٣ - وَبِهِ أنبا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، إِجَازَةً، إِنْ لَمْ يَكُنْ سَمَاعًا، أنبا عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أنبا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، أنبا أَبُو الْقَاسِمِ تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَذْلَمِ بْنِ لَبْطَةَ، ثنا يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ، وَأَبُو سُلَيْمَانَ بْنُ أَيُّوبَ، قَالا: ثنا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، ثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ أَبِي الْعِشْرِينَ، ثنا الأَوْزَاعِيُّ، ثنا حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّهُ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ ﵁، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اسْأَلِ اللَّهَ، اسْأَلِ اللَّهَ أَنْ يَجْمَعَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فِي سُوقِ الْجَنَّةِ، قَالَ سَعِيدٌ: وَفِيهَا سُوقٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَخْبَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلُوهَا فَنَزَلُوا فِيهَا بِفَضْلِ أَعْمَالِهِمْ، وَيُؤْذَنُ لَهُمْ فِي مِقْدَارِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، فَيَرَوْنَ اللَّهَ ﷿ فِيهِ، وَيَبْرُزُ لَهُمْ عَنْ عَرْشِهِ وَيَتَبَدَّى لَهُمْ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَيُوضَعُ لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ لُؤْلُؤٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ يَاقُوتٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ زَبَرْجَدٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ ذَهَبٍ، وَمَنَابِرُ مِنْ فِضَّةٍ، وَيَجْلِسُ أَدْنَاهُمْ وَمَا فِيهِمْ دَنِيٌّ عَلَى كُثْبَانِ الْمِسْكِ وَالْكَافُورِ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَرَاسِيِّ بِأَفْضَلَ مِنْهُمْ مَجْلِسًا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ نَرَى رَبَّنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، هَلْ تُمَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟ قُلْنَا: لا.
قَالَ: كَذَلِكَ لا تُمَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ، وَلا يَبْقَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَحَدٌ إِلا حَاضَرَهُ اللَّهُ مُحَاضَرَةً قَالَ هِشَامٌ: هُوَ الدُّنُوُّ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنْهُمْ: «يَا فُلانُ، تَذْكُرُ يَوْمَ عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا» .
يُذَكِّرُهُ بَعْضَ غَدَرَاتِهِ فِي الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: أَلَمْ تَغْفِرْ لِي؟ فَيَقُولُ: «بَلَى، بِسِعَةِ مَغْفِرَتِي بَلَغْتَ مَنْزِلَتَكَ هَذِهِ» .
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ غَشِيَتْهُمْ سَحَابَةٌ مِنْ فَوْقِهِمْ فَأَمْطَرَتْ عَلَيْهِمْ طِيبًا لَمْ يَجِدُوا مِثْلَ رِيحِهِ قَطُّ، قَالَ: ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ ﵎: «قُومُوا إِلَى مَا أَعْدَدْتُ لَكُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ فَخُذُوا مَا اشْتَهَيْتُمْ» .
