على الترتيب، ولكن معناها المكاني ليس هو معناها الوحيد، بل إن معناها الأصلي معنى حضاري اجتماعي يدل على الإنسانية جمعاء. وما زالت كلمة العالم في اللغة العربية تدل على مجموع الناس كما تدل على المكان الذي يعيشون فيه، وقد ظل الناس من عهد اليونان إلى العهد الحديث يتصورون العالم على أنه كرة أو دائرة، وليس المهم في هذا التعبير هو كروية العالم أو دورانه، بل تصور محتو قائم بذاته مكتف بنفسه. وما زلنا نتحدث في لغتنا اليومية عن دائرة الأسرة أو دائرة المجتمع أو محيط السياسة ... إلخ، فلا نقصد بذلك كله دوران الأسرة أو المجتمع بقدر ما نقصد كيانا مستقلا يحتوي على غيره ويتميز عما عداه بالتمام والاكتفاء؛ فالعالم إذن دائرة تامة وأفق محدود يدور فيه وجودنا وفكرنا. ولقد حاول ياسبرز في العصر الحديث (في كتابه عن العقل والوجود) أن يستخرج فكرته عن المتعالي بوصفه الشامل المحيط من فكرة الأفق، بيد أن كل أفق بما هو كذلك يحيلنا إلى ما هو أبعد منه، وكذلك العالم يشير إلى ما هو أبعد منه، لا إلى عالم آخر - لأن هذا العالم الآخر لا بد وأن يشير إلى عالم آخر سواه - بل إلى ما ليس بعالم ولا أفق على الإطلاق. ولكن ماذا عسى أن يكون هذا العالم الذي ليس بعالم ولا من العالم، لا بأفق ولا في أفق، وكيف نجد له اسما؟
سنحاول أن نعبر عما يدل عليه من تحرر وتفتح وانطلاق فنسميه «الانفتاح»، وسنسرع فنقول عنه: إنه لا يمكن أن يكون موضوعا ولا شيئا؛ فكل موضوع أو شيء يكون محتوى في غيره، والانفتاح ليس شيئا ولا في شيء، وهو كذلك يمكن أن يكون موجودا - لأن الموجود يسري عليه ما يسري على الشيء والموضوع - وإن كان من المستحيل كذلك أن يكون عدما؛ إذن فليس لكلمة الانفتاح من معنى إلا أن تكون رمزا أو شفرة نشير بها إلى ما يحتجب بطبيعته عن الإنسان، أعني إلى المتعالي.
هل هذه هي نهاية المطاف؟ أهذا هو الذي سنصل إليه بالعلو؟ لا بد للإجابة على هذين السؤالين من الإشارة إلى ما فيهما من قصور؛ فالمطاف ليس له نهاية، وبخاصة في الفلسفة! والعلو لا يمكن في الحقيقة أن يوصل إلى شيء، وكل ما قد نستفيده من الانفتاح هو أن نقفز منه إلى ما بعده؛ فهو يحيط بكل شيء ويتوغل في كل شيء (تكفي نظرة واحدة إلى السماء ذات النجوم أو الصحراء الشاسعة أو البحر غير المحدود؛ لنشعر بالقشعريرة التي شعر بها باسكال أمام اللانهاية! فما بالك لو أضفنا إلى ذلك معلومات ساعة واحدة نقضيها مع علم الفلك؟) فإذا عدنا إلى سؤالنا الرئيسي: إلى أين يؤدي بنا العلو فوق كل شيء على الإطلاق؟
استطعنا أن نجيب بقولنا: إلى الانفتاح، وهذا الانفتاح لا يؤدي بنا إلى شيء ولا إلى ما يحتوي شيئا، وهنا نعود مرة أخرى إلى فكرة المتعالي بوصفها خروجا - من - أو وجدا، وسنجد أننا لن نستطيع أن نتحدث عن الوجد حديثا شافيا حتى نتحدث عن القلق، ولقد تحدث كيركيكجور ومن بعده هيدجر عن العلاقة الوثيقة بين القلق والعدم فأفاضا في الحديث، ولسنا في حاجة إلى تكرار ما قالاه في هذا الصدد؛ فالقلق تجربة أساسية من تجارب الإنسان، وكلما أحس بالوجد أحس معه بالقلق الذي يصحبه ويلازمه.
ولا بد من التفرقة بين القلق والخوف؛ فالقلق يكمن في شعور الإنسان بخطر يتهدده دون أن يكون هذا الخطر صادرا من شيء أو موضوع بعينه، على عكس الخوف الذي يكون دائما خوفا من شيء أو موضوع، والمهم الآن أن كل تجربة بالوجد تنتزع الإنسان من العالم كما تنتزعه من ذاته لتغوص به فيما يشبه العدم أو الفراغ، وهذا الإحساس بأنه ينتزع من نفسه يحمل في طياته معنى الفزع والجزع والقلق.
وإذن فتجربة المتعالي لا بد وأن تنطوي على القلق، وفي القلق يشعر الإنسان بأن كل شيء يصبح عدما أو أشبه بالعدم، وأنه ينزلق منه، يتسرب من بين يديه، يغوص معه في لجة معتمة، نقول: يشعر الإنسان، ولا نقول: «كل» إنسان؛ ذلك لأن الإنسان «العملي» من أصحاب «الفهم السليم» - الذي تحدثنا عنه فيما تقدم - لا يمكن أن يعاني الإحساس بالقلق؛ لأنه لا يحس أصلا بمعنى العدم؛ فالعدم في نظره عدم، أعني أنه لا يستحق منه أن يفكر فيه أو يحفل بأمره، وفهمه له على هذا النحو وقوف عند أدنى مستويات الفكر، أعني عند مرحلة العدم = لا شيء، وما ليس بشيء فهو أقل من أن يستحق منه تعب التفكير فيه لحظة واحدة، والنتيجة المحتومة أن يصبح القلق عند أصحاب الفهم السليم هو الآخر عدما ، فيغلق أبوابه من دونه ليريح نفسه ويستريح.
بلغنا حتى الآن نقطتين هامتين نود أن نشير إليهما قبل الانتقال إلى غيرهما:
أولا:
كل ما هو موجود فهو موجود «في».
ثانيا:
Bog aan la aqoon