وقد يبدو أنها أكثر كلمات اللغة بعدا عن الاستقلال بنفسها؛ فهي تفترض سؤالا يسبقها، بل هي جواب النفي على هذا السؤال، فالذي يسأل يريد أن يعرف، وحين نجيب على سؤاله «بلا» فإننا نخنق معرفته الباطنة في مهدها، ونمهد بالنفي لمعرفة صحيحة أو نعتقد أنها صحيحة، وقد يبدو أنه ليس هناك ما هو أخطر من قول «لا»، فإذا كانت اللا هي صيغة الاحتجاج، فقد تكون كذلك هي صيغة الانهزام؛ فمن يصر عليها في كل ما يقول أو يفعل، يصر على رفض كل شيء، ومن يرفض كل شيء يهرب من كل شيء، ويكون الموقف المنطقي الوحيد الذي بقي له هو الهروب من الحياة كلها؛ ذلك لأنه لا يرفض حينئذ نظاما بعينه، بل يرفض كل نظام، ولا ينفي موقفا بذاته، بل ينفي كل موقف، وهذا الرفض العنيد، هذا النفي المتصل الذي لا يؤدي إلى تأييد شيء أو الموافقة على شيء، هو الفوضى بعينها، وما أسهل أن يقول الإنسان: لا، ولكن ما أضيعها إن لم تحاول أن تثبت وراءها حقيقة، أو تؤكد قيمة، أو تدافع عن «نعم».
وما أخطر أن يقول الإنسان: «لا»، خاصة إذا وجد المجتمع الذي يحرم هذه «اللا»، لا بل يقمعها ويوقف عليها العقاب الشديد، ولكن ما أشبهها بالصدى الضائع في الصحراء، إذا كانت تعبر عن تمرد يكتفي بالنفي دون أن يحاول الإثبات، ويقنع بالاعتراض على الباطل دون أن ينادي بتأكيد الحق.
لكن هل يقف المفكر في «اللا» عند الصعوبات الخارجية التي تصادفه، وهي صعوبات تدخل في مجال السياسة والاجتماع والقانون؟ إن المفكر الحقيقي يهتم - قبل كل شيء - بالماهية والطبيعة والجوهر، فهل يقربه من حقيقة «اللا» أن نصفها بأنها صيغة الاحتجاج؟ أم تراها تبعده عنها؟ أليس في لفظ «لا» نفسه تحديد لجانب واحد من الوجود، بينما المفكر - أو لنقل الفيلسوف - يتجه بفكره إلى كل الوجود؟
إن كلمة «لا» تحد وتحدد، أليس في هذا شيء من العزاء لمن يريد أن يصل إلى قلب الوجود، ويطأ خاشعا قدس أقداسه؟ ألا تستطيع أن تسد الطريق على كل جواب سهل في مسألة المسائل هذه، وأن تسكت كل «نعم» يسيرة وسطحية ومؤقتة تزعم أنها تنبئنا بشيء عن الوجود؟ ألا يستطيع قائل «لا» أن يكون حارسا أمينا على الوجود، فيبدأ بحراسة نفسه من عواقب «لا» تحتج وحسب، ولا تجلب على نفسها غير الخراب؟
مهما يكن من شيء، فإن قول «لا» تعبير عن احتجاج، وفي عالم يعطي لنا من الصباح إلى المساء أكثر من مناسبة للاحتجاج؛ يصبح من حقنا أن نبحث عن طبيعة هذه «اللا»، والبحث هنا ضروري لنعرف كيف نقولها ومتى ولمن، ولنضمن ألا تكون مجرد صرخة نبيلة في الهواء، أو كتابة بالدم على سطح الماء!
