اللغة العربية
لا يتمالك المرء أن يزفر زفرة الثكلى ويتنفس الصعداء كلما أعاد النظر والتأمل في آفات الفترة التي أصابت هذه اللغة الكريمة، وأوشكت أن تذهب ببهجة لهجتها، ورونق فصاحتها ولولا إثارة من علم وصلت إلينا مما بقي في أيدينا من كتب حفاظها المتقدمين لأصحابنا اليوم لا نميز بين الثلة والتلة ولا بين الكوع والبوع فشكرًا لأولئك العلماء الأعلام الذين كأنهم نظروا بلحظ الغيب إلى ما صرنا إليه من التكاسل والتغافل وقلة العناية والقيام بضبط هذا اللسان القرأني فاستودعوه لنا بطون الكتب وجعلوا له منها صوانًا يحفظه من الضياع ريثما ينبهنا حادث الدهر المأدب فنصحوا ونستفيق ونهب إلى نقله من السطور إلى الصدور، ومن الأسفار الجادة والدواوين الصامتة إلى الأفكار النيرة، والألسنة الناطقة وما ذلك على رجال الهمم السامية ببعيد وها نحن قد دبت في قلوبنا روح هذا الإحساس الكريم ونفذت إلى أفئدتنا حياة الشعور بهذا الواجب المحتوم الذي يفرضه علينا الدين الإسلامي والكمال الإنساني، فقام بحول الكتبة وحملة اليراع يعملون على تلافي هذا النقص الذي هو في القادرين أشد منه قبحًا في القاصرين.
كما قال أبو الطيب:
ولم أر في عيوب الناس شيئًا ... كنقص القادرين على التمام
ولعمل الحق أن من تصفح كتابة نوابغ العصر لا يسعه إلا الاعتراف بحسن صنيعه وبيض أياديهم في خدمة هذه اللغة وتمهيد السبيل لقصديها بعدما كادت تعفو آثارها، وتنتمس صواها ومنارها ولقد قضينا ردحًا من عنفوان شبابنا عاكفين على دراسة الإنشاء العربي القديم ومتباعدين عن الكتابة العصرية، تباعد السليم عن الأجرب تحاميًا من أن يعلق في أذهاننا شيء من الآثار السيئة التي تنشأ من فرط التكلف وكثرة التعسف ورغبة في الوقوف على أسرار لغة التنزيل العزيز وتعرف أسلوبها الأصلي البديل بحسن ديباجته ورونقه كي نتبين كيف كانت هذه اللغة المجيدة في عهد العرب العرباء.
قبل أن تتعاورها أيدي المذوقين والمبهجين من عشاق الجناس والبديع وكيف كانت تجري بسلاستها وعذوبتها على أسلات الألسنة أولئك الأقحاح اللذين كانوا يجيدون النطق بها وهم لم يضربوا زيدًا ولا عمرًا، ولا صرفوا نصر ينصر نصرًا، وما أشوق النفس المشرأبة إلى تفهم تلك العربية، وما فصح من لغاتها وملح من بلاغاتها، مما كان يسمع من الإعراب في
3 / 5