وسيبقى هذا الموطن الأفيح فياضا مدادا يطبع العربي على غرار أرضه وشمسه وهوائه ومائه، ويربيه على قوته وشجاعته وفروسيته، ثم يمد به إخوته في أقطار الأرض؛ فلن يبيد هذا الجنس ولن يهن على مر الزمان.
وكم عرف التاريخ وكم جهل من هجرة بعد هجرة من الجنوب إلى الشمال، من عرب اليمن وحضرموت وعمان إلى نجد والحجاز فالبلقاء وبادية الشام، ثم من الجزيرة كلها إلى العراق والشام ومصر والمغرب والسودان وشرق إفريقية وجزائر المحيط الهندي (بحر العرب).
ولا تزال القبائل البادية في هذه الأقطار تحفظ سننها، وتعرف صلتها بمواطنها وأصولها في الجزيرة، وتعتز بهذه الصلة وتحرص على ذكرها وحفظها.
هذا المصنع مصنع البشر لن يزال مددا للعرب وردءا.
وأما الثبات للحوادث الطبيعية والإنسانية، فما دام هذا الوطن العظيم يعرف بعضه بعضا ويتصل بعضه ببعض، فستجد كل ناحية في النواحي الأخرى ما يسعفها بمطالبها إن قحطت، وما يدرأ عنها الأحداث إن طغت عليها، ومحال أن تعمها كلها الحوادث إلا أن يكون حادث القيامة حين يرث الله الأرض ومن عليها.
وأما احتفاظ الأمة بخصائصها فعلى قدر ما في أجسامها وعقولها من قوة، وعلى قدر ما فيها من اعتداد بالنفس وثقة بها. والعرب من أقوى الأمم أجساما وعقولا، وأكثرها أنفة وإباء وعجبا وفخارا، والعربي منذ العصور الأولى يغلو في الاعتداد بنفسه، ويأبى أن يسويها بالأمم، ويربأ عن مصاهرتها، وقديما أبى النعمان أن يزوج كسرى، وحديثا قال أحد مجاهدي العرب في طرابلس الغرب، وقد عقد صلح بين أهل طرابلس والطليان، وامتن هؤلاء على العرب بأن سووهم بأنفسهم في الحقوق؛ قال هذا العربي المجاهد، وهو ليس رئيسا ولا زعيما: «وا سوأتاه، أأسوى أنا بالرومي! إنه لظلم عظيم!» بل كان من آفات العرب الغلو في هذه الكبرياء، فصعب أن ينقادوا ويسلسوا القياد، فبهذا الشعور بالعلاء والعظمة جعل العرب يعتزون بأنفسهم، ويمتازون بخصائصهم، ويتمسكون بأخلاقهم، وقديما قال شاعرهم:
وإني لمن قوم كأن نفوسهم
بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
وقديما رهن حاجب بن زرارة التميمي قوسه لملك الفرس ضمانا لما التزم من خراج، وحارب بنو شيبان الفرس إباء أن يسلموا سلاح النعمان بعد أن قتله كسرى، وقال أبو تمام يمدح بني شيبان:
إذا افتخرت يوما تميم بقوسها
Bog aan la aqoon