مقدمة المؤلف بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد الله سبحانه بمحامده التي يستحقها، واختصاص نبيه محمد وآله الطاهرين بالصلوات التي هم أهلها، فإني عرفت ما شافهتني به من استحسانك الخبيئة (1) التي أطلعتها، والدفينة (2) التي أثرتها من كتابي الموسوم (3) ب (تلخيص البيان عن مجازات القرآن)، وأنى سلكت من ذلك محجة (4) لم تسلك، وطرقت بابا لم يطرق، وما رغبت إلى فيه من سلوك مثل تلك الطريقة في عمل كتاب يشتمل على مجازات الآثار الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ كان فيها كثير من الاستعارات البديعة، ولمع (5) البيان الغريبة، وأسرار اللغة اللطيفة، يعظم النفع باستنباط معادنها، واستخراج
Bogga 9
كوامنها، واطلاعها من أكمتها (1) وأكنانها، وتجريدها من خللها (2) وأجفانها، فيكون هذان الكتابان بإذن الله لمعتين (3) يستضاء بهما وعرنينين (4) لم أسبق إلى قرع بابهما، فأجبتك إلى ذلك مستخيرا الله سبحانه فيه على كثرة الاشغال القاطعة، والعوائق المانعة، والأوقات الضيقة، والهموم المخنقة، وعملت بتوفيق الله على تتبع ما في كلامه صلى الله عليه وعلى آله من ذلك، والإشارة منه إلى مواضع النكت ومواقع الغرض بالاعتبارات الوجيزة والايماءات الخفيفة على طريقتي في كتاب " مجازات القرآن " لئلا يطول الكتاب، فيجفو (5) على الناظر، ويشق على الناقل، فإن القلوب في هذا الزمان ضعيفة عن تحمل أعباء العلوم الثقيلة، والاجراء في مسافات الفضائل الطويلة،
Bogga 10
لأنه لم يبق من الفضل إلا الذماء (1)، ومن الفضلاء إلا الأسماء.
ولله الحمد على السراء والضراء، والبؤس والنعماء. ولست شاكا في أن ما يفوتني من الجنس الذي أقصده أكثر من الحاصل لي والواقع إلى، ولكنني اقتصر؟؟ على ما تناله في هذا الوقت يدي، ويقرب من تصفحي وتأملي، وإذا ورد بمشيئة الله من هذه الآثار ما فيه موضع مجاز قد تقدم الكلام على نظير له أو ما يقوم مقامه، اقتصرت على القول الأول، طلبا للاقتصاد، ووقوفا دون الابعاد، على مثل الأصل المقرر في كتاب " مجازات القرآن ". ولولا أن أبا على محمد بن عبد الوهاب قد سبق إلى تفسير متشابه الاخبار التي ظاهرها التشبيه والتجسيم (2)، وصريحها التجويز والتظليم (3)، واستقصى هذا المعنى في كتابه الموسوم بشرح الحديث. وتعاطى ذلك جماعة غيره من علماء أهل العدل (4) في مواضع من كتبهم، لتتبعت هذا الفن جميعا تتبعا يكشف الشبه، ويوضح المشتبه، على طريقتي في
Bogga 11
كتابي الكبير الموسوم (بحقائق التأويل في متشابه التنزيل) إلا أنني بعون الله أورد من ذلك من ما كان داخلا في باب الاستعارات اللغوية بكلية، أو بسعة كثيرة من سعته (1)، والذي أعتمد عليه في استخراج ما يتضمن الغرض الذي أنحو نحوه، وأقصد قصده، كتب غريب الحديث المعروفة، وأخبار المغازي المشهورة، ومسانيد (2) المحدثين الصحيحة، مضيفا إلى ذلك ما يليق بهذا المعنى من جملة كلامه عليه الصلاة والسلام، الموجز الذي لم يسبق إلى لفظه، ولم يفترع من قبله، وجميع ذلك مما أتقنا بعضه رواية، وحصلنا بعضه إجازة (3)، وخرجنا بعضه تصفحا وقراءة، مستمدين في ذلك، وفي سائر الأنحاء والمرامي والمطالب والمغازي، توفيق الله سبحانه، الذي يهون الشديد ويقرب البعيد، ويذلل الصعب إذا أبى، ويقوم المعوج إذا التوى.
وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلنا وإليه ننيب.
Bogga 12
1 - فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " هذه مكة قد رمتكم بأفلاذ كبدها "، وفي رواية أخرى: " قد ألقت إليكم بأفلاذ كبدها "، وهذه من أنصع العبارات وأوقع الاستعارات.
وقال ذلك عليه الصلاة والسلام عند خروجه إلى بدر للقتال، وقد خرج قريش (2) من مكة مجلبة (34) عليه ومحلبة إليه (4)، وكان المسلمون قد ظفروا ببعض فراطهم (5)، فأتوا به النبي عليه الصلاة والسلام، فسأله عمن خرج في ذلك الجمع من علية (6) قريش، فقال فلان وفلان، وعدد قادتهم وذادتهم (7)، والوجوه والسادات منهم، فقال عليه
Bogga 13
الصلاة والسلام: هذه مكة قد رمتكم بأفلاذ كبدها.
ولهذا الكلام معنيان:
(أحدهما) أن يكون المراد به أن هؤلاء المعدودين صميم قريش ومحضها ولبابها وسرها، كما يقول القائل منهم: فلان قلب في بنى فلان إذا كان من صرحائهم، وفي النضار من أحسابهم، فيجوز أن يكون المراد بالكبد ها هنا كالمراد بالقلب هناك لتقارب الشيئين (1) وشرف العضوين، فيكنى باسم كل واحد منهما عن العلق (2) الكريم واللباب الصميم. والأفلاذ: القطع المتفرقة عن الشئ، وقل ما يستعمل ذلك إلا في الكبد خاصة. قال الشاعر:
تكفيه فلذة كبدان ألم بها * من الشواء ويروي شربه الغمر (3) (والمعنى الآخر) أن يكون المراد بذلك أعيان القوم ورؤساؤهم والعرانين (4) المتقدمة منهم، فكأنه عليه الصلاة والسلام أقام مكة
Bogga 14
مقام الحشا التي تجمع هذه الأعضاء الشريفة كالقلب والنياط (1)، والكبد والفؤاد (2)، وجعل رجال قريش كشعب الكبد التي تحنو عليها الأضالع، وتشتمل عليها الجوانح، وقاية لها، ورفرفة عليها.
2 - ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام وقد نظر إلى أحد منصرفه (3) من غزاة خيبر: " هذا جبل يحبنا ونحبه "، وهذا القول محمول على المجاز، لان الجبل على الحقيقة لا يصح أن يحب ولا يحب، إذ محبة الانسان لغيره إنما هي كناية عن إرادة النفع له، أو التعظيم المختص به على ما بيناه في عدة مواضع من كتابينا المشهورين في علوم القرآن (4)، وكلا الامرين لا يصح على الجماد: لا التعظيم المختص به، ولا النفع العائد عليه، فمستحيل أن يعظم، أو يعظم، أو ينفع،
Bogga 15
أو ينتفع به، فالمراد إذا أن أحدا جبل يحبنا أهله، ونحب أهله، وأهله هم أهل المدينة من الأنصار، أو سهم وخزرجهم، وغير خاف جهم النبي عليه الصلاة والسلام وحبه لهم، وتعظيمهم له وإعظامه لقدرهم. ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام في كلام طويل:
ولو سلك الأنصار شعبا، وسلك الناس شعبا، لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، إلى غير ذلك من الكلام الذي يطول بذكره الكتاب، وينقض قاعدتنا في الاختصار.
ومثل هذا الحديث ما روى عنه عليه الصلاة والسلام في حديث آخر قال: " نهران مؤمنان، ونهران كافران. أما المؤمنان: فالنيل والفرات. وأما الكافران: فدجلة، ونهر بلخ ". والأولى أن يكون تأويل هذا الخبر إن كان صحيحا كتأويل الخبر المتقدم، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: أهل هذين النهرين مؤمنون، وأهل هذين النهرين كافرون، وتكون هاتان الصفتان جاريتين على هذه الأنهار في وقت مخصوص، أو على الأغلب من الأحوال في زمان معلوم، لان من أهل هذين النهرين المؤمن والكافر، كما أن من أهل ذينك النهرين البر والفاجر. وقد قيل في ذلك قول آخر لست أرتضيه، وهو أن يكون إنما جعل النيل والفرات مؤمنين على التشبيه والتمثيل لكثرة انتفاع الناس بسقياهما كالانتفاع بالمؤمنين، وجعل دجلة ونهر بلخ كافرين، لقلة الانتفاع بهما كقلة الانتفاع بالكافرين.