قَالَ: فَيَأْتُونَ سُوقًا قَدْ حَفَّتْ بِهِ الْمَلائِكَةُ، فِيهِ مَا لَمْ تَنْظُرِ الْعُيُونُ إِلَى مِثْلِهِ، وَلَمْ تَسْمَعِ الآذَانُ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى الْقُلُوبِ، قَالَ: فَيَجْعَلُ لَنَا مَا اشْتَهَيْنَا، وَلَيْسَ يُبَاعُ فِيهِ وَلا يُشْتَرَى، وَفِي ذَلِكَ السُّوقِ يَلْقَى أَهْلُ الْجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قَالَ: فَيُقْبِلُ الرَّجُلُ ذُو الْمَنْزِلَةِ الْمُرْتَفِعَةِ فَيَلْقَاهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ، وَمَا فِيهِمْ دَنِيٌّ، فَيُرَوِّعُهُ مَا يَرَى عَلَيْهِ مِنَ اللِّبَاسِ، فَمَا يَبْقَى آخِرَ حَدِيثِهِ حَتَّى يُمَثَّلَ عَلَيْهِ أَحْسَنُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَحْزَنَ فِيهَا، قَالَ: ثُمَّ نَنْصَرِفُ إِلَى مَنَازِلِنَا فَيَلْقَانَا أَزْوَاجُنَا، فَيَقُلْنَ: مَرْحَبًا وَأَهْلا، لَقَدْ جِئْتَ، وَإِنَّ بِكَ مِنَ الْجَمَالِ وَالطِّيبِ أَفْضَلَ مِمَّا فَارَقْتَنَا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: إِنَّا جَالَسْنَا رَبَّنَا الْجَبَّارَ ﵎ وَبِحَقِّنَا أَنْ نَنْقَلِبَ بِمِثْلِ مَا انْقَلَبْنَا
وَأَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَسَاكِرَ بْنِ الْمُرَحِّبِ الْبَطَائِحِيُّ الْمُقْرِئُ، ثنا عَبْدُ الْقَادِرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْقَادِرِ، أنبا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أنبا ابْنُ الْقَطِيعِيِّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، ثنا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، ثنا أَبُو سَعِيدٍ يَعْنِي الْمُؤَدِّبَ، ثنا مَنْ سَمِعَ عَطَاءً الْخُرَاسَانِيَّ، قَالَ: لَقِيتُ وَهْبَ بْنُ مُنَبِّهٍ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقُلْتُ حَدِّثْنِي حَدِيثًا أَحْفَظْهُ عَنْكَ فِي مَقَامِي هَذَا وَأَوْجِزْ، قَالَ: نَعَمْ، أَوْحَى اللَّهُ تَبَارَكَ إِلَى دَاوُدَ النَّبِيِّ ﷺ: «يَا دَاوُدُ بْنَ إِيشَا، وَعِزَّتِي وَجَلالِي وَعَظَمَتِي لا يَعْتَصِمُ بِي عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي دُونَ خَلْقِي أَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نِيَّتِهِ فَتَكِيدُهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَالأَرْضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ إِلا جَعَلْتُ لَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ مَخْرَجًا، أَمَا وَعِزَّتِي وَعَظَمَتِي لا يَعْتَصِمُ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِمَخْلُوقٍ دُونِي أَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْ نِيَّتِهِ إِلا قَطَعْتُ أَسْبَابَ السَّمَاءِ مِنْ يَدِهِ وَأَسَخْتُ الأَرْضَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ ثُمَّ لا أُبَالِي بِأَيِّ وَادٍ هَلَكَ» .
