Majalis Ramadan - Ahmed Fareed
مجالس رمضان - أحمد فريد
Noocyada
مجالس رمضان_التزكية عند أهل السنة
لقد اعتنى الشرع المطهر بتزكية الأنفس وتطهيرها من أدرانها، وجعل فلاح العبد وفوزه منوطًا بتزكية النفس، وما ذلك إلا لما للتزكية من المكانة العظيمة عند الله ﷿، فعلى المؤمن أن يبذل وسعه في تزكية نفسه وتطهيرها.
1 / 1
أهمية تزكية النفوس وبيان مناهجها
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
ثم أما بعد: فإن من المهمات التي بعث بها النبي الكريم ﷺ تزكية نفوس العباد، كما قال ﷿: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة:٢]، وكان النبي ﷺ يسأل الله ﷿ هذه الزكاة لنفسه فيقول: (اللهم آت نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).
كما تمنن الله ﷿ على المؤمنين بهذه الزكاة فقال ﷿: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور:٢١]، فالله ﷿ يتفضل على من يشاء بالتزكية.
وقد أقسم الله ﷿ في كتابه أحد عشر قسمًا متواليًا -وليس في القرآن كله أقسام متوالية بهذا العدد وعلى هذا النسق- على حقيقة: وهي أن فلاح العباد ونجاحهم منوط بتزكية نفوسهم، وأن خيبتهم وخسارتهم منوطة بتدسية نفوسهم، فقال ﷿: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس:١ - ١٠].
فهذه الأقسام المتوالية على أن فلاح العباد منوط بتزكية نفوسهم.
فقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) * (وقد خاب من دساها) فما معنى التزكية وما معنى التدسية؟ التزكية: هي التنمية والإصلاح.
يقولون: زكا الزرع إذا نما وصلح وبلغ كماله.
فتزكية النفس: هي تنميتها وتعليتها وتنقيتها وإصلاحها بتوحيد الله ﷿ وطاعته؛ لأن النفس تزكو بذلك وتعظم وتطهر.
أما التدسية: فهي التحقير والتصغير، فالنفس تصير حقيرة دنيئة لا تكاد ترى من حقارتها ودناءتها، كما قال ﷿: ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ [النحل:٥٩]؛ أي: يخفيه في التراب.
فالنفس تنمو وتصلح بطاعة الله ﷿، وتصغر وتصير حقيرة دنيئة بمعصية الله ﷿! فالعباد يجهلون مواقع السعادة ولا يعلمون أن سعادتهم في صلاح نفوسهم وتزكيتها، والله ﷿ قال: ﴿وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:٧٢].
والجاهل لا يدري مصلحته، فينبغي أن يجبر على ما فيه صلاحه.
قال عبد الله بن المبارك ﵀: إن الصالحين فيما مضى كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوًا، وإن أنفسنا لا تكاد تواتينا، فينبغي علينا أن نكرهها.
فالنفوس الجاهلة لا تعلم أن مصلحتها وسعادتها في طاعة الله ﷿، وفي الاستجابة لأمر الله ﷿ وأمر رسوله ﷺ، ولكن إذا أجبر العبد نفسه على الطاعة وعلى العبادة وعلى الاستقامة على طريق الله ﷿، فعند ذلك تذوق النفس حلاوة الطاعة والعبادة، وبعد ذلك تساعد النفس صاحبها وتأتي معه على طاعة الله ﷿.
وقال بعض السلف: عالجت قيام الليل سنة وتمتعت به عشرين سنة.
أي: ثقل على نفسه قيام الليل وعالج قيام الليل.
ومنهم من يفتح عليه في الدعوة إلى الله ﷿، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الناس الخير.
ومنهم من يفتح له في قضاء حوائج الناس، وتحقيق مآربهم.
ومنهم من يفتح له في الجهاد والبذل لإعلاء دين الله ﷿ ورفع رايته.
وهناك من يوفق لكل هذه الأبواب، فإذا نظرت في الحجاج وجدته وسطهم، وإذا نظرت في المجاهدين وجدته بينهم، وإذا نظرت في العلماء وجدته في صفهم، فلو قيل له: ماذا تريد يقول: طاعة ربي جمعتني أو فرقتني، فهو السابق بالخير والمسارع إلى كل سبيل يرضي ربه ﷿.
فهذه مناهج التزكية عند أهل السنة والجماعة: التزكية بالتوحيد، التزكية بأداء الفرائض، التزكية بالإكثار من النوافل.
1 / 2
الغاية من تزكية النفس عند أهل السنة
أما غاية التزكية عند أهل السنة: فهي تحقيق كمال العبودية لله ﷿، والوصول إلى أعلى مراتب الذل والحب لله ﷿؛ لأن العبودية هي كمال الحب مع تمام الذل، والله ﷿ وصف أكابر الخلق بالعبودية، فوصف نبيه ﷺ بالعبودية في أشرف مقاماته، مقام الإسراء، ومقام التحدي، ومقام الدعوة إلى الله ﷿، فقال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى﴾ [الإسراء:١].
وقال: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن:١٩].
