واذكروا أن العالم لم يسلك طريق هذه الآداب وله ندحة عن سلوكها، ولم يلجأ إليها وفي وسعه الاستغناء عنها؛ لأن الطبيعة لا تملك الخيار بين طريقين، وليس لها إلا طريق واحدة هي أهدى الطرق وأقربها، بل هي الطريق التي لا طريق سواها. فإن قال لكم أنصار الشر: نحن ننظر إلى الواقع. فقولوا لهم: هذا هو الواقع أمامكم، فما لكم لا تنظرون!
ولقد خصصت الإنسان بأكثر كلامي، فلا يعتب علي عاتب ولا يتهمني منكم متهم، فإنكم لا تنكرون أن الإنسان سيد المخلوقات، وأن الصراع بين القوة والحق لا يظهر في حياة جنس من الأجناس ظهوره في الحياة الإنسانية، وأنا أقرب الخلق إليه وأعرفهم به وأعلاهم رتبة بعده ...
فلم يمهله النمر حتى يتم كلامه ورفع يده ليهوي بها عليه، فتعلق القرد بأطراف الشجر، وترك النمر الهائج يهدر ويزمجر، حتى وقف الأسد، فهابه النمر، وأصغى إليه الجمع وهم يعجبون من قوة النمر الشرس الأغم عجبهم من عجز القرد الفيلسوف عن دفعه.
وقف الأسد موقف الخطيب، وألقى على الجمع الخطبة التالية ...
خطاب الأسد
معشر الأحياء:
ربما انتظر بعضكم مني أن أتقدم إلى الترجيح بين حزب وحزب من المتكلمين بين أيديكم؛ ألا فاعلموا أن هذا ليس من شأني، وما نويت التعرض له حين وقفت للكلام، وليس كلامي الذي سألقيه عليكم متوقفا على رجحان واحد من الحزبين على الآخر، فسواء صح قول الثعلب إن العبرة بالنجح لا بكيفيته، أو صح قول القرد إن الحق ظافر بالباطل ولو بعد انهزامه، فأول الواجبات عندي على الحي أن يكون قويا، وآخر الواجبات عندي على الحي أن يكون قويا؛ لأنه لا ظفر لحق أو لباطل إلا بقوة.
وهما حالتان لا بد للحي من إحداهما في هذه الدنيا: القوة والضعف. ولئن خيرت بينهما لأختارن أن أكون قويا ظالما، ولا ضعيفا مظلوما، بل إني لأوثر أن أكون قويا مظلوما ولا ضعيفا ظالما؛ لأن القوة رائعة في انخذالها، والضعف مخز حتى في انتصاره.
ولقد أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن الطبيعة نفسها تحب الظلم وتقلد الظالمين آلاته وأسلحته، ولولا ذلك لما كانت حيوانات الفتك والافتراس وإن صغرت، أشد وأجرأ من آكلات العشب وإن كبرت، وهاكم إخوتنا الفيل والزرافة والجمل، فإنها مع جسامة أبدانها وصلابة أركانها لا بطش عندها تفزع به أعداءها، ولا أنفة لها تنخيها عن إعطاء مقادتها لأصغر طفل من بني آدم. ولم ذاك؟ أليس لأنها تتغذى بالنبات ولا تأكل من لحوم الحيوانات؟ فكأن الطبيعة تهب الحيوان البطش والشجاعة لغرض واحد هو الاعتداء بهما، فإن لم تكن به حاجة إلى السطو وإزهاق الأرواح سلخت عنه البطش وجردته من الشجاعة، فإن بقي له بعدهما قوة فتلك قوة الصبر على البلاء لا قوة العزم على الاعتداء، قوة تحتمل الضيم من القاهرين، ولكنها لا تقدر على قهر أحد.
فيا معشر الأحياء، عليكم بالقوة لا تنيطوا لكم أملا بغيرها. عليكم بقوة الاتحاد إن تخطتكم القوة في الانفراد، وعليكم بقوة الحيلة إن أعيتكم قوة الاتحاد. إنما كونوا في كل حال أقوياء من عقاب الضعف المبرم، ولست أغلق على الضعفاء باب الأمل فيما بين الأقوياء الطامعين من فرجات الخلاف التي لا تنسد أبدا، ولكني أقول لهم أولا وآخرا: كونوا أقوياء، ثم كونوا أقوياء، يكن أملكم بأيديكم لا بأيدي الأعداء والأصدقاء.
Bog aan la aqoon