1
لم يكن غرض كامي إذن هو وصف ظاهرة الثورة ولا عرض أسبابها التاريخية والاقتصادية، بل كان غرضه - على حد قوله - هو الكشف عن المسار المنطقي في بعض الوقائع الثورية، وبيان الموضوعات الدائمة للتمرد الميتافيزيقي، ومن هنا يبدأ جانسون في توجيه نقده إليه، فهو في رأيه ينظر إلى الثورات من وجهة نظر ميتافيزيقية، ويهمل أسبابها الاقتصادية والتاريخية، وهو يذهب إلى أبعد من هذا، فيقتصر على اكتشاف المسار المنطقي للثورات، ويرفض الاعتراف بأن للعوامل الاقتصادية والتاريخية دورا في نشوئها؛ وبذلك تصبح الثورة عنده مرادفة لتأليه الإنسان. وتتكفل الشيوعية الروسية بتحقيق الطموح الميتافيزيقي الذي يصفه كتابه بمحاولتها أن تشيد مملكة الإنسان الذي سيصل في النهاية إلى مرتبة الألوهية.
في رأي الناقد بالمواقف الواقعية في هذا التصور الغريب للتاريخ لا بد أن يلغي التاريخ نفسه؛ إذ إن كامي يضحي في سبيل حوار فكري مجرد، يدور بين الاحتجاج الميتافيزيقي على الموت والعذاب من ناحية، وبين الطموح الميتافيزيقي الذي يغري الإنسان بالتسلط المطلق والسيطرة الشاملة من ناحية أخرى، بحيث نجد التمرد الحق في الحالة الأولى، والثورة الفاسدة في الحالة الثانية، وقد يصلح هذا المستوى الفكري للمناقشات اللاهوتية، ولكنه لا يصلح للكلام عن المواقف الواقعية، ولا لفهم حياة البسطاء من الناس، والكادحين الذين يجوعون ويكافحون المسئولين عن تجويعهم. ولا شك عند الناقد في أن كامي أرفع من أن يؤمن بهذه «المستويات الدنيا» أو أن يسلم بالدور الرئيسي الذي تؤثر به الحتمية الاقتصادية - أو الحتمية التاريخية كما يفضل أن يسميها - على أفعال الناس وأفكارهم. ويستمر الناقد فيقول: إنه إذا كان هناك عيب كامن في الثورات، فلا ينبغي أن نفتش عنه عند الفلاسفة، بل في الأفعال الثورية نفسها؛ ولذلك فلا صحة للقول بأن مذهب ماركس هو الذي أدى إلى إرهاب ستالين، ولا مبرر للحكم على النظرية من نتائجها، وللزعم بأن المادية الجدلية أو التاريخية هي المسئولة عن النظام البوليسي البشع على عهد ستالين. وهكذا يكون كامي قد وقع في خطأين: أولهما أنه لم ينقد النظرية من داخلها بل حملها مسئولية أفكار وأفعال بعيدة عنها بعدا كبيرا، وثانيهما أنه مر مرور العابرين على ظاهرة الثورة نفسها وسكت عن ظروف نشأتها وحركة تطورها وعناصر السلوك البشري المكونة لها.
ويأخذ الناقد على كامي أنه عرض للثورات التاريخية عرضا ناقصا بالاعتماد على كتابة تاريخية ناقصة للمذاهب الثورية. فمن الخطأ أن يوجه النقد إلى الثورات الكبرى في العصر الحديث بالاعتماد على تحليل العقد الاجتماعي لروسو، أو سرد خطب سان جوست، أو تحليل ظاهريات الروح لهيجل، أو عرض حركات التمرد الدامية والفوضوية والفاشية، أو الكلام عن ماركس ولينين وستالين من وجهة نظر مسبقة، أضف إلى ذلك التحليل السطحي لمذهب هيجل، ففي رأي كامي أنه أراد أن يجسد الحقيقة والعقل والعدالة ويلقي بها في مجرى التاريخ؛ فقذف بالعقل المجرد الذي كان إلى عهده يخطط من أعلى للظواهر المتعلقة به في مسار التاريخ، ومهد بذلك لعهد جديد يخلو من العلو أو «المتعالي»،
2
وينصرف بكليته إلى تنازع القوى والصراع على العالم. لقد بذل جهده لتدمير كل حقيقة متعالية وكل حنين إلى التعالي، وقدم بذلك - على مستوى ديالكتيك السيد والعبد - المبرر الحاسم لروح القوة التي تسيطر على القرن العشرين، وبذلك جعل من تاريخ الإنسانية صراعا مميتا لغزو العالم والوصول إلى السيطرة المطلقة، وانتهى تفكيره إلى «الدولة المطلقة» التي أقامها الجنود والعمال، وتمجيد النجاح البشع بكل ثمن، حتى ولو كان هذا الثمن هو موت الملايين، كما استمد منه الثوريون في القرن العشرين تلك الأسلحة التي دمروا بها مبادئ الفضيلة الشكلية.
فعل كامي هذا كله ليثبت أن كل الثورات تخون التمرد الحق من حيث تريد أن تؤله الإنسان، وهو لهذا يلقي الذنب كله على رأس هيجل، فمنهجه الجدلي يريد أن يصل في نهاية المطاف إلى اللحظة التي «تلتقي فيها مدينة البشر مع مدينة الله.» وستالين عنده هو أحد أبناء هيجل الروحيين، والشيوعية في جوهرها محاولة متطرفة لتحقيق المساواة بين الإنسان والإله، وجعل الأرض مملكة يصبح الإنسان فيها إلها، وإقامة ديانة تتعبد الإنسان وحده؛ ولهذا أصبحت «الأرض المقفرة» اليوم نهبا للقوة المحضة التي ستقرر إن كان الإنسان إلها أو لا.