وقال: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ [البقرة:٢٣]، ولذلك لما ذكر الإمام الطحاوي ﵀ تشريفات النبي ﷺ ابتدأ بالتشريف الأول وهو العبودية، قال: وإن محمدًا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، وإنه خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء، فقبل أن يذكر بأنه إمام الأنبياء وسيد المرسلين ذكر أنه عبد الله ﷿ المصطفى.
فالعبودية لله ﷿ تشريف وتكريم، كما قال عياض: ومما زادني شرفًا وتيهًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فالذي يتكبر عن العبودية لله ﷿ لا بد أن يقع في عبودية غير الله ﷿ من المخلوقات الخسيسة، فيعبد الشجر أو الحجر أو الشمس أو القمر أو البقر، بل من الناس من وقع في عبادة الشيطان الرجيم.
فكل من يتكبر عن العبودية لله ﷿ لا بد أن يقع في العبودية لغير الله، ومهما تحرر العبد من العبادة لغير الله تكمل عبوديته لله ﷿، ولذلك فإن وظيفة الرسل وأتباع الرسل تعبيد الناس لله ﷿، وتحرير الناس من العبادة الباطلة للآلهة الباطلة التي لا تستحق العبادة، وجعلهم عبيدًا حقيقيين لله ﷿، كما قال ربعي بن عامر: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
فوظيفة الرسل وأتباع الرسل أن يحرروا الناس من عبادة غير الله ويعبدوهم لله ﷿، ويشرفوهم بأن يجعلوهم عبيدًا حقيقيين لله ﷿.
نسأل الله تعالى أن يشرفنا بالعبودية له ﷿، وأن يرفعنا بالقيام والصيام.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
1 / 3
مجالس رمضان_الصيام مدرسة التقوى
الصيام عبادة تفضل الله بها على عباده؛ لما فيها من المنافع والفوائد، فالصائم يغفر الله له ذنوبه بصومه، ويكون صومه شافعًا له يوم القيامة، كما أن الصوم يعود الصائم على الصبر والجلد ومراقبة الله ﷿، والإحسان في القول والعمل.
2 / 1
آثار الصيام في زياد تقوى الصائم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرر أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وما قل وكفى خير مما كثر وألهى: ﴿إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [الأنعام:١٣٤].
الصيام عباد الله! مدرسة التقوى، قال الله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٨٣].
والترجي في كلام الله ﷿ أو كلام رسوله ﷺ على القطع، كما قال ابن عباس: عسى من الله واجب.
على عادة الملوك إذا أرادوا أن يقولوا: نحن سنفتح هذا البلد، يقولون: نرجو أن نفتح هذا البلد، ونرجو أن ننتصر على هذا الجيش، فلما يقطعون به يأتون به على صيغة الترجي، كما قال الله ﷿: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف:٢٠٤]، فأنتم ترحمون قطعًا إذا استمعتم إلى كلام الله ﷿، كذلك من صام حق الصيام كما أمر الله ﷿ لا بد أن يصل إلى درجة التقوى.
والتقوى هي: علم القلب بقرب الرب.
والتقوى هي: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإن الله ﷿ يراك.
والتقوى كذلك عباد الله: ألا يراك الله حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك.
فالصيام يوصل إلى تقوى الله ﷿؛ لأنه يتكون من نية باطنة لا يطلع عليها أحد إلا الله ﷿، وترك لشهوات يستخفى بتناولها عادة، فلا نستطيع أن نجزم في شخص بأنه صائم؛ لأنه قد يخلو ولو للحظات فينتهك حرمة الصيام، فهو إنما يترك الطعام والشراب والشهوة لأنه يحس بأن الله ﷿ يراه، وبأن الله ﷿ مطلع على قلبه، وعلى سر أمره وعلانيته، فالصيام يدرب العبد على مراقبة الله ﷿، وهذه المراقبة هي التقوى المقصودة، والدرة المفقودة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٨٣].
وقد شرف الله ﷿ هذه العبادة بإضافتها إلى نفسه الشريفة ﷿ فقال تعالى في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به).
فأضاف الله ﷿ كل أعمال ابن آدم إلى نفس ابن آدم، وشرف عبادة الصيام بأن أضافها إلى نفسه الشريفة فقال: (إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به).
فلما كان الصيام سرًا بين العبد وربه تكفل الله ﷿ بتحديد أجر الصيام، فليس له تسعيرة محددة: (فكل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشرة أمثالها).
فكل عمل من الأعمال له ثواب محدد، أما الصيام فالله تعالى يتكفل بتحديد أجره.
والصيام من الصبر وقد قال الله ﷿: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر:١٠].
فالصيام عبادة ترقى بالعبد إلى درجة المراقبة وإلى درجة التقوى، كما أن الصائم يلتزم بأخلاق معينة هي أخلاق المتقين وأخلاق المحسنين، فلا يسفه على السفيه بمثل سفهه، ولا يجهل على الجاهل بمثل جهله.
قال النبي ﷺ: (فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث).
ولا يتكلم كلامًا فاحشًا: (ولا يصخب) أي: لا يرفع صوته بغير حاجة أو ضرورة: (وإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني صائم، إني صائم).
أي: يدفعه على أن يواجه السيئة بالسيئة أنه صائم، فينبغي عليه أن يلتزم بأخلاق الصائمين، وأخلاق المحسنين، فيدفع بالحسنة السيئة، فيقول: (إني صائم إني صائم).
