وأهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفترًا وكتب معه: «هديتي هذه، أعزك الله، تزكو على الإنفاق، وتربو على الكد، لا تفسدها العواري، ولا تخلقها كثرة التقليب، وهي إنس في الليل والنهار والسفر والحضر تصلح للدنيا والآخرة تؤنس في الخلوة وتمنع من الوحدة، مسامر مساعد، ومحدث مطواع، ونديم صدق.
وقال بعض الحكماء: «الكتب بساتين العلماء» وقال آخر: «ذهبت المكارم إلا من الكتب» .
قال الجاحظ: وأنا أحفظ وأقول: «الكتاب نعم الذخر والعقدة، والجليس والعمدة، ونعم النشرة ونعم النزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل والزميل، ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء مليء علمًا، وظرف حشي ظرفًا، وإناء شحن مزاحًا، إن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت سرتك نوادره، وشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبناسك فاتك، وناطق أخرس؛ ومن لك بطبيب أعرابي، ورومي هندي، وفارسي يوناني، ونديم مولد، ونجيب ممتع؛ ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغص والسمين، والشكل وخلافه، والجنس وضده؛ وبعد فما رأيت بستانًا يحمل في ردن، وروضة تنقل في حجر، ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض وأكتم للسر من صاحب السر، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة؛ ولا أعلم جارًا آمن، ولا خليطًا أنصف، ولا رفيقًا أطوع، ولا معلمًا أخضع، ولا صاحبًا أظهر كفاية وعناية، ولا أقل املالا ولا إبراما، ولا أبعد من مراء، ولا أترك لشغب، ولا أزهد في جدال، ولا أكف في قتال من كتاب، ولا أعم بيانا، ولا أحسن مؤاتاة، ولا اعجل مكافأةً، ولا شجرة أطول عمرًا، ولا أطيب ثمرًا، ولا أقرب مجتنى، ولا أسرع إدراكًا، ولا أوجد في كل إبان من كتاب. ولا اأعلم نتاجًا في حداثة سنه، وقرب ميلاده، ورخص ثمنه وإمكان وجوده، يجمع من السير العجيبة، والعلوم
1 / 21