[المجلس [1]]
[1] بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي افتتح أولا كتابه بعد ذكر اسمه بتحميده، وأوضح من العلم أبوابه لمن ارتضاه من عبيده، وضاعف بره وثوابه لمن قام بخدمته مخلصا في توحيده، عم العالمين برا ورحمة، وأتم على المؤمنين من هذه الأمة النعمة، وامتن عليهم بما ساقه إليهم تفضيلا {إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
فلا منة أعظم على العباد، ولا نعمة أبسط على العباد والبلاد، من بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة والرشاد، الذي أتى بالقرآن المعظم والسنة الشريفة، وأوتي جوامع الكلم وبدائع الحكم اللطيفة، وخص بخصائص عظيمة ومفاخر عجيبة طريفة، منها: ثناء الله سبحانه على كلامه، وما سنه لأمته من أحكامه، وما بينه من خاص القول وعامه، مجملا ومشروحا، فقال تعالى: {وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى}.
فنحمد الله على ما يسر من المنة والهداية، ونشكره على ما نشر من السنة واتصالها إلينا بالرواية، ونسأله فوزا بالجنة، ووقاية من النار وحماية.
Bogga 27
ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، جل عظمة وسلطانا، وعز قدرة وتعاظم شأنا، وتبارك رحيما وتعالى رحمانا، تقدس عن الضد والند والكفء والسند، وتنزه عن الشبيه والنظير والصاحبة والوالد والولد {قل هو الله أحد. الله الصمد. لم يلد ولم يولد. ولم يكن له كفوا أحد}.
ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صاحب السنة الغراء والشريعة الطاهرة، الشفيع في الخلائق إذا جمعوا بالساهرة، سيد الناس ومولاهم في الدنيا والآخرة، صلى الله عليه أشرف صلواته الزكية، وعلى آله ذوي الخلائق الرضية، وأصحابه أولي الطرائق العلية، وتابعي سنته، ومقتفي طريقته المرضية، ما أمليت فنون السنة انتفاعا، وشرحت دروس علومها قراءة وسماعا، وسلم تسليما.
ونسأل الله الكريم، البر الرحيم، ذا الجود والكرم والإحسان، الذي هو بعباده ألطف من آبائهم بهم وأرأف، أن يديم النصر والتأييد، والبقاء والعز لمولانا السلطان الملك الأشرف، وأن يعز بتأييده ونصره دولته ورجاله، وخاصة المقر الأشرف الزيني أسبغ الله ظلاله :
وكم له من يد بيضاء باسطة ... وسبقها قد غدا بالجود معروفا
فالباسط الله مولاه لذا بسطت ... منه الأيادي، فعم الناس معروفا
ورضي الله تعالى عن أئمة الإسلام، وخصوصا عن الأربعة الأعلام، الذين منهم إمامنا القرشي المطلبي النفيس، أبو عبد الله الشافعي محمد ابن إدريس، وعمن سلف من العلماء، وخلف من الأئمة النبلاء، اللهم وارض عن ساداتنا شيوخ الإسلام الحاضرين، وخاصة عن مولانا وشيخنا شيخ الإسلام، وبركة المسلمين أبي الفضل شهاب الدين:
إن قيل من يرتجى جودا وتفضلة ... قال: المفيد لفضل كل من وفدا
قاضي القضاة إمام العصر حافظه ... فرد الزمان الذي في فضله انفردا
Bogga 28
إذا أردت نظيرا في تبحره ... علما وفضلا وجودا لم تجد أحدا لا تنكروا جوده كالماء منسجما ... فالماء من حجر يحيى به أبدا
أسبغ الله ظلاله، وبلغه في خير آماله، ورضي الله عن ساداتنا الحاضرين، وختم لنا ولهم بخير في عافية. آمين.
أما بعد: فإن الله عز وجل، وله الفضل والامتنان، والطول والكرم والإحسان، أنعم على المؤمنين إنعاما كبيرا، ومنحهم فضلا غزيرا، وكرما خطيرا، من ذلك ما أشار إليه في كتابه المنزل، على أكرم مرسل، نبي الرأفة والرحمة، بقوله تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة}.
فالكتاب: هو القرآن العظيم المحكم، والحكمة هنا: هي سنة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد حافظ أعيان هذه الأمة على حفظ الكتاب في الصدور، والإقبال على تفهمه وما فيه من الأمور، واعتنى الأئمة بحفظ السنة وتدوينها في المسطور، والقيام بخدمتها والذب عنها كما هو مشهور، وسمت الأنفس الشريفة من الخلفاء والملوك، فبنوا دور السنة لحفظها ونشرها للغني والصعلوك.