2 / 2
ما ينتظره الصائم يوم القيامة من الأجر
فالصيام عباد الله! قد يكون صيامًا عن الطعام والشراب والشهوات، فمن كان صيامه عن الطعام، والشراب والشهوة، فله في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب وحور عين، كما قال ﷿: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الحاقة:٢٤].
قال مجاهد وغيره: نزلت في الصائمين.
ومن الناس من يصوم عما سوى الله ﷿، فيحفظ الرأس وما وعى، ويحفظ البطن وما حوى، ويذكر الموت والبلى.
ومن صام في الدنيا عن شهواته، أدركها غدًا بعد وفاته، ومن تعجل ما حرم عليه من لذاته، عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، أنت في دار شتات فتأهب لشتاتك، واجعل الدنيا كيوم صمته عن شهواتك، واجعل الفطر عند الله يوم وفاتك.
أهل الصيام! أهل الخصوص من الصوام صومهم صون اللسان عن البهتان والكذب والعارفون وأهل الأنس صومهم صون القلوب عن الأغيار والحجب.
فينبغي للمسلم عباد الله! إذا نوى الصيام أن ينوي ترك كل الذنوب والمعاصي، وأن يصوم سمعه وبصره وجوارحه، كما قال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.
ولما كان الصيام سرًا بين العبد وبين ربه يشتهر أهل الصيام يوم القيامة برائحة أفواههم، كما قال النبي ﷺ: (والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك).
فكل عبادة ينشأ عنها أثر مكروه عند العباد تكون محبوبة عند الله ﷿، فخلوف فم الصائم -أي: الرائحة التي تنبعث من المعدة الخالية من الطعام- أطيب عند الله من ريح المسك.
والشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه ينزف دمًا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
وقال النبي ﷺ: (الصيام جنة) أي: وقاية، فهو وقاية لصاحبه من النار؛ لأن النار حفت بالشهوات، والصيام يكسر الشهوات المحرمة، وقد قال النبي ﷺ: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
فالصيام يكسر الشهوات، ويطوع النفس لرب الأرض والسموات؛ ولذلك ورد في فضل الصيام قوله ﷺ: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربي! منعته الطعام والشراب والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه.
فيشفعان).
وقال النبي ﷺ: (إن في الجنة باب يقال له: الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون).
ولم يقل: للجنة ولكن قال: في الجنة، إشارة إلى أن في هذا الباب من الراحة ومن النعيم ومن البهجة والسرور مما في الجنة، فقال: (إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، لا يدخل منه إلا الصائمون).
قال النبي ﷺ: (من صام يومًا في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض).
وهذا المقصود به: صيام النافلة، فإذا كان يوم صيام في النافلة يباعد الله ﷿ بهذا اليوم بين العبد وبين النار سبعين خريفًا، فكيف بصوم الفريضة الذي هو أفضل وأقرب إلى الله ﷿.
وسأل رجل النبي ﷺ كما روى النسائي عن أبي أمامة عن عمل يتقرب به إلى الله ﷿ فقال: (عليك بالصيام، فإنه لا عدل له أو لا مثل له)، فدله على الصيام.
فالصيام عباد الله! من أحب العبادات إلى الله ﷿؛ لأن الله ﷿ يحب من العباد أن يعاملوه سرًا، فالصيام سر بين العبد وبين ربه لا يطلع عليه أحد إلا الله ﷿؛ ولذلك كان من أحب العبادات إلى الله ﷿، فينبغي علينا أن نصون الصيام، فمن صان صيامه وجد أجر صيامه عند الله ﷿.
فنسأل الله تعالى أن يتقبل منا الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، وأن ينفعنا بأعمالنا الصالحة، وأن يتجاوز عن الزلات والسيئات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
2 / 3
مجالس رمضان_العبودية وظيفة العمر
خلق الله البشر لعبادته سبحانه، وأمرهم بالقيام بهذه الوظيفة، فلا تكون العبودية إلا لله وحده، وقد فهم الصحابة ومن سار على هديهم حقيقة هذه الوظيفة، فذاقوا السعادة ووجدوا الطمأنينة والراحة ونعيم الدنيا والآخرة.
