ولموت دكسون: «الدموع الغزيرة التي ذرفتها عيون الفقراء البائسين - رجالا ونساء وأولادا - أولئك المتربين المدقعين، الذين طالما زارتهم في بيوتهم وتصدقت عليهم بما خفف وطأة بؤسهم وشقائهم، وحلى مرارة أحزانهم وأدوائهم. هؤلاء كلهم اصطفوا على جانبي الطريق إلى كنيسة سنت جورج في ونسور حيث دفنت الأميرة وهم يبكونها بدموع غزيرة وقلوب كسيرة.»
Bog aan la aqoon