Bogga 29
وممن بنى دارين للسنة في بلد، ولم نعلم أنه سبقه إلى ذلك أحد: السلطان الملك الأشرف مظفر الدين أبو الفتح موسى بن الملك العادل أبي بكر بن الأفضل نجم الدين أيوب بن شاذي، الذي ملك دمشق بعد حصاره ابن أخيه الناصر داود ابن المعظم عيسى، في سنة ست وعشرين وست مئة، وأقام ملكا بدمشق تسع سنين، وفيها بنى الدارين المشار إليهما، إحداهما التي بسفح قاسيون شرطها للمقادسة الحنابلة، وأول من باشرها شيخ الإسلام شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن أبي عمر المقدسي أول قضاة الحنابلة بدمشق.
ودار الحديث الثانية داخل دمشق جوار قلعتها المنصورة، وكانت أولا دار قيماز النجمي، فاشتراها الملك الأشرف وجعلها دارا للحديث النبوي، على قائله أفضل الصلاة والسلام، وجعل فيها نعل النبي صلى الله عليه وسلم في الخزانة الشرقية لصيق المحراب.
Bogga 30
ولما كان الملك الأشرف بخلاط، قدم عليه شخص يقال له النظام ابن أبي الحديد ومعه نعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فتلقاه الملك الأشرف ووضع النعل على عينيه وجعل يبكي، وخلع على النظام، ورتب له مرتبا كثيرا، وقال الملك الأشرف: قلت في نفسي: هذا النظام يطوف البلاد، وأنا أؤثر أن يكون عندي قطعة من النعل، فعزمت أن آخذ منه قطعة، ثم قلت في نفسي: ربما يتأسى بي أحد فيؤدي إلى استئصاله، وقلت: من ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه.
فأقام عندي النظام شهورا ثم مات فأوصى لي بالنعل، فأخذت النعل بأسره. ثم وضعها الملك الأشرف في ذاك المكان.
وهي هذه التي أول من وليها الإمام العلامة الحافظ أبو عمرو عثمان ابن الصلاح، ثم الخطيب عماد الدين ابن الحرستاني، ثم الشيخ شهاب الدين أبو شامة، ثم شيخ الإسلام أبو زكريا النواوي، ثم الشيخ زين الدين أبو محمد عبد الله الفارقي، ثم الإمام صدر الدين ابن الوكيل، ثم الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني، ثم القاضي كمال الدين أبو العباس أحمد بن الشريشي.
Bogga 31
ثم وليها بعد موته أحق الناس بها وأولاهم، شيخ الحفاظ وأعلاهم: أبو الحجاج يوسف المزي، وأول مباشرته لها كان يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة سنة سبع عشرة وسبع مئة، واستمرت بيده إلى حين موته نحوا من خمس وعشرين سنة، ولم يتولها بعده حافظ نظيره، وإن كان قد وليها شيخ الإسلام تقي الدين أبو الحسن السبكي، وابن عمه الإمام بهاء الدين أبو البقاء وغيرهما.
ولم يحضرها بعد الحافظ المزي فيما نعلم أحد في درجته من أهل هذا الشأن، غير شيخنا الحاضر في هذا المكان، وهو شيخ الإسلام حافظ الزمان، قاضي القضاة شهاب الدين أبو الفضل، فإنه أربى عليه بزيادة المصنفات، وإتقان المؤلفات، وفنون العلوم أصلا وفرعا، واستنباطا للأحكام المحتج بها شرعا، أسبغ الله ظلاله على الإسلام والمسلمين.
Bogga 32
وما نذكره ونبديه، من بعض فوائده وما يحويه، ولولا امتثال أمره الذي مقتضاه الوجوب اللازم، لم أحدث بحضرته شيئا استعمالا لأدب المتعلم بين يدي العالم، ولكن من جبر من الأئمة، قلب من هو دونه من الأمة، لا يخيب إن شاء الله تعالى من حصول الرحمة، المشار إليها في القرآن، وعلى لسان نبينا حبيب الرحمن، صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وعظم.
كما أخبرنا جماعة من المسندين منهم: أبو يوسف عبد الرحمن ابن التاجر الصالحي، وهو أول حديث سمعته من كل منهم، والمسمى من لفظه، قالوا: أخبرنا محمد بن أبي المحاسن بن أبي العز المصري، قال كل منهم: وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا عبد اللطيف بن أبي محمد التاجر، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا عبد الرحمن ابن علي السلامي، وهو أول حديث سمعته من لفظه، حدثنا إسماعيل بن أحمد المؤذن، وهو أول حديث سمعته منه، قال: أخبرنا أبي: أحمد بن عبد الملك بن علي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال البزاز، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، وهو أول حديث سمعته منه، حدثنا سفيان بن عيينة، وهو أول حديث سمعته من سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاصي، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)).
Bogga 33
تابعه مسلسلا كذلك أبو يعلى حمزة بن عبد العزيز بن محمد المهلبي، عن أبي حامد بن بلال، وهذا هو المشهور في تسلسله، يقول الراوي عن شيخه: وهو أول حديث سمعته منه.
Bogga 34
ورواه مسلسلا فوق هذا بدرجة: أبو عاصم عبد الله بن محمد الشعيري، عن أبي أحمد هاشم بن عبد الله بن محمد السرخسي المؤذن، عن أبي حامد ابن بلال، فوصل التسلسل إلى سفيان بقوله: وهو أول حديث سمعته من عمرو بن دينار.
وروي مسلسلا بدرجة أخرى فوق هذه، وكلاهما لا يصح.
ورويناه موصول التسلسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، من رواية أبي نصر الوزيري محمد بن طاهر بن محمد بن الحسين بن الوزير الواعظ، وتكلم فيه لذلك.
Bogga 35
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد المقدسي المجاور بطيبة، وهو أول حديث سمعته منه بقراءتي عليه، أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد البدر، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أحمد بن أبي الفتح الشيباني، وهو أول حديث سمعته منه، أخبرنا أبو عمرو عثمان بن أبي القاسم النصري، وهو أول حديث سمعته منه، قال: وأخبرنا أبو محمد عبد البر ابن الحافظ أبي العلاء الهمذاني بها، حدثنا والدي الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد العطار، حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن بن محمد الحافظ، حدثنا أبو صالح المؤذن، أخبرنا أبو سعد عبد الرحمن بن حمدان الشاهد، حدثنا أبو نصر محمد ابن طاهر الوزيري الأديب، حدثنا أبو حامد البزاز، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء)).
Bogga 36
قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: هذا أول حديث سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم بعد خطبة الوداع، وقال أبو قابوس: هذا أول حديث رواه عبد الله بن عمرو بالشام، وقال عمرو بن دينار: هذا أول حديث رواه لنا أبو قابوس، وقال ابن عيينة: هذا أول حديث أملاه علينا عمرو بن دينار، وقال عبد الرحمن بن بشر: هذا أول حديث سمعته من سفيان، وقال أبو حامد: هذا أول حديث سمعناه من عبد الرحمن، وقال أبو نصر الوزيري: هذا أول حديث سمعناه من أبي حامد، وقال أبو سعد: هذا أول حديث سمعته من أبي نصر، وقال أبو صالح: هذا أول حديث سمعته من أبي سعد في رجوعي إلى نيسابور سنة اثنتين وثلاثين -يعني وأربع مئة- وقال أبو جعفر الحافظ: وهذا أول حديث سمعته من أبي صالح، وقال الحافظ أبو العلاء: وهذا أول حديث سمعته من أبي جعفر، قال ابنه أبو محمد عبد البر: وهو أول حديث سمعناه من أبي من لفظه، قال أبو عمرو النصري: وهذا أول حديث سمعته من أبي محمد عبد البر.
وأنبأنا به عاليا جدا جماعة من شيوخنا منهم: أبو هريرة عبد الرحمن ابن الذهبي، عن يحيى بن محمد بن سعد وغيره، أخبرنا أبو صالح نصر ابن عبد الرزاق الجيلي كتابة، عن الحافظ أبي العلاء الحسن بن أحمد العطار، فذكره.
والحديث عند عدة من أصحاب سفيان بن عيينة من غير تسلسل، منهم أحمد بن حنبل فرواه في ((مسنده)) عنه، وخرجه أبو داود في ((السنن)) عن أبي بكر بن أبي شيبة ومسدد، والترمذي في ((الجامع)) عن محمد بن أبي عمر العدني، الثلاثة عن سفيان، وهو من أفراده، كما تفرد به شيخه عمرو، عن أبي قابوس.
Bogga 37
وله متابع عن عبد الله بن عمرو بمعناه، رويناه في مسندي أحمد بن حنبل، وعبد بن حميد، كلاهما عن يزيد -وهو ابن هارون- أخبرنا حريز، حدثنا حبان الشرعبي، عن عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال على المنبر: ((ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون)).
Bogga 38
تابعه هاشم بن القاسم، عن حريز -وهو ابن عثمان- الرحبي، بفتح الحاء المهملة، وحكى أبو منصور الأزهري سكونها أيضا، وهو حمصي محتج به في ((صحيح البخاري)). وشيخه حبان أبو خداش حمصي مذكور في ((ثقات)) ابن حبان، وعده بعضهم في الصحابة، ولا يصح له صحبة، فيما ذكر أبو عمر يوسف بن عبد البر.