3 / 1
فهم وظيفة العبودية والقيام بها
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن الله لم يخلق خلقه عبثًا، ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم، عرض هذا الأمر على السماوات والأرض والجبال فأبين وأشفقن منه وجلًا، وقلن: ربنا إن أمرتنا فسمعًا وطاعة، وإن خيرتنا فعافيتك نريد لا نبغي بها بدلًا، وحمله الإنسان على ضعفه وعجزه عن حمله، وباء به بظلمه وجهله، فألقى أكثر الناس الحمل عن ظهورهم لشدة مئونته عليهم وثقله، وصحبوا الدنيا صحبة الأنعام السائمة، لا يتفكرون في معرفة موجدهم وحقه عليهم، ولا يتفكرون في سرعة رحيلهم من هذه الدنيا الفانية، وانتقالهم إلى الآخرة الباقية، فقد ملكهم باعث الحس، وغاب عنهم داعي العقل، وشملتهم الغفلة، وغرتهم الأماني الباطلة، والخدع الكاذبة، فخدعهم طول الأمل، وران على قلوبهم سوء العمل، فهم في شهوات الدنيا ولذات النفوس كيف حصلت حصلوها، ومن أي وجه لاحت أخذوها، إذا بدا لهم حظ من الدنيا بآخرتهم طاروا إليه زرافات ووحدانًا، ولم يؤثروا عليه فضلًا من الله ولا رضوانًا، نسوا الله فنسيهم أولئك هم الفاسقون، يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
خلقنا الله ﷿ لوظيفة، فمن اهتدى لمعرفة هذه الوظيفة وقام بها حق القيام أفلح وأنجح، وسعد في الدنيا والآخرة، ومن تغابى عن معرفة هذه الوظيفة أو عرف الوظيفة ولم يقم بها حق القيام خاب وخسر في الدنيا والآخرة، فما هي هذه الوظيفة التي خلقنا الله ﷿ من أجلها، حتى لا نكون يوم القيام من المغبونين، أو من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؟ فالله ﷿ بين لنا هذه الوظيفة في كتابه، فقال ﷿: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، فالله تعالى خلق العباد من أجل عبادته ﷿ وحده، وأرسل الرسل من أجل أن يعبِّدوا الناس له ﷿، ومن أجل أن ينبهوا الناس إلى القيام بالوظيفة التي خلقهم الله ﷿ من أجلها، فقال ﷿: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:٢٥].
وقال ﷿: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف:٤٥]، فالله تعالى أرسل الرسل من أجل أن يعبِّدوا الناس له ﷿، ومن أجل أن يعرف الناس الوظيفة التي خلقهم الله ﷿ من أجلها.
وقد فهم ربعي بن عامر ﵁ أحد تلامذة النبي ﷺ هذه الوظيفة، فلما دخل على رستم قال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
3 / 2
وجوب إخلاص العبودية لله وحده
إن وظيفة الرسل، ووظيفة أتباع الرسل وهي تعبيد الناس لله ﷿، فنحن جميعًا عبيد لله ﷿، والعبد لا يجوز له أن يعمل ويؤدي إلى غير سيده، بل يجب عليه أن يعمل ويؤدي إلى سيده، فلا يجوز لنا أن نعمل عملًا لا نرجو به وجه الله، فينبغي أن تكون كل الأقوال وكل الأعمال وكل الأحوال لله ﷿، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام:١٦٢ - ١٦٣]، فنحن وأموالنا وأوقاتنا وزوجاتنا وأولادنا ملك لله ﷿، فلا يجوز لنا أن نعمل عملًا لغير الله، بل ينبغي أن يكون لله ﷿.
كثير من الناس يظن أن العبد لو كان كل عمله لله ﷿ فإنه لا يجد سعادة وراحة وحياة طيبة، وهذا من جهلهم بدين الله ﷿، ومن جهلهم بما تسعد به النفوس، فهم يظنون أنهم لا يمكن أن يسعدوا حتى ينسلخوا من الشرع المتين، وحتى يتبعوا الشياطين، لكن القلوب التي خلقها الله ﷿ بين تعالى أنها لا تسعد إلا به، ولا تطمئن إلا بذكره، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨]، فالله ﷿ كما خلق العين للإبصار والأذن للسماع واللسان للتحدث والذوق، خلق القلب لمعرفة الله ﷿ وتوحيده، فمهما تعلق بغير الله فمآله إلى التعاسة والشقاء، كما قال النبي ﷺ: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)، فالقلب لا يسعد إلا بالله ﷿، ففي القلب فقر وحاجة واضطرار إلى الله ﷿، فإذا تعلق بالله، وعُبِّد له سعد بذلك في الدنيا والآخرة، وإذا عُبِّد لغير الله فالتعاسة والشقاء في الدنيا والآخرة.
3 / 3
سعادة الصالحين وأخبارهم في عبوديتهم لله
مهما أكمل العبد عبوديته لله ﷿ سعد في الدنيا والآخرة، ومهما نقصت عبوديته نقصت سعادته، ولذلك يخبرنا الصالحون كيف وجدوا السعادة التي ما ذقنا شيئًا منها لضعف إيماننا ويقيننا وقلة توحيدنا، فقال بعضهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف.
وقال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.
وقال بعضهم: ما بقي من لذات الدنيا إلا ثلاث: قيام الليل، ولقاء الإخوان، وصلاة الجماعة.
وقال بعضهم: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة كالذي نحن فيه والله إنهم لفي عيش طيب.
وقال بعضهم: والله! إنه لتمر بي أوقات يرقص فيها القلب طربًا.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ كان يقول: ما يفعل بي أعدائي، أنا جنتي معي، وبستاني في صدري، إن سجني خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وتعذيبي جهاد في سبيل الله.
ولما سجن في القلعة نظر من خلف الباب وقال: ﴿فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ﴾ [الحديد:١٣].
وكان يقول: لو أملك ملء القلعة ذهبًا ما استطعت أن أكافئهم على ما قدموه لي من الخير.
وكان يقول: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.
وكان يكثر أن يقول في سجوده وهو مسجون: اللهم! أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
يصفه تلميذه المحقق ابن القيم فيقول: كنا إذا ضاقت بنا الأمور، واشتدت بنا الأحوال نلقاه، فما أن نراه وننظر إليه إلا ذهب كل ذلك عنا، وانقلب انشراحًا وفرحًا، ولقد كان من أطيب الناس عيشًا مع ما كان فيه من شدة العيش وخلاف الرفاهية، كانت نضرة النعيم تلوح على وجهه.