وَبِهِ ثنا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ مَعْقِلِ بْنِ مُنَبِّهٍ، ثنا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ مَعْقِلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ، قَالَ: لَمَّا رَأَى مُوسَى ﷺ النَّارَ انْطَلَقَ يَسِيرُ حَتَّى وَقَفَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَإِذَا هُوَ بِنَارٍ عَظِيمَةٍ تَفُورُ مِنْ فَرْعِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ شَدِيدَةِ الْخُضْرَةِ، لا تَزْدَادُ النَّارُ فِيمَا يُرَى إِلا عِظَمًا، وَلا تَزْدَادُ الشَّجَرَةُ عَلَى الْحَرِيقِ إِلا خُضْرَةً وَحُسْنًا، فَوَقَفَ يَنْظُرُ لا يَدْرِي عَلَى مَا يَضَعُ أَمْرَهَا إِلا أَنَّهُ قَدْ ظَنَّ أَنَّهَا شَجَرَةٌ تَحْتَرِقُ، وَأَوْقَدَ إِلَيْهَا مَوْقِدٍ فَنَالَهَا، فَاحْتَرَقَتْ وَإِنَّهُ يَمْنَعُ النَّارَ شِدَّةُ خُضْرَتِهَا وَكَثْرَةُ أَفْنَانِهَا وَكَثَافَةُ وَرَقِهَا وَعِظَمُ جِذْعِهَا، فَوَضَعَ أَمْرَهَا عَلَى هَذَا، فَوَقَفَ وَهُوَ يَطْمَعُ أَنْ يَسْقُطَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَقْتَبِسُهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَهْوَى إِلَيْهَا بِضِغْثٍ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتَبِسَ مِنْ لَهَبِهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ مُوسَى مَالَتْ نَحْوَهُ كَأَنَّهَا تُرِيدُهُ، فَاسْتَأْخَرَ عَنْهَا وَهَابَ ثُمَّ عَادَ فَطَافَ بِهَا فَلَمْ تَزَلْ تُطْمِعُهُ وَيَطْمَعُ فِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ بِأَوْشَكَ مِنْ خُمُودِهَا، فَاشْتَدَّ عِنْدَ ذَلِكَ عَجَبُهُ، وَفَكَّرَ مُوسَى فِي أَمْرِهَا، وَقَالَ: هِيَ نَارٌ مُمْتَنِعَةٌ لا يُقْبَسُ مِنْهَا وَلَكِنَّهَا لَمْ تَتْضَرِّمْ فِي جَوْفِ شَجَرَةٍ وَلا تَحْرِقُهَا، ثُمَّ خُمُودُهَا عَلَى قَدْرِ عِظَمِهَا فِي أَوْشَكَ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مُوسَى، قَالَ: إِنَّ لِهَذِهِ النَّارِ لَشَأْنًا ثُمَّ وَضَعَ أَمْرَهَا عَلَى أَنَّهَا مَأْمُورَةٌ أَوْ مَصْنُوعَةٌ، وَلا يَدْرِي مَنْ أَمَرَهَا وَلا مَنْ صَنَعَهَا، وَلَا لِمَ صُنِعَتْ؟ فَوَقَفَ مُتَحَيِّرًا لا يَدْرِي أَيَرْجِعُ أَمْ يُقِيمُ، فَبَيْنَا هُوَ عَلَى ذَلِكَ إِذْ رَمَى طَرْفَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ يَنْظُرُ فَرْعَهَا فَإِذَا هُوَ أَشَدُّ مَا كَانَ خُضْرَةً، وَإِذَا الْخُضْرَةُ تُنَوِّرُ وَتُسْفِرُ وَتَبْيَاضُّ حَتَّى صَارَتْ نُورًا سَاطِعًا عَمُودًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ عَلَيْهِ مِثْلَ شُعَاعِ الشَّمْسِ، تَكِلُّ دُونَهُ الأَبْصَارُ كُلَّمَا نَظَرَ إِلَيْهِ يَكَادُ يَخْطَفُ بَصَرَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ اشْتَدَّ خَوْفُهُ وَحُزْنُهُ، فَرَدَّ يَدَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَلَصَقَ بِالأَرْضِ، وَسَمِعَ الْحِسَّ وَالْوَجَسَ إِلا أَنَّهُ سَمِعَ حِينَئِذٍ شَيْئًا لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ بِمِثْلِهِ عِظَمًا، فَلَمَّا بَلَغَ مُوسَى الْكَرْبُ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْهَوْلُ وَكَادَ أَنْ يَتَخَالَطَ فِي عَقْلِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ لِمَا يَسْمَعُ وَيَرَى، نُودِيَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقِيلَ: يَا مُوسَى، فَأَجَابَ سَرِيعًا، وَمَا