غير أن هذا الفشل يعد مع ذلك أهم بكثير جدا من كل تعريف قد يبدو في ظاهر الأمر أنه تعريف ناجح للشجاعة، حتى ولو قابلناه عند أفلاطون وأرسطو نفسيهما؛ ذلك لأنه يكشف عن مشكلة أساسية من مشكلات الوجود الإنساني، ويبين أن فهم الشجاعة يشترط فهم الإنسان وعالمه، كما يفترض معرفة ببناء هذا العالم وقيمه، ومن عرف ذلك عرف أيضا ما ينفي وما يثبت، وما يأخذ وما يدع، فالسؤال عن طبيعة الشجاعة من الناحية الأخلاقية يؤدي بالضرورة إلى السؤال عن طبيعة الوجود والعكس صحيح؛ لأن الشجاعة يمكنها أن تبين لنا ما هو الوجود، كما أن الوجود يستطيع أن يكشف لنا عن حقيقة الشجاعة. ومع أننا لا نضمن أن ننجح حيث فشل سقراط، فإن هذا لا يمنعنا من إثارة المشكلة من جديد، على ضوء تاريخها في الفلسفة وموقف الإنسان في العالم المضطرب الحديث، فلعل هذه هي الطريقة الوحيدة التي تحيي المشكلة وتحثنا على النظر فيها من جديد؛ ذلك لأن المشكلات الفلسفية واحدة بطبيعتها في كل زمان ومكان، وإحياؤها في كل عصر أو موقف جديد يواجهه الإنسان - لا الرد عليها ولا محاولة إيجاد حل نهائي لها - هو أقصى ما يمكن أن يطمع فيه المفكرون. •••
الشجاعة فكرة أخلاقية، من حيث هي فعل بشري قابل للتقييم، والشجاعة فكرة وجودية، من حيث هي تأكيد كلي وجوهري للذات، وشجاعة الوجود هي ذلك الفعل الأخلاقي الذي يؤكد به الإنسان وجوده على الرغم من كل العناصر التي يقابلها في حياته وتتعارض مع تأكيده لذاته. فلنحاول الآن إلقاء نظرة سريعة على الشجاعة في تاريخ الفكر الغربي، مهتدين بالمعنيين السابقين اللذين سنجدهما صراحة أو ضمنا في كل مرحلة من مراحل هذا الفكر.
ذكرنا أن أفلاطون كان أول من تعرض لمناقشة المشكلة وحاول إيجاد تعريف للشجاعة، وعرفنا نتيجة هذه المحاولة في محاورة «لاخيس»، وقد عاد إليها مرة أخرى في جمهوريته، فجعل الشجاعة متعلقة بذلك العنصر الشجاع من عناصر النفس الذي يسميه بالثيموس
thymos ، كما ربط بينها وبين ذلك المستوى الاجتماعي أو تلك الطبقة التي يسميها طبقة الحراس «الفيلاكيس
phylakes »، وتقع الثيموس بين العنصر العقلي والعنصر الحسي في الإنسان، إنها ذلك الجهد الذي يجعل المرء يسعى سعيا غير إرادي إلى كل ما هو عظيم ونبيل، وهي بهذا تحتل مكانة المركز أو الوسط من النفس، وتملأ الهوة الفاصلة بين العقل والحس، أو تستطيع على الأقل أن تملأها، ولكن الثنائية الحاسمة في تفكير أفلاطون ومدرسته، والازدواجية التي أكدت الصراع بين المعقول والمحسوس تأكيدا استحال معه إقامة جسر حقيقي يربط بينهما، كان لهما أثرهما البعيد على مدى التاريخ حتى عهد ديكارت وكانط، ولعلهما هما المسئولان عن تشدد القانون الأخلاقي المطلق عند كانط، وعن تقسيم الوجود إلى الفكر والامتداد عند ديكارت. ومن المعروف أن تقسيم أفلاطون لملكات النفس يقابله تقسيم مواز لطبقات المجتمع كما تصوره في جمهوريته، فالحراس عندهم هم الأرستقراطية المسلحة التي تمثل النبل والشجاعة، ومن طبقة الحراس تخرج صفوة الحكماء والفلاسفة الذين يضيفون الحكمة إلى الشجاعة. ولكن هذه الأرستقراطية انهارت وضاعت قيمها على أواخر العالم القديم كما ضاعت على يد البورجوازية الحديثة؛ لقد حل المستنيرون والمتحررون محل الحكماء، كما شغلت الجماهير الموجهة بأساليب العلم في الدعاية والمذهبية محل الحراس، ومع ذلك فمما يحسب لأفلاطون أنه اعتبر مركز النفس ووسطها (التيموايديس
thumoeides ) وظيفة أساسية في كيان الإنسان، وجعل منه قيمة أخلاقية وصفة اجتماعية.
وجاء أرسطو فاحتفظ بهذا المعنى الأرستقراطي للشجاعة وحدد مفهومه، فعنده أن الدافع إلى احتمال الألم والموت في شجاعة هو أن من النبل أن يفعل الإنسان ذلك، ومن الوضاعة ألا يفعله (الأخلاق إلى نيقوماخوس، 3، 7، 9)، فالشجاع يقدم على الفعل من أجل ما هو نبيل؛ لأن هذا هو هدف الشجاعة، والنبيل والوضيع هنا ترجمة لكلمتي: كالوس
Kalos
وأيسخروس
Aischros
Bog aan la aqoon