وللحديث شاهد عن عدة من الصحابة، ذكرتهم في كتاب ((نفحات الأخيار من مسلسلات الأخبار)).
ورويناه من طريق منكرة عن ابن عباس رضي الله عنهما.
Bogga 39
أنبأنا أبو محمد بن أحمد بن الموفق الطرائفي، في آخرين، عن محمد بن أبي بكر بن أحمد، عن جده، أخبرنا زيد بن الحسن سماعا أخبرنا أبو منصور عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرني محمد بن أحمد بن رزق، حدثنا أبو سعيد الحسن بن علي بن محمد بن ذكوان البزاز يعرف بابن الزهراني، حدثنا حسن الصائغ، حدثنا الكديمي قال:
خرجت أنا وعلي بن المديني وسليمان الشاذكوني نتنزه، قال: ولم يبق لنا موضع نجلس غير بستان الأمير، وكان الأمير قد منع من الخروج إلى الصحراء، قال: فكما قعدنا وافى الأمير، فقال: خذوهم، قال: فأخذونا وكنت أنا أصغر القوم سنا، فبطحوني وقعدوا على أكتافي.
قال: قلت: أيها الأمير اسمع مني. قال: هات، قلت: حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء))، قال: أعده علي، قال: فأعدته عليه، فقال لهؤلائك: قوموا، ثم قال لي: أنت تحفظ مثل هذا وأنت تخرج تتنزه! أو كما قال. قال: فكان الشاذكوني يقول: نفعك حديث الحميدي هذا.
Bogga 40
هذه الرواية خطأ على الحميدي، إنما رواه عن سفيان على الصواب، كرواية مسدد وغيره من الأصحاب نحو ما تقدم. والله سبحانه أعلم.
Bogga 41
أما فقه الحديث وما فيه من الأحكام، والمعاني والبيان اللذين يظهر بهما حسن الكلام، وإيضاح لغته، ومعاني الرحمة، ووصف الرب عز وجل بها، ثم نعت الأمة وما يليق بذلك من الشرح المجانس للمجالس: يكون إن شاء الله تعالى فيما بعد هذا من المجالس، والآن نختم ما أمليناه، بأبيات قلتها في معناه:
خير العلوم كتاب الله فاعن به ... وبعده سنة المختار إنسانا
خذها بنقل ثقات واعملن بها ... وابدأ بأولها في السمع تبيانا
مسلسلا برواة أولا سمعوا ... هذا الحديث الذي معناه أحيانا
الراحمون عباد الله يرحمهم ... بفضله ربنا الرحمن إحسانا
وخالصا ارحموا أهل الأرض يرحمكم ... من في السماء تعالى الله رحمانا
صلى وسلم رب العالمين على ... نبي رحمته المخصوص قرآنا
كذا على آله والصحب أجمعهم ... والتابعين لهم عقدا وإيمانا
ما درست سنة المختار في ملأ ... لا خيب الله سعيا منهم كانا
Bogga 43
[تعريف بمشايخ دار الحديث الأشرفية قبله]
السلطان الملك الأشرف مظفر الدين أبو الفتح موسى بن الملك العادل سيف الدين أبي بكر محمد بن الأفضل نجم الدين أيوب بن شاذي، مولده سنة ست وسبعين وخمس مئة بالقاهرة، ونشأ بالقدس في كفالة الأمير فخر الدين عثمان الزنجاري.
سمع الحديث من عمر ابن طبرزد، وحدث عنه بحر بن بخيت وغيره، وأول شيء وليه: القدس من قبل أبيه، ثم حران والرها وما والى ذلك، وحضر عدة حروب منها المواصلة فكسرهم وكسر الروم أيضا، وكسر جلال الدين خوارزم شاه، والخوارزمية، وحينئذ لقب شاه أرمن، ولم يلق حربا فانكسرت له راية بل يؤيده الله وينصره.
Bogga 44
ولما قصد أخوه الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد بن الملك العادل صاحب مصر أخذ دمشق من ابن أخيه الناصر داود بن المعظم عيسى في سنة خمس وعشرين وست مئة كاتب الناصر عمه الأشرف لينصره فقدم لذلك، ثم اتفق مع أخيه الكامل وحاصرا ابن أخيهما الناصر داود في سنة ست وعشرين وأخذا منه دمشق وعوضاه عنها بالكرك ونابلس.