يَدْرِي مَنْ دَعَاهُ، وَمَا كَانَ سُرْعَةُ إِجَابَتِهِ إِلا اسْتِئْنَاسًا بِالأَنَسِ، فَقَالَ: لَبَّيْكَ، مِرَارًا، إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَكَ، وَأُوجِسُ وَجَسَكَ، وَلا أَرَى مَكَانَكَ، فَقَالَ: أَنَا فَوْقَكَ وَمَعَكَ وَأَمَامَكَ وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْكَ، فَلَمَّا وَعَى هَذَا مُوسَى عَلِمَ أَنَّهُ لا يَنْبَغِي ذَلِكَ إِلا لِرَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، فَأَيْقَنَ، فَقَالَ: أَنْتَ كَذَلِكَ يَا إِلَهِي، وَكَلامَكَ أَسْمَعُ أَمْ رَسُولَكَ، قَالَ ﷿: بَلْ أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكَ، فَادْنُ مِنِّي، فَجَمَعَ مُوسَى يَدَيْهِ فِي الْعَصَى ثُمَّ تَحَامَلَ حَتَّى اسْتَقَلَّ قَائِمًا، فَرَعَدَتْ فَرَائِصُهُ حَتَّى اخْتَلَفَتْ وَاضْطَرَبَتْ رِجْلاهُ، وَانْقَطَعَ لِسَانُهُ، وَانْكَسَرَ قَلْبُهُ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ عَظْمٌ يَحْمِلُ آخَرَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ إِلا أَنَّ رُوحَ الْحَيَاةِ تَجْرِي فِيهِ، ثُمَّ زَحَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مَرْعُوبٌ حَتَّى صَارَ قَرِيبًا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّذِي نُودِيَ مِنْهَا، قَالَ لَهُ الرَّبُّ ﵎: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى؟ قَالَ: هِيَ عَصَايَ، قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهَا؟ وَلا أَحَدَ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْهُ، قَالَ مُوسَى ﵇: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى، وَكَانَ لِمُوسَى فِي الْعَصَى مَآرِبُ، كَانَتْ لَهَا شُعْبَتَانِ وَمِحْجَنٌ تَحْتَ الشُّعْبَتَيْنِ، قَالَ لَهُ الرَّبُّ ﵎: أَلْقِهَا يَا مُوسَى، فَظَنَّ مُوسَى أَنَّهُ يَقُولُ: ارْفُضْهَا؛ فَأَلْقَاهَا عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ، ثُمَّ جَاءَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ فَإِذَا بِأَعْظَمِ ثُعْبَانٍ نَظَرَ إِلَيْه النَّاظِرُونَ فَدَبَّ يَلْتَمِسُ كَأَنَّهُ يَبْتَغِي شَيْئًا يُرِيدُ أَخْذَهُ يَمُرُّ بِالصَّخْرَةِ مِثْلَ الْخَلِقَةِ مِنَ الإِبِلِ فَيَقْتَلِعُهَا وَيَطْعَنُ بِالنَّابِ مِنْ أَنْيَابِهِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الْعَظِيمَةِ فَيَجْتَثُّهَا، عَيْنَاهُ تُوقِدُ نَارًا، وَقَدْ عَادَ الْمِحْجَنُ عُرْفًا فِيهِ شَعْرٌ مِثْلُ النَّيَازِكِ، وَعَادَ الشُّعْبَتَانِ فَمَا مِثْلَ الْقُلَيْبِ الْوَاسِعِ، وَفِيهِ أَضْرَاسٌ وَأَنْيَابٌ لَهَا صَرِيفٌ، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مُوسَى وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ، فَذَهَبَ حَتَّى أَمْعَنَ وَرَأَى أَنَّهُ أَعْجَزَ الْحَيَّةَ، ثُمَّ ذَكَرَ رَبَّهُ، فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ ثُمَّ نُودِيَ: يَا مُوسَى، إِلَيَّ ارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ.
فَرَجَعَ وَهُوَ شَدِيدُ الْخَوْفِ، فَقَالَ: خُذْهَا بِيَمِينِكَ وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى.