فالحمد لله الذي فتح لعباده بابًا إلى جنته، فأتاهم من ريحها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها، وهم ما يزالون في دار العمل، فـ شيخ الإسلام تجاوز الستين سنة وما وجد حياة الاستقرار حتى يتزوج؛ لأنه كان من سجن إلى سجن، ومن معركة إلى معركة، ومن مناظرة إلى مناظرة، وما سعى يومًا لأن يتزوج زوجة حسناء، أو يملك سرية حوراء، ولا دارًا قوراء، ولا سعى خلف دينار ولا درهم.
فالذي يحقق العبودية لله ﷿، وتكتمل عبوديته له تكتمل سعادته في الدنيا والآخرة، بل يسعد به من رآه.
وكان أيوب السختياني سيد شباب أهل البصرة من التابعين، كان إذا دخل السوق ورآه أهل السوق سبحوا وهللوا وكبروا، لما يرون على وجهه من أنوار العبادة، فمن أقبل على الله ﷿ أقبل الله ﷿ عليه، ومن أقبل الله ﷿ عليه أضاءت ساحاته واستنارت جوارحه.
والعجب كل العجب من غفلة من لحظاته معدودة عليه، وكل نفس من أنفاسه إذا ذهب لم يرجع إليه، فمطايا الليل والنهار تسير به ولا يتفكر إلى أين يحمل، ويسار به أعظم من سير البريد، ولا يدري إلى أي الدارين ينقل، حتى إذا نزل به الموت اشتد قلقه لخراب ذاته وذهاب لذاته، لا لما سبق من تفريطه حيث لم يقدم لحياته، فإذا خطرت له خطرة عارضة لما خلق له، دفعها باعتماده على العفو، وقال: قد أنبئنا بأنه هو الغفور الرحيم، وكأنه لم ينبأ بأن عذابه هو العذاب الأليم.
ولما علم الموفقون لما خلقوا له، وما أريد بإيجادهم رفعوا رءوسهم، فإذا علم الجنة قد رفع لهم فشمروا إليه، وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه، ورأوا من بعض الغبن بيع ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، في أبد لا يزول ولا ينفد بصبابة عيش، إنما هو كأضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام، مشوب بالنغص، ممزوج بالغصص، إن أضحك قليلًا أبكى كثيرًا، وإن سر يومًا أحزن شهورًا.
آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف مسراته، فيا عجبًا من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطان ضيقة آخرها الخراب والبوار، وأبكارًا عربًا أترابًا كأنهن الياقوت والمرجان بخبيثات قذرات سيئات الأخلاق مسافحات أو متخذات أخدان، وحورًا مقصورات في الخيام بخبيثات سيبات بين الأنام، وأنهارًا من خمر لذة للشاربين بشراب نجس مذهب للعقل، مفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم، بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم، وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان، والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والزبرجد يوم المزيد بالجلوس في مجالس الفسوق مع كل جبار عنيد.
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة، وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة، إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدًا وسيق المجرمون إلى جهنم وردًا، ونادى المنادي على رءوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد، فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة ما أعد الله لهم من الإكرام، وادخر لهم من الفضل والإنعام، لعل
3 / 4
مجالس رمضان_دعاء تفريج الهم
إن سعادة القلوب لا تكون إلا بتوحيد الله ﷿، والتسليم بقضاء الله وقدره، فإذا أصاب عبدًا هم أو غم أو حزن لجأ إلى الله ﷿ داعيًا متوسلًا بأسمائه، عاكفًا على قراءة القرآن، فكما أن القرآن ربيع القلوب، كذلك هو جلاء الأحزان وذهاب الغموم والهموم.
4 / 1
كيفية علاج القلب من الهم والغم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فقوله ﷺ: (ما أصاب عبدًا قط هم ولا غم ولا حزن فقال: اللهم! إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحًا).
هذا الحديث النبوي الشريف يبين لنا كيف تعالج القلوب من الهم أو الغم أو الحزن، فالقلوب خلقت لمعرفة علام الغيوب وغفار الذنوب ﷿؛ فهي لا تسعد إلا بتوحيد الله ﷿؛ لأنها خلقت لمعرفة الله وتوحيده، وكما أن السماوات والأرض لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فكذلك قلوب العباد لو كان فيها آلهة إلا الله ﷿ لفسدت بذلك فسادًا لا يرجى له صلاح، حتى توحد ربها وتعرفه ﷿.
قال النبي ﷺ: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).
فالقلوب إذا علقت بغير الله ﷿، وعبدت غيره شقي أصحابها في الدنيا والآخرة.
والقلوب لا تصل إلى مناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون صحيحة سليمة، فهي لا تسعد إلا بالله ﷿، ولا تطمئن إلا بذكره وعبادته، كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:٢٨].
فلما خلقت لتوحيد الله ﷿ صار علاجها كذلك إذا أصابها شيء من الهم أو الغم أو الحزن.
والهم: ما يصيب القلب عند انتظار مكروه في المستقبل.