Bogga 16
والقول الأول أخلق بالصواب، وأشبه بالمراد.
3 - ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم " (1)، فقوله عليه الصلاة والسلام: وهم يد على من سواهم استعارة ومجاز. ولذلك وجهان:
(أحدهما) أن يكون شبه المسلمين في التضافر، والتوازر (2)، والاجتماع، والترافد (3) باليد الواحدة التي لا يخالف بعضها بعضا في البسط، والقبض، والرفع، والخفض، والابرام، والنقض. وقد يسمى أنصار الرجل وأعوانه يدا على طريق الاتساع، تشبيها لهم باليد التي ينتصر بها ويدافع بقوتها. قال الراجز:
أعطى فأعطاني يدا ودارا * وباحة خولها عقارا (4)
Bogga 17
يقول: بوأني دارا، وأحف بي أعوانا، وأنصارا.
(والوجه الآخر) أن يكون اليد هاهنا بمعنى القوة فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: وهم قوة على من سواهم، والقوة أحد المعاني التي يعبر عنها باسم اليد، وقد استقصيت ذلك في كتابي الكبير الموسوم " بحقائق التأويل "، وذكرت أن قول القائل: لا أفعل ذلك يد الدهر، معناه عندي لا أفعل ذلك قوة الدهر، أي ما دام الدهر قوى الأركان قائم البنيان. فأما الحديث الآخر عنه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله: " عليكم بالجماعة فإن يد الله على الفسطاط ". فليس المراد باليد فيه كالمراد باليد في الحديث الأول، بل المراد باليد ها هنا حفظ الله ورعايته كما يقول القائل: مالي في يد فلان. إذا أراد أنه حافظ له وأمينه عليه. والفسطاط هاهنا البلد، ومنه سمى فسطاط مصر، فكأنه عليه الصلاة والسلام، أمرهم بلزوم الجماعة في الأمصار ونهاهم عن الانشعاب والافتراق. ولم يرد أن الخارج من المصر خارج عن قبضة الله ومملكته، لكنه خارج عن حفظه ورعايته. وإنما أمرهم بلزوم الأمصار لأنها في الأكثر مواضع الجماعة، وإلا فالامر على الحقيقة إنما هو بلزوم الجماعة ولو كان أهلها في أكناف الفيافي ومطارح البوادي (1).
Bogga 18
4 - ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الخيل: " ظهورها حرز وبطونها كنز " وهذا القول خارج على طريق المجاز لان بطون الخيل على الحقيقة ليست بكنز. وإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن أصحابها ينتجونها من الأفلاء (1) ما تنمى به أموالهم، وتحسن معه أحوالهم، فهم باستيداع بطونها نطف الفحولة (2) كمن كنز كنزا إذا أراده وجده، وإذا لجأ إليه دعم (3) ظهره كما يكون الكانز عند الرجوع إلى كنزه، والتعويل على ما تحت يده. وقوله عليه الصلاة والسلام، وظهورها حرز أوضح من أن نوضحه. والمراد أنها منجاة من المعاطب، وملجأة عند المهارب (4).
Bogga 19
5 - ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " في الجنين غرة:
عبد أو أمة " (1) وفي هذا الكلام مجاز، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما جعل العبد، أو الأمة غرة (2) لأنهما أفضل ما يملكه المالك، وأفخره، وأطهره. وأشهره. ولذلك سمى أيضا في لسانهم الفرس غرة لأنه من أنفس ما يملك. ولمثل هذا المعنى أيضا ما سموا الخيل جبهة. وفي الحديث المشهور: ليس في الجبهة، ولا في النخة، ولا في الكسعة صدقة. والنخة الرقيق، ومن قال النخة بالضم قال هي البقر العوامل، والكسعة الحمير. وهذا أشهر الأقوال في معنى هذا الحديث قال ابن أحمر:
إن نحن إلا أناس أهل سائمة * وما لهم دونها حرث ولا غرر أي ليس لهم زرع يعتمد، ولا خيل تقتعد. وقال الآخر:
كل قتيل في كليب غرة * حتى ينال القتل آل مره يقول: كل قتيل نقتله بكليب من غير آل مرة عبد لا نقتله بواء (3)، ولا نرضى به كفاء، وكأن فحوى الكلام، أن العبد والأمة والفرس من أظهر الأسماء المملوكة وأدلها على وفارة الثروة،
Bogga 20
وفخامة النعمة. لان غيرها من الاعراض (1) في الأكثر لا يشتهر اشتهارها، ولا ينتشر انتشارها.
