أصبح وجودي لعنة، وراح الزمن يطول في سأم.
لم كنتم تصفونني بالسعادة، يا أيها الأصدقاء؟
آه، من يسقط، فلم تكن واثقة خطاه.
من هذا الذي تخرج من شفتيه كل هذه الحسرات؟ وما هذا القدر الذي نزل عليه حتى يزفر بكل هذه العبرات؟ أهو في شدة يرجو منها الخلاص، أم في زنزانة ينتظر حكم الجلاد؟ وإذا كان سيف الجلاد يلمع فوق رقبته، فأي عزاء هذا الذي لم يفقد الأمل فيه حين يوشك الإنسان أن يقطع كل أمل في العزاء؟
هي شكوى سجين، قيلت في سجن بشع، وانتهت بموت أبشع، وهي أبيات يفتتح بها كتاب عظيم، كان آخر ما دونه صاحبه، وجمع فيه خير ما يمكن أن تقدمه الفلسفة للإنسان، ضم فيه أشعة من فكر أفلاطون وأرسطو والرواقيين، وصبغها في شفق تجربته الدموية، فصار قبسا غريبا لا يزال يضيء للناس عبر العصور.
إنه بواتيوس
Boethius
أو أنيسيوس مانليوس توراكواتوس سيفيرينوس بواتيوس، كما يدل اسمه الكامل! ولد في روما في عام 48 (ب.م) من سلالة عريقة كان كثيرون من أفرادها من أعضاء مجلس الشيوخ، وفقد أباه وهو بعد صبي، فتربى في بيت «كونتس أورليوس سيماخوس» وكان رجلا مهذبا رفيع المكانة، رعاه وتولى نشأته وزوجه ابنته فيما بعد، ولم ينحرف به شبابه ولا ثروته التي تركها له أبوه، بل ساعدته فطرته الجادة على الاتجاه إلى الدرس والتحصيل، حتى أدهش معاصريه وحاز إعجابهم. ويكفي أن نعرف أنه كان أعظم الإنسانيين الذين اهتموا بالتراث اليوناني بين الرومان، حتى لقد جعل رسالة حياته أن يترجم أعمال أفلاطون وأرسطو ويرتبها، لولا أن فاجأه الموت المبكر، فسمي بحق «آخر الرومانيين».
1
تقلد منصب القنصل في عام 510، وشرف في عام 522 بتكريم لا يحظى به إلا القليلون؛ إذ عين ولداه سيماخوس وبواتيوس قنصلين في وقت واحد، وأصبح رئيس مستشاري البلاط في رافينا أو ما يسمى ب «المجستر أوفيسيوروم» فنال المجد والشهرة، وسار في منصبه على الخلق الفلسفي القويم، وكانت رافينا في ذلك الحين هي عاصمة إمبراطورية الغوط الشرقية، وكان يحكمها ملك عادل حكيم هو «تيودريش» (471-526) الذي ضم إيطاليا إلى مملكته، ووصفه أعداؤه أنفسهم بالشجاعة والذكاء، لكن العلاقات ساءت فجأة بينه وبين الكنيسة الكاثوليكية على عهد البابا يوحنا الأول (523-526)، فقد أصدر قيصر الإمبراطورية الرومانية الشرقية جستينوس (518-527) قرارا باضطهاد الأريانيين
Bog aan la aqoon