فلما منّ عليك بالعفو وأرخى خناقك بعدما ضاق عليك وغصِصت برِيقكَ لا تقعد معنا مقعد أهل الشكر ولكن تساوينا وتجارينا ونحن ممّن لا يدركنا عار ولا يلحقنا خزاية! ثم التفت إلى زياد فقال: وما أنت يا زياد وقريشًا لا أعرف لك فيها أديمًا صحيحًا ولا فرعًا نابتًا ولا قديمًا ثابتًا ولا منبتًا كريمًا بل كانت أمّك بغيًّا تداولها رجال قريش وفجّار العرب فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدًا فادّعاك هذا، يعني معاوية، بعد ممات أبيه، ما لك افتخار تكفيك سُميّة ويكفينا رسول الله، ﷺ، وأبي علي بن أبي طالب سيد المؤمنين الذي لم يرتد على عقبيه وعمي حمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار وأنا وأخي سيدا شباب أهل الجنة! ثم التفت إلى ابن عباس فقال: يا ابن العم إنما هي بغاث الطير انقضّ عليها أجدل. فأراد ابن عباس أن يتكلم فأقسم عليه معاوية أن يكف فكفّ ثم خرجا، فقال معاوية: أجاد عمرو الكلام لولا أن حجته دحضت وتكلم مروان لولا أنه نكص. ثم التفت إلى زياد وقال: ما دعاك إلى محاورته؟ ما كنت إلا كالحجل في كف البازي، فقال عمرو: ألاّ رميت من ورائنا؟ قال معاوية: إذًا كنت شريككم في الجهل، أفاخر رجلًا رسول الله جده وهو سيد من مضى ومن بقي وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين؟ ثم قال لعمرو: والله لئن سمع به أهل الشام لهي السوءة السَّوآء. فقال عمرو: لقد أبقى عليك ولكنه طحن مروان طحن الرحى بثفالها ووطئها وطء البازل القُراد بمنسِمه. فقال زياد: قد والله فعل ولكن معاوية يأبى إلا الإغراء بيننا وبينهم، لا جرم والله لا شهدت مجلسًا يكونان فيه إلا كنت معهما على من فاخرهما. فخلا ابن عباس بالحسن فقبّل بين عينيه وقال: أفديك يا ابن عم، والله ما زال بحرك يزخر وأنت تصول حتى شفيتني من أولاد البغايا. ثم إن الحسن، ﵁، غاب أيامًا ثم رجع حتى دخل على معاوية وعنده عبد الله بن الزبير، فقال معاوية: يا أبا محمد إني أظنك تعبًا نصبًا فأتِ المنزل فأرح نفسك فيه. فقام الحسن، فلما خرج قال معاوية لعبد الله بن الزبير: لو افتخرت على الحسن فإنك ابن حواري رسول الله، ﷺ، وابن عمته ولأبيك في الإسلام نصيب وافر. فقال ابن الزبير: أنا له! فرجع وهو يطلب ليلته الحجج، فلما أصبح دخل على معاوية، وجاء الحسن فحيّاه معاوية وسأله عن مبيته فقال: خير مبيت وأكرم مستفاض. فلما استوى في مجلسه قال ابن الزبير: لولا أنك خوّار في الحرب غير مقدام ما سلّمتَ لمعاوية الأمر وكنت لا تحتاج إلى اختراق السهوب وقطع المفاوز تطلب معروفه وتقوم ببابه، وكنت حريًّا أن لا تفعل ذلك وأنت ابن علي في بأسه ونجدته، فما أدري ما الذي حملك على ذلك، أضعف رأيٍ أم وهن نحيزة، فما أظن لك مخرجًا من هاتين الخلتين، أما والله لو استجمع لي ما استجمع لك لعلمت أني ابن الزبير وأني لا أنكص عن الأبطال، وكيف لا أكون كذلك وجدّتي صفية بنت عبد المطلب وأبي الزبير حواريّ رسول الله، ﷺ، وأشد الناس بأسًا وأكرمهم حسبًا في الجاهلية وأطوعهم لرسول الله، ﷺ؟ فالتفت إليه الحسن وقال: أما والله لولا أن بني أمية تنسبني إلى العجز عن المقال لكففت عنك تهاونًا، واكن سأبين ذلك لك لتعلم أني لست بالعيّ ولا الكليل اللسان، إياي تعيّر وعليّ تفتخر ولم يكن لجدك بيت في الجاهلية ولا مكرمة فزوّجتْه جدتي صفية بنت عبد المطلب فبذخ على جميع العرب بها وشرف بمكانها، فكيف تفاخر من هو من القلادة واسطتها ومن الأشراف سادتها؟ نحن أكرم أهل الأرض زندًا، لنا الشرف الثاقب والكرم الغالب، ثم تزعم أني سلّمت الأمر لمعاوية، فكيف يكون ذلك ويحك كذلك وأنا ابن أشجع العرب وقد ولدتْني فاطمة سيدة نساء العالمين وخير الإماء؟ لم أفعل ذلك ويحك جُنبًا ولا ضُعفًا ولكنه بايعني مثلك وهو يطلبني بِبرّة ويداجيني المودة ولم أثق بنصرته لأنكم أهل بيت غدر، وكيف لا يكون كما أقول وقد بايع أبوك أمير المؤمنين ثم نكث بيعته ونكص على عقبيه واختدع حشية من حشايا رسول الله، ﷺ، ليضلّ بها الناس، فلما دلف نحو الأعنّة ورأى بريق الأسنّة قُتل مَضيعةً لا نَاصر له وأُتي بك أسيرًا قد وطئتك الكماة بأظلافها والخيل بسنابكها واعتلاك الأشتر فغصصت بريقك وأقعيت على عقبيك كالكلب إذا احتوشته الليوث؟ فنحن
1 / 37