6 - ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا أراد الله بعبد خيرا عسله. قيل له يا رسول الله: وما عسله؟ قال: يفتح له بين يدي موته عملا صالحا يرضى حتى يرضى عنه من حوله " (2). وفي هذا الكلام مجازان:
(أحدهما) قوله عليه الصلاة والسلام عسله، وهو مأخوذ من العسل كما يقول القائل: عسلت الطعام إذا جعل فيه عسلا، وسمنته إذا جعل فيه سمنا، وزيته إذا جعل فيه زيتا. ومعنى عسله: أي جعل عمله حلوا يحمده الصالحون ويرضاه المتقون، فيكون كالشئ المعسول الذي يسوغ في اللهوات (3)، ويلذ على المذاقات.
Bogga 21
(والمجاز الآخر) قوله عليه الصلاة والسلام: بين يدي موته.
ولا يد للموت على الحقيقة. ولكنها كناية عن الشئ الواقع أمام الشئ المتوقع. وقد تكلمنا على هذا المعنى في كتاب مجازات القرآن عند قوله سبحانه في البقرة: " فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها ". وعند قوله تعالى في سبأ: " إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ". وذلك كما تقول: لمن يسأل عن أحد بالعشيرة وهو سالك طريق، وسائل عن رفيق: ها هوذا بين يديك، أي قد تقدمك، ولا يقال ذلك إلا فيما إذا كنت وراءه، وهو أمامك، لا فيما كنت أمامه وهو وراءك. وكل ذلك إنما يراد به في الأكثر تقريب الشئ من الانسان حتى كأنه لفاف يده (1) وقراب (2) تناوله: كما تقول: هذا الشئ أخذ يدي، أي ممكن لها، وقريب من تناولها.
Bogga 22
7 - ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: " ويل لاقماع القول ويل للمصرين " (1). وفي هذا الكلام مجاز واستعارة، لأنه عليه الصلاة والسلام، عنى به الذين يكثرون استماع الأقوال واختلاف الكلام. فيكون ذلك ثالما (2) في دينهم، وقادحا في يقينهم، فشبه عليه الصلاة والسلام آذانهم بالأقماع التي يفرغ فيها ضروب القول إفراغ المائعات. وهذه من أحسن العبارات عن هذا المعنى، لان الآذان هي الطرق التي يوصل منها إلى الصدور، والأنقاب (3) التي يدخل منها على القلوب، فهي أبواب موصلة، وطرق مبلغة. وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على تأويل غير مشبه لفحوى اللفظ، لأنه قال المراد بذلك الذين تتكرر المواعظ على أسماعهم، وهم مع ذلك مصرون على المعاصي، وموضعون (4) في طرق المغاوى. وهذا القول، وإن كان سائغا، فإن الأشبه بظاهرها الكلام أن يكون على ما قدمت القول فيه من ذم من يجعل سمعه
Bogga 23
مساغا للأقوال المختلفة، والانباء المتضادة (1) ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: المصرين، تماما لهذا المعنى المراد، ومبالغة في وصف هؤلاء بالمذمومين بكثرة استماع الأقوال، فيكون ذلك من قولهم:
أصر الفرس أذنيه إذا نصبهما للتوجس، لأنه يقال: أصر أذنيه، وصر بأذنيه (2). وهذا التأويل لم أعلم أحدا سبقني إليه.