وَعَلَى مُوسَى حِينَئِذٍ مَدْرَعَةٌ مِنْ صُوفٍ قَدْ خَلَّلَهَا بِخِلالٍ مِنْ عِيدَانٍ فَلَمَّا أَمَرَهُ بِأَخْذِهَا، ثَنَى طَرْفَ الْمَدْرَعَةَ عَلَى يَدِهِ، فَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ أَوَرَأَيْتَ يَا مُوسَى لَوْ أَذِنَ اللَّهُ لِمَا تُحَاذِرُ كَانَتِ الْمَدْرَعَةُ تُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا؟ قَالَ: لا، وَلَكِنِّي ضَعِيفٌ، وَمَنْ ضَعْفٍ خُلِقْتُ، فَكَشَفَ عَنْ يَدِهِ ثُمَّ وَضَعَهَا فِي الْحَيَّةِ حَتَّى سَمِعَ حِسَّ الأَضْرَاسِ وَالأَنْيَابِ، ثُمَّ قَبَضَ فَإِذَا هِيَ عَصَاهُ الَّتِي عَهِدَهَا، وَإِذَا يَدُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يَضَعُهَا إِذَا تَوَكَّأَ بَيْنَ الشُّعْبَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ اللَّهُ ﷿: ادْنُ فَلَمْ يَزَلْ يُدْنِيهِ حَتَّى أَسْنَدَ ظَهْرَهُ بِجِذْعِ الشَّجَرَةِ، فَاسْتَقَرَّ وَذَهَبَتْ عَنْهُ الرَّعْدَةُ، وَجَمَعَ يَدَيْهِ فِي الْعَصَى وَخَضَعَ بِرَأْسِهِ وَعُنُقِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ أَقَمْتُكَ الْيَوْمَ مَقَامًا لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ بَعْدَكَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَكَ، أَدْنَيْتُكَ وَقَرَّبْتُكَ حَتَّى سَمِعْتَ كَلامِي، وَكُنْتَ بِأَقْرَبِ الأَمْكِنَةِ مِنِّي، فَانْطَلِقْ بِرِسَالَتِي فَإِنَّكَ بِعَيْنِي وَسَمْعِي وَإِنَّ مَعَكَ يَدِي وَنَصْرِي، وَإِنِّي قَدْ أَلْبَسْتُكَ جَنَّةً مِنْ سُلْطَانِي، تَسْتَكْمِلُ بِهَا الْيَوْمَ فِي أَمْرِي فَأَنْتَ جُنْدِيٌّ عَظِيمٌ مِنْ جُنُودِي بَعَثْتُكَ إِلَى خَلْقٍ ضَعِيفٍ مِنْ خَلْقِي، بَطَرَ نِعْمَتِي وَأَمِنَ مَكْرِي، وَأَغْوَتْهُ الدُّنْيَا عَنِّي حَتَّى جَحَدَ حَقِّي، وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتِي، وَعَبَدَ دُونِي، وَزَعَمَ أَنَّهُ لا يَعْرِفُنِي، وَإِنِّي أُقْسِمُ بِعِزَّتِي لَوْلا الْعُذْرُ وَالْحُجَّةُ اللَّذَانِ وَضَعْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي لَبَطَشْتُ بِهِ بَطْشَةَ جَبَّارٍ تَغْضَبُ لِغَضَبِهِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَالْبِحَارُ، فَإِنْ أَمَرْتُ السَّمَاءَ حَصَبَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الأَرْضَ ابْتَلَعَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْجِبَالَ دَمَّرَتْهُ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْبِحَارَ غَرَّقَتْهُ، وَلَكِنَّهُ هَانَ عَلَيَّ وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِي، وَوَسِعَهُ حِلْمِي، وَاسْتَغْنَيْتُ بِمَا عِنْدِي، وَحَقَّ لِي، إِنِّي أَنَا الْغَنِيُّ لا غَنِيَّ غَيْرِي، فَبَلِّغْهُ رِسَالَتِي، وَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي وَتَوْحِيدِي وَإِخْلاصِ اسْمِي، وَذَكِّرْهُ بِآيَاتِي وَحَذِّرْهُ نِقْمَتِي وَبَأْسِي، وَأَخْبِرْهُ أَنَّهُ لا يَقُومُ شَيْءٌ لِغَضَبِي، وَقُلْ لَهُ فِي بَيْنِ ذَلِكَ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى، وَأَخْبِرْهُ أَنِّي إِلَى الْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ أَسْرَعُ مِنِّي إِلَى الْغَضَبِ وَالْعُقُوبَةِ، وَلا يَرُوعَنَّكَ مَا أَلْبَسْتُهُ مِنْ لِبَاسِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدَيَّ لَيْسَ يَطْرِفُ وَلا يَنْطِقُ وَلا يَتَنَفَّسُ إِلا بِإِذْنِي، قُلْ لَهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ فَإِنَّهُ قَدْ أَمْهَلَكَ أَرْبَعَ مِائَةِ سَنَةٍ، وَفِي كُلِّهَا أَنْتَ مُبَادِرٌ لِمُحَارَبَتِهِ، تَشَبَّهْ وَتَمَثَّلْ بِهِ، وَهُوَ يُمْطِرُ عَلَيْكَ السَّمَاءَ، وَيُنْبِتُ لَكَ الأَرْضَ، لَمْ تَسْقَمْ وَلَمْ تَهْرِمْ وَلَمْ تَفْتَقِرْ وَلَمْ تُغْلَبْ، وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُعَجِّلَ ذَلِكَ لَكَ أَوْ يَسْلُبَكَهُ فَعَلَ، وَلَكِنَّهُ ذُو أَنَاةٍ وَحِلْمٍ عَظِيمٍ، وَجَاهِدْ بِنَفْسِكَ وَأَخِيكَ وَأَنْتُمَا مُحْتَسِبَانِ بِجِهَادِهِ، فَإِنِّي لَوْ شِئْتُ أَنْ آتِيهِ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُ بِها لَفَعَلْتُ، وَلَكِنْ لِيَعْلَمَ هَذَا الْعَبْدُ الضَّعِيفُ الَّذِي قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ وَجُمُوعُهُ أَنَّ الْفِئَةَ الْقَلِيلَةَ وَلا قَلِيلَ مِنِّي تَغْلِبُ الْفِئَةَ الْكَثِيرَةَ بِإِذْنِي، وَلا يُعْجِبَنَّكُمَا زِينَتُهُ وَزِينَةُ الْمُتْرَفِينَ، وَإِنِّي لَوْ شِئْتُ أَنْ أُزَيِّنَكُمَا مِنَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ يَعْلَمُ فِرْعَوْنُ حِينَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا أَنَّ مَقْدِرَتَهُ تَعْجَزُ عَنْ مِثْلِ مَا أُوتِيتُمَا فَعَلْتُ، وَلَكِنِّي أَرْغَبُ بِكُمَا عَنْ ذَلِكَ وَأَزْوِيهِ عَنْكُمَا، وَكَذَلِكَ أَفْعَلُ بِأَوْلِيَائِي، وَقَدِيمًا خِرْتُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَإِنِّي لأَذُودُهُمْ عَنْ نَعِيمِهَا وَرَخَائِهَا كَمَا يَذُودُ الرَّاعِي الشَّفِيقُ إِبِلَهُ عَنْ مَرَاتِعِ الْهَلَكَةِ، وَإِنِّي لأُجَنِّبُهُمْ سَلْوَتَهَا وَعَيْشَهَا كَمَا يُجَنِّبُ الرَّاعِي الشَّفِيقُ إِبِلَهُ عَنْ مَبَارِكِ الْغُرَّةِ، وَمَا ذَلِكَ لِهَوَانِهِمْ عَلَيَّ وَلَكِنْ لِيَسْتَكْمِلُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ كَرَامَتِي سَالِمًا مَوْفُورًا لَمْ تُكَلِّمْهُ الدُّنْيَا وَلَمْ يُطْغِهِ الْهَوَى، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَمْ يَتَزَيَّنْ لِيَ الْعِبَادُ بِزِينَةٍ هِيَ أَبْلَغُ مِنَ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا زِينَةُ الْمُتَّقِينَ، عَلَيْهِمْ مِنْهَا لِبَاسٌ يُعْرَفُونَ بِهِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالْخُشُوعِ، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ آثَارِ السُّجُودِ، أُولَئِكَ أَوْلِيَاءُ حَقًّا، فَإِذَا لَقِيتَهُمْ فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَذَلِّلْ لَهُمْ قَلْبَكَ وَلِسَانَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا وَأَخَافَهُ فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَآذَانِي، وَعَرَّضَ نَفْسَهُ وَدَعَانِي إِلَيْهَا، وَأَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي، أَفَيَظُنُّ الَّذِي يُحَارِبُنِي بِأَنْ يَقُومَ لِي، أَوْ يَظُنُّ الَّذِي يُغَازِينِي أَنْ يُعْجِزَنِي، أَوْ يَظُنُّ الَّذِي يُبَارِزُنِي أَنْ يَسْبِقَنِي أَوْ يَفُوتَنِي، وَكَيْفَ وَأَنَا الثَّائِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، لا أَكِلُ نُصْرَتَهُمْ إِلَى غَيْرِي، قَالَ: فَأَقْبَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ فِي مَدِينَةٍ قَدْ جَعَلَ حَوْلَهَا الأُسْدَ فِي غَيْضَةٍ قَدْ غَرَسَهَا، فَالأُسْدُ فِيهَا مَعَ سَاسَتِهَا، إِذَا أَشْلَتْهَا عَلَى أَحَدٍ أُكِلَ، وَلِلْمَدِينَةِ أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ فِي الْغَيْضَةِ، فَأَقْبَلَ مُوسَى ﵇ مِنَ الطَّرِيقِ الأَعْظَمِ الَّذِي يَرَاهُ فِرْعَوْنُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ الأُسْدُ صَاحَتْ صِيَاحَ الثَّعَالِبِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ السَّاسَةُ، وَفَرَّقُوا مِنْ فِرْعَوْنَ، وَأَقْبَلَ مُوسَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى الْبَابِ الَّذِي فِيهِ فِرْعَوْنُ فَقَرَعَهُ بِعَصَاهُ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ صُوفٌ وَسَرَاوِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ الْبَوَّابُ عَجِبَ مِنْ جُرْأَتِهِ فَتَرَكَهُ وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَقَالَ: هَلْ تَدْرِي بَابَ مَنْ أَنْتَ تَضْرِبُ؟ إِنَّمَا تَضْرِبُ بَابَ سَيِّدِكَ.
قَالَ: أَنَا وَأَنْتَ وَفِرْعَوْنُ عَبِيدٌ لِرَبِّي ﵎ فَأَنَا نَاصِرُهُ، فَأَخْبَرَ الْبَوَّابَ الَّذِي يَلِيهِ وَالْبَوَّابِينَ حَتَّى بَلَغَ ذَلِكَ أَدْنَاهُمْ، وَدُونَهُ سَبْعِينَ حَاجِبًا، كُلُّ حَاجِبٍ مِنْهُمْ تَحْتَ يَدَيْهِ مِنَ الْجُنُودِ مَا شَاءَ اللَّهُ كَأَعْظَمِ أَمِيرٍ الْيَوْمَ إِمَارَةً حَتَّى خَلُصَ الْخَبَرُ إِلَى فِرْعَوْنَ، فَقَالَ: أَدْخِلُوهُ عَلَيَّ.
فَأُدْخِلَ فَلَمَّا أَتَاهُ، قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: أَعْرِفُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا؟ فَرَدَّ عَلَيْهِ مُوسَى الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ ﷿، قَالَ فِرْعَوْنُ: خُذُوهُ فَبَادَأَهُمْ مُوسَى فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، فَحَمَلَتْ عَلَى النَّاسِ فَانْهَزَمُوا فَمَاتَ مِنْهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا، قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَقَامَ فِرْعَوْنُ مُنْهَزِمًا حَتَّى دَخَلَ، فَقَالَ لِمُوسَى: اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ أَجَلًا نَنْظُرُ فِيهِ.
فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَمْ أُؤْمَرْ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا أُمِرْتُ بِمُنَاجَزَتِكَ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَخْرُجْ إِلَيَّ دَخَلْتُ إِلَيْكَ.
فَأَوْحَى اللَّهُ ﷿ إِلَى مُوسَى أَنِ اجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَجَلًا وَقُلْ لَهُ: أَنْ يَجْعَلَ هُوَ الأَجَلَ، ثُمَّ قَالَ فِرْعَوْنُ: اجْعَلْهُ إِلَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَفَعَلَ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ لا يَأْتِي الْخَلاءَ إِلا فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَرَّةً، فَاخْتَلَفَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَرْبَعِينَ مَرَّةً، قَالَ: وَخَرَجَ مُوسَى ﵇ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا مَرَّ بِالأُسْدِ مَصَعَتْ بِأَذْنَابِهَا وَسَارَتْ مَعَ مُوسَى تُشَيِّعُهُ، وَلا تُهَيِّجُهُ وَلا أَحَدًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
1 / 4