والغم: ما يصيب القلب عند المصيبة الحاضرة.
والحزن: هو الأثر الباقي في القلب نتيجة لمصيبة ماضية.
فإذا أصيبت القلوب بشيء من الهم أو الغم أو الحزن فعلاجها مركب من أمرين: الأمر الأول: هو توحيد الله ﷿.
والأمر الثاني: هو التسليم بقضاء الله ﷿ وقدره، والتسليم لشرع الله ﷿، فيقول ﷺ: (ما أصاب عبدًا قط هم ولا غم ولا حزن، فقال: اللهم! إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك)، فعلاج القلوب في التوحيد، وأن يقف العبد ذليلًا عند باب ربه العزيز، ويقول بأنه عبد وليس عبدًا ابن سيد، ولكن العبودية متأصلة فيه، فهو عبد وابن عبد وابن أمة: (اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك).
قوله: (ناصيتي بيدك) إقرار لله ﷿ بالربوبية، فالله ﷿ قهر جميع الخلق وأذل جميع الخلق: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود:٥٦]، فالله تعالى يملك نواصي العباد وقاهر لكل العباد، ومذل لكل العباد كما يملك قلوب العباد، ولو شاء الله ﷿ لأعطى كل نفس تقواها.
قوله: (ماض فيَّ حكمك) تسليم للشرع المتين.
قوله: (عدل فيَّ قضاؤك)، تسليم للقضاء والقدر.
4 / 2
أسماء الله الحسنى ومشروعية التوسل بها
قوله: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) توسل مشروع بأسماء الله ﷿، والأسماء الحسنى الله ﷿ هو الذي سمى بها نفسه لكماله سبحانه، وقد عاب الله تعالى الآلهة الباطلة؛ لأنها احتاجت إلى من يسميها، فقال: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ [النجم:٢٣]، فاحتياج المخلوق إلى من يسميه نوع من الفقر، والله ﷿ هو الغني ومن سوى الله ﷿ فقير إليه، فالله تعالى هو الذي سمى نفسه بهذه الأسماء الحسنى واختارها لنفسه.
قوله: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك)، أو: تفصيل بعد إجمال، فالله ﷿ سمى نفسه بكل الأسماء الحسنى، فأنزل بعضها في بعض كتبه، وعلم بعضها بعض خلقه، واستأثر الله ﷿ بعلم بعضها، وهذا موافق لما يجب اعتقاده من أن الله ﷿ لا يحاط به علمًا.
فنحن لا نعلم كل أسماء الله الحسنى؛ وذلك لعظمته وكماله وجلاله، كما أن الله ﷿ يُرى في الآخرة ولا يُدرك، كما قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة:٢٢ - ٢٣]، ولكن الإدراك فوق الرؤية كما قال الله ﷿ حاكيًا عن موسى وقومه: ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء:٦١ - ٦٢]، فلما حصلت الرؤية وتراءى الجمعان ﴿قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء:٦١ - ٦٢]؛ لأن الله ﷿ وعده بأن يجعل له هو وهارون سلطانًا فلا يصلون إليهما، فهو يثق بوعد الله ويثق بنصره ﷿، فقال: ﴿كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الشعراء:٦٢].
ولما سئل الحبر البحر ابن عباس عن قول الله ﷿: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة:٢٢ - ٢٣]، وقوله تعالى: ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ﴾ [الأنعام:١٠٣]، فقال للسائل: سوف أضرب لك مثلًا من خلقه، قال: أترى السماء؟ قال: نعم، قال: أفتدركها، قال: لا، قال: الله أعظم وأجل.
فالسماء خلق من خلق الله ﷿، ننظر إليها فنرى شيئًا من الكواكب غير الشمس والقمر، ولكن الإنسان ينظر إلى السماء ولا يحيط بها علمًا فيعلم كل ما في السماء من أجرام وكواكب وشموس وأقمار وغير ذلك، فإذا كان خلق من خلق الله لا نستطيع أن ندركه، فكيف بالخالق الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وعلا فوق كل شيء ﷾.
فالله ﷿ له أسماء غير هذه الأسماء التي أشار إليها في الحديث الثابت في الصحيحين: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة) فالله ﷿ له أسماء غير التسعة والتسعين، وهذا كما قال شيخ الإسلام شبيه بقول النبي ﷺ: (إن في الجنة مائة درجها أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض)، فمن بين درجات الجنة التي لا نعلم عددها مائة درجة أعدها الله ﷿ للمجاهدين في سبيله، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض.
كذلك من جملة الأسماء التي لا يعلم عددها ووصفها إلا الله ﷿ تسعة وتسعين اسمًا موجودة في الكتاب والسنة الصحيحة، من أحصاها قيل: حفظها، وقيل: أثنى على الله ﷿ بها، وقيل: عمل بمقتضاها، فإذا قال: الرزاق وثق بالرزق، وإذا قال: التواب وثق بالتوبة وهكذا.
4 / 3
بيان تأثير القرآن في القلوب
قوله: (أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا) الربيع: هو المطر، وحال القرآن مع القلوب كحال المطر مع الأرض، فالقرآن واحد ولكن القلوب تختلف، كما أن المطر ينزل واحدًا ولكن الأرض تختلف، فهناك أرض طيبة تقبل الماء وتهتز وتربو وتنبت الكلأ والعشب والخيرات الكثيرة والثمار اليانعة، وهناك أرض تمسك الماء فينتفع الناس، وهناك أرض سبخة لا تمسك الماء ولا تنبت كلًا ولا عشبًا.
