قال: وقال الرشيد لبشر بن ميمون لما ولاه الحجبة: يا بشر صن طلاقة اسمك بحسن فعلك واحجب عني من إذا قعد أطال وإذا طلب أجال فِكره، ولا تستخفنّ بذوي المروءة والحرمة فإنهم إن مدحوا تلبّوا وإن ذُمّوا أزالوا.
وذكروا عن الربيع الحاجب أن المنصور دعا محمد بن عيسى بن علي إلى الغذاء فقال: يا أمير المؤمنين قد أكلت، فلما خرج أخذه الربيع وحمله على ظهر رجل وضربه كما يضرب الصبيان، فظن أهل بيته أن المنصور أمره بذلك، فخرج يبكي إلى أبيه، فجاء أبوه عيسى بن علي فخلع سيفه بين يدي المنصور وصاح، فقال: ما أمرت بذلك ولم يفعل الربيع ذلك إلا لأمر، فلما سئل الربيع عن ذلك قال: أمرته أن يتغدّى معك فقال قد أكلت، وإنما دعوته لتشرّفه وترفع منه ولم تدعه لتشبعه، فأدّبته إذ لم يؤدّبه أبوه، فقال المنصور: أحسنت! قد علمت أنك لا تخطيء.
قال: وقال المهدي للفضل بن الربيع حين ولاه الحجبة: إني موليك ستر وجهي وكشفه فلا تجعل الستر بيني وبين الناس سبب إراقة دمائهم بعبوس وجهك في وجوههم فإن لهم دالة الحرمة وحرمة الاتصال وقدّم أبناء الدعوة وثنّ بالأولياء واجعل للعامة وقتًا إذا وصلوا أعجلهم ضيقه عن التلبث والتمكّث، وكان أول من حجبه الحسن بن عثمان ثم الفضل بن الربيع، وكان الهادي ولّى حجبته الفضل بن الربيع بعد الربيع وقال له: لا تحجب عني الناس فإن ذلك يزيل عني التزكية، ولا تلق إليّ أمرًا إذا كشفته وجدته باطلًا فإن ذلك يوهن الملك ويضرّ بالرعية.
قيل: وقال الواثق لابن أبي دؤاد: من أولى الناس بالحجبة؟ فقال: مولّى شفيق يصون بطلاقة وجهه من ولاه ويستعبد الناس لمولاه، فنظر إلى إيتاخ وكان واقفًا على رأسه فقال: قد ولاّك أبو عبد الله الحجبة، فكان إيتاخ يعرف ذلك له ويتقدّم بين يديه إلى أن يبلغ مرتبته.
قال: وقال رجل لزياد: إن حاجبك إنما يبدأ بالإذن لمعارفه، فقال: قد أحسن، المعرفة تنفع عند الكلب العقور والأسد الهصور وبين لحيي البعير الصؤول، كن من معارفه، فقد قيل: التعارف نسب وقبّح الله معرفة لا تنفع.
وكان ليحيى بن خالد حاجبٌ قبل الوزارة، فلما صار إلى الوزارة رأى كأنه تثاقل عن حجابته فقيل له: لو اتخذت حاجبًا غيره، قال: كلا، هذا يعرف إخواني القدماء، وقال الشاعر في مثله:
هشٌ إذا نزل الوفود ببابه ... سهلُ الحجاب مؤدِّب الخدّام
وإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام
وقال خيط القنديل في محمد بن عبد الله بن طاهر:
يا أيها الملك المحجوب آمله ... وراء بابك همٌ غير مشترك
وكم أقول فلا يجدي فينجدني ... ولا أرى مدنيًا من قبة الملك
وقد تحصّن مني في محصَّنةٍ ... خلقاء خلف وشيج السمر والحسك
أصبحت كالشمس لا تخفى على أحدٍ ... لكنّ مطلعها في سرّة الفلك
يا ليت ريح سليمانٍ مسخرةً ... إليه تحملني أو منكبي ملك
فلست دون أناسٍ كان سهمهم ... سهم النّجيح فنالوا غاية الدّرك
فإن ظُلمتُ ولم أُنصف فقد ظلمت ... بنت النبي كما قد قيل في فدك
مساوئ الحجبة
1 / 78