لنفكر معا في أمر هذه «اللا». ولكننا قبل أن نبدأ التفكير فيها، سنجد أنفسنا مضطرين إلى التفكير في الفكر نفسه! والفكر عادة يسير خطوة فخطوة، على حسب منهج مرسوم، وهو يصطدم بأول عقبة على هذا الطريق، حين يسأل نفسه في أي شيء يفكر، فهو يجرب هذا وذاك، ينظر هنا وهناك، ويسير على طريق قد يعدل عنه بعد قليل ليسير على طريق سواه. حقا إن فيلسوفا يونانيا قديما، هو «بارمنينيدز»، قد عرف طريقين لا ثالث لهما: طريق الحقيقة الذي يسير فيه العارف ولا يسير على طريق غيره حتى يصل إلى الوجود الواحد، وطريق الباطل الذي يسير فيه الجاهل أو تسير فيه العامة «المزدوجة الرءوس»؛ ليؤدي بها إلى اللاوجود؛ فالطريق الأول هو الطريق الذي لا طريق سواه، وفي آخره سنجد الوجود الواحد الذي لا يتبدل، الوجود الكروي الشكل، المحدود بحدود ثابتة. إن العارف يسير عليه، يعرف كلمة السر التي توصل إليه، أما العامة «الأغبياء» كما يسميهم، فهم يجهلون هذه الكلمة، ويترنحون حائرين بين الطريقين؛ ذلك لأنهم يجهلون هذه الكلمة القاطعة التي قالها فيلسوفنا احتجاجا على اللاوجود وتأكيدا للوجود الحي، «اللاوجود غير كائن، والوجود كائن»، ولكن كيف أعرف هذا الطريق؟ كيف أقترب من الوجود الحي لا الوجود الميت المتحجر؟ كيف أصل إلى الوجود الشامل الذي أراده الفيلسوف، فأميزه عن الوحدة الميتة التي تجمع الحق والباطل، والوجود واللاوجود؟ هل أجعل منه موضوعا لذاتي المفكرة؟ ولكن هذا الفعل نفسه يثبته ويحدده كما يحددني، إنه يجعل الذات تصطدم بالموضوع فأتحرك في مجال لا أستطيع أن أفرق فيه بينهما، ولكنني مضطر إلى هذه التفرقة، وإلا اختفى الموضوع الذي أبحث عنه، فهل ألجأ أمام هذا الموضوع الشامل - موضوع الوجود - إلى إصدار حكم عليه يوحد بيني وبينه؟ ولكن من أين لي - وأنا البشر المحدود - بهذه القدرة؟ أليس من طبيعة الأشياء ومن طبيعتي البشرية أن يظل الموضوع على الدوام «موضوعا» أمامي، مقابلا لي في كل كلمة أو إشارة أو فعل أقترب به منه؟ ها أنذا أجرب طريقا بعد طريق، وأصدر حكما بعد حكم، ولكن الحقيقة مختلطة بالباطل، والوجود ممتزج باللاوجود، وأنا لا أستطيع أن أميز أحدهما عن الآخر، أريد أن أقول للطريق الخاطئ: «لا»، فلا أستطيع أن أستعين بطريق بارمنيدز الوحيد؛ لأنه لا يؤدي إلا إلى نعم مؤكدة، إنه لا يقول: «لا» فحسب، بل يبقى اللاوجود نفسه، ومعه كل نعم كامنة فيه. قائل «لا» يقول للاوجود «لا»، وهو مضطر أن يقولها لتسمعها العامة ذات الرءوس المزدوجة؛ لأنها تتعلق باللاوجود، وتظل في ليل الظن والجهل، لا تملك شجاعة العارفين، ولا ترفعها «بنات الشمس» إلى أعلى (قارن الشذرة الأولى من شذراته الباقية). غير أنه في الحقيقة ليس في حاجة إلى أن يقول «لا» للاوجود؛ ذلك لأن هذا اللاوجود لا وجود له عند بارمنيدز، إنه يعيش على الدوام في نعم متألقة، في مملكة النهار والضوء الساطع، ومع ذلك فإن نهاره لا يكشف الليل، وعلمه لا يفسر لنا وجود الجهل، وإذا سألناه لم كان الجهلاء جهلاء؟ ولماذا لا يعرفون الوجود كما يعرفه سواهم؟ وهل نسيهم هذا الوجود أم نسوه؟ أجابنا بأنهم يتعلقون باللاوجود، ولأنهم يتعلقون باللاوجود فهم دائما ما يقولون: «لا»، وهم يقولون «لا»؛ لأنهم خاضعون لسلطان الحواس، يرون الظاهر حيث يكون الباطن، والكثرة حيث تكون الوحدة، إنهم خائفون على الدوام؛ لأن «اللاوجود» يهددهم، وتهديدهم يحملهم على قول «لا»، ويعجزهم عن قول «نعم» للوجود الواحد الحق.