كذلك القلوب تختلف، فهناك قلوب طيبة عندما تسمع القرآن تثمر الثمار الطيبة والأعمال الصالحة، وهناك قلوب تعي وتحفظ القرآن، وتبلغه فينتفع الناس، وهناك قلوب لا تنتفع في نفسها ولا تنفع غيرها.
قال: (وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحًا).
فمن قال هذه الكلمات الطيبات من كلمات النبي عليه الصلوات أذهب الله عنه همه وغمه.
فينبغي له أن يلجأ إلى هذه الأفكار الطيبة التي تعالج القلوب، وذلك بتجديد التوحيد والتسليم للشرع المجيد، فإنه سيجد بركة كلام النبي ﷺ في علاج كثير من الأمراض النفسية كالاكتئاب وغيره وسيغنيه عن كثير من العقاقير أو العلاجات التي لا تزيد إلا همًا وغمًا وحزنا، فالإنسان ينبغي له أن يعالج قلبه بالعلاجات القرآنية، وبالأحاديث النبوية؛ لأن القلوب لا تصلح إلا بذلك، فنسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يغفر ذنوبنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
4 / 4
مجالس رمضان_شهر الاستغفار
من فضل الله ﷿ على عباده أن شرع لهم الاستغفار من ذنوبهم في كل وقت، وفي الأوقات الفاضلة لا سيما شهر رمضان، وقد حث الله على الاستغفار في كتابه، وجعل أسبابًا للمغفرة، وشرع آدابًا يتحلى بها المؤمن حال استغفاره ودعائه.
5 / 1
فضل الاستغفار وبيان أفضله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: هذا الشهر الكريم ليس شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن والدعاء فحسب، ولكنه كذلك شهر طلب المغفرة من الله ﷿، قال النبي ﷺ: (رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ ولم يغفر له)، فقد كثرت في هذا الشهر الكريم أسباب المغفرة، كما قال النبي ﷺ: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)، وقال ﷺ: (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)، والمغفرة: هي ستر الذنوب مع محو عقوبتها.
أي: أن الله ﷿ يستر على العبد فلا يفضحه في الدنيا، ولا في عرصات القيامة، ويمحو عنه عقوبة هذه الذنوب.
وقد أكثر الله ﷿ من ذكر الاستغفار في كتابه، فتارة يمدح أهله، كما قال في وصف المحسنين: ﴿وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾ [آل عمران:١٧]، وتارة يأمر به: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة:١٩٩]، وتارة يخبر الله ﷿ أنه يغفر لمن استغفره، فقال ﷿: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء:١١٠].
وحكم الاستغفار كحكم الدعاء، فهو سبب مقتضٍ للإجابة إذا توفرت الشرائط وانتفت الموانع، فكذلك الله ﷿ يغفر لمن استغفره إذا توفرت شرائط المغفرة وانتفت الموانع.
أفضل الاستغفار ما بدئ بحمد الله ﷿ وتمجيده، واعتراف العبد بذنوبه، كما قال النبي ﷺ: (سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
فهذا كان سيد الاستغفار؛ لأنه يشتمل على الاعتراف بنعم الله ﷿ على العبد، وكذلك اعتراف العبد بذنوبه: (أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي)، أي: واعترف بذنبي.
وكما يقولون: العارف يسير إلى الله ﷿ بين مشاهدة المنة، ومطاوعة عيب النفس والعمل؛ فينظر بإحدى عينيه إلى نعم الله ﷿ عليه، وهذا يورثه كمال الحب لله ﷿، وينظر بالعين الأخرى إلى عيوب نفسه وسيئات عمله فيورثه ذلك كمال الذل لله ﷿، وهما شقا العبادة.
وقالوا: العارف يخرج من الدنيا وما قضى وطره من شيئين: ثناؤه على ربه ﷿، وبكاؤه على نفسه.
5 / 2
الدعاء مع الرجاء وكثرة الاستغفار من أعظم أسباب المغفرة
روى الترمذي بسند حسن وحسنه الألباني ﵀ في الصحيحة عن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي.
يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك.
يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)، فهذا الحديث يبين لنا ثلاثة أسباب من أعظم أسباب المغفرة.
أما السبب الأول: فهو الدعاء مع الرجاء: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني)، وهو من أعظم أسباب المغفرة.
السبب الثاني من أسباب المغفرة: كثرة الاستغفار، وهو طلب المغفرة من الله ﷿.
قال الحسن: أكثروا من الاستغفار على موائدكم وفي طرقكم وفي مجالسكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة، وروي أن لقمان قال لابنه: يا بني! عود لسانك: اللهم اغفر لي.
فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلًا، وقال علي ﵁: ما ألهم الله عبدًا الاستغفار وهو يريد أن يعذبه؛ لأن الله ﷿ إذا أراد لعبد خيرًا فتح له باب الخير، فإذا أراد أن يغفر له ألهمه الاستغفار، فيستغفر العبد فيقبل الرب ﷿ منه ويغفر له، كما إذا أراد الله ﷿ أن يتوب على عبد يوفقه للتوبة ويقبل منه توبته.
