إلا الريح التي جاست فيها.
البيت يسعد الآكلين؛ لإنهم يفرغونه مما فيه.
نحن نعلم أننا عابرون مؤقتون
وأن ما سيأتي بعدنا
شيء لا يستحق الذكر (1). (24) ولكن ما جاء بعده يستحق الذكر؛ فقد سقطت مدينته المثالية وأصبحت نهبا للجوع والإفلاس والجريمة والحروب الطائفية والعرقية والذهول من هول الكارثة والرعب من المستقبل المجهول. وبدأت تغير جلدها وتنسلخ عن هويتها وتطمس شعاراتها وتهدم تماثيل أبطالها ورموزها وتقدم فروض الندم للأجيال من سكانها على الحرية التي خنقتها - وما درت أنها دائما تنتصر حيثما أريد لها أن تقهر - والدين الذي حاولت اقتلاعه من جذوره والثورة التي حولتها إلى إرهاب، والتاريخ الذي أرادت أن تتحكم فيه فقضت عليها محكمته، والحياة التي أهدرتها، والعقل الذي حجرت عليه، والسؤال الذي حرمته ، والجماهير التي فرضت عليها الوصاية والصمت؛ فمزقت أكفانها وخرجت للثأر من ثوار الأمس الذين صاروا جلادين.
انقلبت الأحوال وخابت قوانين الجدل. وانتهى تاريخ ولم يبدأ تاريخ جديد. ومدينة الحلم تتخبط في الكابوس وتتعثر في التيه. هل تترك دفة السفينة للربان المخمور الأرعن؟ أتسلم مفاتيح العالم للغول الجبار؟ أليس هنالك أمل في أن تنهض المدينة الاشتراكية من عثرتها وتداوي جراحها وتراجع أخطاءها؟ أم أن الأمل معقود على مدينة أخرى تبدأ بداية أخرى وتقوم على قيم مختلفة؟!
إن الثائر المحبط - ومعه أجيال من الثوار المحبطين - لن يصدق عينيه، ولو كان حيا فلربما سأل مثل هذه الأسئلة التي تلح علينا ونحن نشاهد المقتلة والخراب في كل مكان، ما الفرق بين هذه المدن التي تحرق بيوتها وتمتلئ شوارعها بجثث القتلى وتصب عليها نيران الجحيم ليل نهار وبين المدن القديمة التي كانت تحرقها قبائل الغزاة وتذبح رجالها وتغتصب نساءها وتنهب كنوزها؟ ما الفرق بين سراييفو ولواندا ومقديشيو وكردستان، والقدس وبيروت والكويت أيام المحن التي مرت بها، وبين أور وبابل وآشور وروما وقرطاج ودمشق وبغداد أثناء سقوطها واشتعال الحرائق فيها؟ أليست هي الوحشية نفسها وإن اختلفت الأسباب وأسلحة القتل والتدمير؟ وهل تقل تعاسة الإنسان العادي في المدن التي تخرب أمام أعيننا عن تعاسة زميله ساكن المدن المنقرضة؟ والمدن الأخرى التي تتفجر بالزحام والضجيج والقبح والظلم وتجوس فيها أشباح الفقراء وعصابات الأوغاد ولصوص القوت والشرف والعلم والفن والمال، وعبيد السلطة وجيوش الانتهازيين والشطار والانفتاحيين والأفاقين والمنافقين. هل يمكن أن تتطهر أو تبزغ من مستنقعاتها عروس المدينة؛ الحلم أو المدينة الإنسانية المحتملة؟ وإذا كان الأمل قد تبدد من مدن القوة والهيمنة فهل ينتظر الخلاص من مدن لا تزال تطبق عليها التاءات الثلاثة: التفرق والتخلف والتبعية؟ أفلا يمكن أن تبعث مدينة الحرية والحب والإيمان واحترام الإنسان وتقديس الحياة على أنقاض مدن القوة والعنف والسيطرة والتوسع والتعصب من كل الألوان؟ أم أن الأمل الوحيد معلق بحكومة عالمية تملك الضمير الرادع لكل طغيان بعد أن تصفي كل الجيوش وتطهر الأرض من أسلحة الدمار كما تطهر الإنسان من أنياب الحيوان؟
سيقول القارئ: أحلام أحلام أحلام! وكيف يستعاد الماضي الذهبي الذي تغنى به الرعاة والشعراء في عصر الإلكترونيات والحاسوبات، وثورة المعلومات والاتصالات، وآلهة المخابرات والمؤامرات، وملوك المال والجنس والمخدرات وصناع الطغاة والحروب والانقلابات والإبادة بالجملة للشعوب والجماعات؟ ويرد الحالم وهو يتلفت حوله ويرى المدن الممتلئة بالجثث والحرائق والأنقاض: «لن أيأس فالحلم عنيد! ربما نكون أنا وجيلي قد أصبحنا ترابا فوق تراب، وذرات هائمة في فضاء الأكوان قبل أن تولد مدينة الإنسان. لكن الحلم لا بد أن يعيش ومعه الأمل الجديد، والإرادة والتصميم على البدء من جديد؛ لإنقاذ الأرض، لإنقاذ المدينة، لإنقاذ الإنسان.»
ولو كان صاحب هذا العمل حيا بيننا لما تخلى عن الحلم والأمل؛ فقد أحب هذا العالم عندما عمل وكافح ليهدم المدينة الظالمة الفاسدة، سيتمسك بالأمل في مدينة أخرى جديدة تنهض على أسس وقيم جديدة حتى بعد خيبة الأمل الشديدة. ألم يقل إن كل إنسان يوشك أن يكون قد أحب العالم والإنسان عندما تلقى عليه حفنتان من تراب هذه الأرض:
وكل من تلقى عليه حفنتا تراب ساعة الفراق،
Bog aan la aqoon