8 - ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام حين أتاه الفضل
Bogga 24
ابن العباس وابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب يسألانه عن أبويهما السقاية (1) فتواكلا الكلام (2)، فقال عليه الصلاة والسلام:
" أخرجا ما تصران " (3). وفي هذا القول استعارة لأنه عليه السلام أراد أظهرا ما تكتمان في قلوبكما وصرحا بما تلجلج به ألسنتكما، فجعل القلب بمنزلة الوعاء والكتمان بمنزلة الوكاء (4)، والامر المكتوم بمنزلة الشئ الموعى (5). وكل شئ جمعته فقد صررته، ومنه قيل للأسير مصرور إذا جمعت يداه بالغل (6) وقدماه بالحجل.
Bogga 25
9 - ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية عند كلام جرى في شأن قريش: " فإن اتبعونا اتبعنا منهم عنق يقطعها الله "، وفي هذا القول استعارة، لأنه عليه الصلاة والسلام شبه من تبعه منهم في المتلاحق والامتداد والجد والاجتهاد بالعنق الواحدة التي لا تختلف أجزاؤها، ولا تتباين أعضاؤها، فهو أشد لقوتها، وأوهن لصدمتها. وعلى هذا المعنى قول الشاعر، وأنشدناه شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنى النحوي رحمه الله في حال القراءة عليه:
أبلغ أمير المؤمنين * أخا العراق إذا أتيتا أن العراق وأهله * عنق إليك فهيت هيتا (1) ولقول الشاعر: عنق إليك معنيان:
(أحدهما) أن يكون على الوجه الذي ذكرناه أولا من تشبيه الطالبين له، والقاصدين إليه، بالعنق في التلاحق إلى فنائه، والتسرع إلى لقائه.
(والمعنى الآخر) أن يكون أراد: أهل العراق على توقع لوروده وتشوق إلى طلوعه، فهم كالعنق الممتدة نحوه، وذلك على المتعارف
Bogga 26
بيننا من قول القائل منا إذا أراد أن يعبر عن انتظاره لوارد أو توقعه لطالع أن يقول: عنقي ممتدة إلى ورود فلان. كما يقول: عيني ممدودة إلى طلوع فلان. وقول الشاعر في البيت الثاني " فهيت هيتا " يشهد بأن مراده الوجه الأخير من الوجهين لان في هذا القول حثالة على التعجل ، وإزعاجا إلى التسرع. فأما قول الله سبحانه وتعالى: " فظلت أعناقهم لها خاضعين ". فقد فسر أيضا على وجهين أوردناهما في مواضع من كلامنا في تأويل القرآن.
(فأحد الوجهين) أن يكون سبحانه ذكر الأعناق، ثم رد الذكر على أصحاب الأعناق لان خضوع الأعناق هو خضوع أصحابها لما لم يكن خضوعهم إلا بها.
(والوجه الآخر) أن يكون أراد الجماعات، لأنه قد تسمى الجماعة عنقا على الوجه الذي قدمنا ذكره. يقول القائل: جاءني عنق من الناس، أي جماعة فيكون خاضعين صفة للجماعات، والمعنى في ذلك ظاهر غير محتاج إلى التأويل. وقد يجوز أن يكون الأعناق هاهنا كناية عن السادات والمتقدمين من القوم. يقال هؤلاء أعناق القوم: أي ساداتهم. كما يقال هؤلاء رؤوسهم وعرانينهم.
ذكر ذلك صاحب العين (1) في كتابه. وقال لي أبو حفص
Bogga 27
عمر بن إبراهيم الكناني صاحب ابن مجاهد، وقد قرأت عليه القرآن بروايات كثيرة: سمعت أبا بكر بن سفيان النحوي صاحب المبرد يقول: أولى الوجوه بتأويل هذه الآية أن يكون خاضعين مردودا على الضمير في أعناقهم فكأنه تعالى قال: فظلوا هم لها خاضعين. ويبعد أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر: عنق يقطعها الله، على أنه أراد به الجماعة لان قوله يقطعها الله بالعنق المعروفة التي هي العضو المخصوص أشبه، وفي موضع الكلام أحسن، وإنما جاء بالعنق هاهنا على طريق الاستعارة تشبيها للقوم الذين ذكر اتباعهم له بالعنق في الاحتشاد لطلبه والامتداد للحاق به (1).
10 - ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في كتاب من كتبه (2): " هذا كتاب من محمد رسول الله لعمائر كلب وأحلافها ومن ظأره (3) الاسلام من غيرها ". وفي هذا الكلام استعارة،
Bogga 28