إذا كان هذا هو حال من يقول «لا»، فإن قائل «نعم» عند بارمنيدز ليس أفضل منه حالا؛ ذلك لأن الإنسان لا يصل إلى النعم الحقيقية إلا بعد أن يقول «لا» مرات ومرات، ولا يسير على الطريق الحق حتى يعدل عن طرق الخطأ التي لا حصر لها. إن قائل نعم عنده أشبه بمن اكتشف الطريق، ولكن ما كان أحوجنا إلى أن يشرح لنا المشقة التي عاناها حتى وصل إلى هذا الكشف! وليس أحب إلى الإنسان من قول نعم، خصوصا إذا كان يقولها للحقيقة المضيئة كالنور، على أن تأتي هذه النعم في نهاية الطريق لا في بدايته، لا بل أن تكون على الدوام كامنة في كل «لا» يقولها وكل احتجاج يصرخ به.
كان إذن على الفيلسوف الوقور بارمنيدز أن يميز بين نعم كامنة في لا، بفضلها تستطيع هذه أن تصمد لتهديد اللاوجود، وبين نعم أخرى «لا تبلغها رغبة» و«لا تلطخها لا» كما يقول نيتشه؛ ذلك لأنني لا أستطيع أن أستمع إلى «النعم» الأولى إلا من خلال لا، ولا أن أجرب الوجود حتى أقول لا لكل ما ليس بوجود، ولا أن أوافق حتى أحتج هذا الاحتجاج الأنطولوجي «الوجودي»، ولا أستطيع كذلك أن أصل إلى النعم الأخرى حتى أتخلى عن كل شيء، وأشيح ببصري عن كل ما يتهدد اللاوجود - ومنه نفسي - بالخراب، لا بل أتخلى عن اللغة التي تحتمل الخطأ حتى أصل إلى الوجود الذي لا تعبر عنه لغة البشر، هناك أصل إلى تلك النعم، أو تلك النعمة الغريبة اليائسة التي سماها نيتشه بالكوكب الأعلى، والوصية الفريدة والنعم الأبدية للوجود، وهناك لا يملك الإنسان إلا أن يقول تلك النعم المقدسة، «ويحيي ظهر الأرض والبشر العظيم.»
لولا هذه «النعم» الكامنة كمون البذرة في «اللا»؛ لكان شك الشكاك ويأس اليائسين في معنى الحياة عامل تدمير لا يرحم، وإلا فمن أين جاء ديكارت اليقين، وقد راح يشك في كل شيء؟! ألم تكن هناك «نعم» وراء اللا المجتاحة جعلته يطمئن إلى أنه مهما شك في كل شيء حتى في شكه، فسوف تبقى حقيقة التفكير التي تسلمه إلى طمأنينة الوجود؟ ومن أين جاءت «كامي» شجاعته، وقد راح يحتج ويتمرد ويصرخ بأن الوجود لا معنى له، لو لم تكن هناك «نعم» وراء هذه اللا المعذبة، تؤكد له أن هناك معنى في احتجاجه على اللامعنى، وأن الحياة تستحق أن نحياها، لا بل يجب أن نحيا كل لحظة فيها ولو كانت مجردة عن المعنى، بل ربما لهذا السبب نفسه، وهل كان بارمنيدز ليحتج على اللاوجود ويرفضه لو لم يكن يريد تأكيد الوجود الثابت والجوهر الخالد الباقي؟! هناك إذن قوة تتجلى في قول «لا»، وتتكشف في كل احتجاج على الخطأ والباطل واللاوجود، قوة تحمي الشاك من الهلاك تحت سنابك الشك، وتقي اليائس من الغرور كما تقيه من الاستسلام وتدمير النفس. لنسم هذه القوة الوجود أو العقل أو حكمة الحياة ونعمة السماء؛ فوراء اختلاف الأسماء اتفاق على «النعم» الكامنة كمون البذرة الحية في «اللا». •••
وليس أمر «اللا» مقصورا على الفلاسفة والمفكرين؛ فالأنبياء أيضا قد يحملون أمانتها، فيهربون من عبثها، ويفرون من وجه الرب الغاضب، ناسين أنه لا ينذر إلا ليبشر، ولا يتوعد إلا ليعد، «صار قول الرب، كما يقول الإصحاح الأول من سفر يونان «يونس» إلى يونان بن أمتاي قائلا: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة وناد عليها؛ لأنه قد صعد شرهم أمامي.»
Bog aan la aqoon