قال ﷿: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ [التوبة:١١٨]، وإذا أراد الله أن يعطي عبدًا مسألة يفتح عليه باب الدعاء بهذه المسألة، فيسأل العبد ربه فيقبل الرب ﷿ منه ويعطيه سؤله، فالله ﷿ هو الأول والآخر والظاهر والباطن، كذلك تقول عائشة ﵂: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا.
فينبغي للعبد أن يكثر من استغفار الله ﷿، روى مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: (أنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)، فهذا النبي ﷺ المعصوم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله ﷿ في اليوم مائة مرة، وكان يقول: (توبوا إلى الله واستغفروه فوالله إني لأتوب إليه وأستغفره، في اليوم أكثر من سبعين مرة).
5 / 3
توحيد الله ﷿ من أعظم أسباب المغفرة
السبب الثالث وهو من أعظم أسباب المغفرة: توحيد الله ﷿: (يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا؛ ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة).
يقول ابن القيم ﵀: يعفى لأهل التوحيد المحض الذين لم يشوبوه بشيء ما لا يعفى لغيرهم، فلو أتى الموحد الذي أخلص توحيده لله ﷿ ربه بقراب الأرض خطايا لأتاه الله ﷿ بقرابها مغفرة، ودل على ذلك أيضًا حديث البطاقة، كما قال النبي ﷺ: (يصاح على رجل من أمتي يوم القيامة فيقال: احضر وزنك، وينشر له تسعة وتسعون سجلًا، كل سجل مد البصر مليئة بالذنوب والخطايا، فتوضع في كفة، ويظن أنه هالك، فيؤتى له ببطاقة عليها لا إله إلا الله، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة).
يقول ابن القيم: إن هذا الرجل حقق التوحيد، ووقع في ذنوب دون الشرك، فليست هذه بطاقة كل مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والله تعالى يقول: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف:١٠٦]، ولكن هذا الرجل قام بالتوحيد حق القيام، ووقع في ذنوب دون الشرك، فنجا ببركة التوحيد وفضله، فينبغي للعبد أن يخلص توحيده لله ﷿، فالتوحيد هو الإكسير الأعظم الذي لو وضعت منه ذرة على جبال من الذنوب لنسفتها نسفًا، قال الله ﷿: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨]، وقال: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ [المائدة:٧٢].
فينبغي للعبد أن يحقق التوحيد بقلبه وجوارحه، حتى يكون على رجاء المغفرة من الله ﷿.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
5 / 4
مجالس رمضان_شهر التوبة
من فضل الله تعالى أن فتح باب التوبة للتائبين، ولقبول التوبة شروط، ولها علامات تدل على صحتها وعلامات تدل على عدم صحتها، وكل ذلك حري بالمسلم أن يعلمه ليبتغي مواضع الفضل فيه.
6 / 1
أهمية التوبة ودعوة الناس كافة إليها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فإن شهر رمضان هو شهر التوبة، فهو الشهر الذي تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وتصفد فيه الشياطين، فالذي لا يستطيع أن يقهر نفسه ويطوعها لله ﷿ في هذا الشهر الكريم وقد صفدت الشياطين فمتى يستطيع قهر نفسه؟ ومتى يستطيع إلزام نفسه بطاعة الله ﷿ والاستقامة على طريقه سبحانه؟ والتوبة هي بداية الطريق ووسطه ونهايته، وبعد ما قدمه الصحابة الكرام من الإيمان والهجرة والجهاد والصبر أمرهم بالتوبة فقال ﷿: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:٣١]، فهذه الآية آية مدنية نزلت بعد الإيمان والهجرة والجهاد والصبر، أمرهم الله ﷿ فيها بالتوبة وعلق فلاحهم بها، فقال ﷿: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:٣١].
وقال ﷿: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات:١١]، فقسم الله ﷿ الناس إلى تائب وظالم، وليس ثم فريق ثالث: ﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [الحجرات:١١].
وقد فتح الله ﷿ هذا الباب العظيم -باب التوبة- وأمر جميع العباد بالولوج من هذا الباب، فأمر المنافقين بالولوج منه، كما أمر المشركين عامة، وأمر اليهود والنصارى، وأمر المسرفين على أنفسهم من أمة النبي ﷺ ومن غيرهم، كما أمر بذلك المؤمنين الصادقين، فالله ﷿ دعا جميع العباد إلى التوبة وإلى الدخول من هذا الباب العظيم فقد دعا إلى ذلك المنافقين فقال: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء:١٤٥ - ١٤٦].
كما دعا المشركين فقال: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة:٥].
وقال: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة:١١].
كما دعا اليهود والنصارى الذين قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ﴾ [المائدة:٧٣]، والذين قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ [آل عمران:١٨١]، والذين قالوا: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا﴾ [المائدة:٦٤].
فقال ﷿ بعد أن ذكر حالهم: ﴿أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ [المائدة:٧٤].
كما دعا إلى ذلك المسرفين على أنفسهم من أمة النبي ﷺ فقال تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر:٥٣].
كما دعا المؤمنين الصادقين فقال: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور:٣١].
6 / 2