ثم سلم الكامل دمشق لأخيه الأشرف وأخذ منه حران والرها وآمد، وذهب فتسلمها وأعطاها لابنه الصالح أيوب، واستمر الأشرف ملك دمشق تسع سنين، وأخذ بعلبك من الأمجد.
وكان ملكا شجاعا حييا عفيفا عن المحارم، وقضيته مع ابنة صاحب خلاط معروفة، وكان محبا للصالحين، حسن الظن بهم، متواضعا، محببا إلى الرعية، كثير الصدقات والبر، وبنى أماكن ووقفها منها: جامع التوبة بمحلة الأوزاع، وهي العقيبة الكبرى، وبنى مسجد القصب بغير خطبة، وجامع جراح، وغير ذلك. ومنه: دار الحديث التي جوار قلعة دمشق، وأول من ولي مشيختها:
Bogga 45
1- أبو عمرو ابن الصلاح باشرها نحو ثلاث عشرة سنة، وتوفي بمنزله من هذه الدار سحر يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعين وست مئة، وصلي عليه بالجامع الأموي وخرجوا به من باب الفرج، ومن هذا الباب رجع الناس عن جنازته، ثم خرجوا بها ومعه نفر يسير دون عشرة أنفس إلى مقابر الصوفية فدفنوه بها، وذلك أيام حصار الخوارزمية دمشق مع معين الدين ابن الشيخ، من جهة الصالح أيوب صاحب مصر لعمه الصالح إسماعيل بن أيوب.
2- ثم وليها بعد ابن الصلاح الخطيب عماد الدين أبو محمد عبد الكريم بن قاضي القضاة جمال الدين أبي القاسم عبد الصمد بن محمد ابن الحرستاني، توفي سنة اثنتين وستين وست مئة في جمادى الأولى.
Bogga 46
3- ثم وليها الإمام العلامة المقرئ الحافظ شهاب الدين أبو القاسم -ويقال أبو محمد- عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر بن إبراهيم بن محمد المقدسي المعروف بأبي شامة، ولد ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وخمس مئة، برأس درب الفواخير داخل الباب الشرقي بدمشق، أخذ عن الشيخ موفق الدين الحنبلي أبي محمد عبد الله بن أحمد ابن قدامة المتوفى يوم عيد الفطر سنة عشرين وست مئة، وسمع الحديث منه ومن طائفة كثيرة، وأخذ الفقه من فخر الدين ابن عساكر -وهو أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي المتوفى عاشر شهر رجب سنة عشرين وست مئة- وغيره، وقرأ على أبي الحسن علي بن محمد السخاوي المتوفى في جمادى الآخرة سنة وفاة ابن الصلاح، وأخذ الأصول عن السيف الآمدي: أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي المتوفى في صفر سنة إحدى وثلاثين وست مئة، وشرح الشاطبية، واختصر ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر، وله التاريخ المسمى ب ((الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية))، والذيل عليه، وغير ذلك.
توفي في رجب سنة خمس وستين وست مئة، نزل عليه بمنزله بطواحين الأشنان جماعة فضربوه حتى ظنوا أنه مات، ثم ذهبوا وتركوه، وعرفهم؛ وقد أشار إلى هذه القصة في كتابه:
قلت لمن قال: أما تشتكي ... ما قد جرى فهو عظيم جليل
يقيض الله تعالى لنا ... من يأخذ الحق ويشفي الغليل
إذا توكلنا عليه كفى ... فحسبنا الله ونعم الوكيل
ولم يزل الشيخ شهاب الدين متمرضا إلى أن توفي رحمه الله.
4- فوليها بعده الشيخ الإمام العلامة الزاهد شيخ الإسلام بركة الأنام الإمام محيي الدين أبو زكريا النووي رحمة الله عليه.
5- ثم وليها بعده الشيخ الإمام مفتي المسلمين زين الدين أبو محمد عبد الله بن مروان بن الفارقي، وكانت وفاته بعد عصر يوم الجمعة الحادي والعشرين من صفر سنة ثلاث وسبع مئة، ودفن من الغد بتربة أهله بسفح قاسيون جوار تربة الشيخ أبي عمر.
6- ثم وليها الإمام صدر الدين أبو عبد الله محمد بن عمر بن مكي بن عبد الصمد بن عطية بن أحمد الشافعي ابن الوكيل.
7- ثم وليها بعد عزل ابن الوكيل عنها الإمام العلامة كمال الدين أبو المعالي محمد ابن الزملكاني، توفي ببلبيس ليلة الأربعاء سادس عشر شهر رمضان سنة سبع وعشرين وسبع مئة، فحمل إلى القاهرة ودفن بها.
Bogga 47