وهكذا يبدأ نابليون وهيجل - الفيلسوف النابليوني - عهد الفعالية المحضة، كما توضع المبادئ الخالدة والقيم غير المتجسدة والفضيلة الشكلية موضع الشك، ويبدأ العقل في التحرك فلا يعود تجريدا خالصا بل غزوا متصلا، وتنتصر العدمية، فيجلس قيصر على العرش، وينتشر الرعب في كل مكان. وينتهي كامي إلى اقتراح الشكل السياسي الذي يلائم التمرد الحق في عصرنا الحاضر، ويقف في وجه الفعالية التاريخية المطلقة، هذا الشكل السياسي هو النقابية الثورية التي ترتبط في رأيه بالحقائق الواقعية، وتتمثل في البلاد الإسكندنافية، وليس للعالم نجاة إلا بالتمسك بالتمرد المعتدل في وجه الثورة القيصرية، وإثبات فعاليته من خلال عذابه وتناقضاته وهزائمه المتكررة وكبريائه العنيد.
هكذا ينتهي كامي من حيث بدأ، أعني إلى التمرد الحقيقي الذي لا ينتهي بدوره إلى نتيجة؛ لأنه موجه إلى «قدر ظالم وغير مفهوم» ولأنه لا يخرج عن كونه وجودا يحارب نفسه، وتمردا يتمرد على ذاته. فيم كانت الحاجة إذن إلى هذه «اللفة» التاريخية كلها؟ لا شك عند الناقد في أن الهدف منها هو إلغاء التاريخ بمعناه الواقعي؛ فكامي الذي يتطلع إلى أوروبا العجوز المعتمة من شواطئ الجزائر الشابة المشمسة لا يرى إلا «تاريخ الغرور الأوروبي»، أي وجه التاريخ المظلم الكئيب، وحين كان يتحدث على لسان سيزيف، كان يؤمن حقا بضرورة الفعل، ولكنه الفعل العقيم الذي لا معنى له ولا أمل فيه، فلما اشترك في مقاومة الاحتلال النازي لبلاده، بدأ يحس بأن للتاريخ معنى، وظن أن التحرير سيؤدي إلى حياة نبيلة وسعيدة. ولكن ذلك لم يكن إلا وهما؛ فالتاريخ يتكلم من جديد بلغة البطش لا بلغة الفضيلة، وسيزيف الذي ازدادت تجربته قد زادت كذلك خيبة أمله، ولا بد الآن من تناول التاريخ لإثبات أنه غير موجود، أعني لإثبات أن الشر التاريخي ليس إلا صورة من صور الشر المطلق، أو من العبث الذي كتب على الإنسان أن يتحمله ويتحداه في وقت واحد، والدليل على هذا أنه يتكلم عن تمرد العبد على سيده - وهو تمرد تاريخي لا يفهم إلا في مجتمع معين وظروف معينة - على ضوء التمرد الميتافيزيقي؛ ليستخرج منه «قاعدة التمرد الذهبية» التي يصوغها في هذه العبارة الديكارتية: «أنا أتمرد، فنحن إذن موجودون.» وهكذا يسمى تاريخا ما ليس بتاريخ، ويظل مغلقا على نفسه في هذا التمرد الميتافيزيقي الخالص الذي يعجز - على حد قوله - عن إخراج الإنسان من عزلته، لا بل يحكم عليه بهذه العزلة حين يضعه وجها لوجه أمام قدر ظالم لا معنى له. وما دام الإنسان سيظل معرضا لهذا الظالم المطلق، فمن الظلم أن نأخذ ألوان الظلم النسبية مأخذ الجد أو أن نحاول إيجاد حلول لها، فالأطفال الأبرياء سيظلون يموتون، حتى في ظل مجتمع كامل، والشر الأصيل باق مهما حاولنا أن نتمرد عليه.
لا مفر إذن عند الناقد من الوصول إلى هذه النتيجة: إن تمرد «الإنسان المتمرد» قد فقد النقاء الأصيل الذي وجدناه في تمرد سيزيف بعد أن التزم واهتم بالعالم، وتحول لحظة عن حواره المتكبر مع العبث إلى شكل من أشكال التنكر للعقل، والإفلات من الحد، فكامي قد أراد بكتابه أن يجد ملجأ يفزع إليه من شرور التاريخ؛ ليفتش عن الخير خارجه؛ ولذلك كان تمرده هروبا من التاريخ أو رفضا له؛ لأنه وجد الاعتدال والبراءة في التمرد، والانحراف والعبودية والعذاب الجماعي في التاريخ، ولا يشفع لكامي أنه يلح في مواضع كثيرة من كتابه على الالتزام بالتاريخ وعدم إنكاره؛ لأن إنكاره يعني إنكار الواقع، ولأن تاريخنا مهما يكن جحيمنا، فلا يمكننا أن ندير له ظهورنا أو نشيح عنه بوجوهنا؛ ذلك لأن التاريخ هنا ليس إلا شكلا آخر من أشكال العبث أو المجال التي ينبغي علينا أن نحافظ عليها ونتحداها وجها لوجه، وإن كنا لا نستطيع أن نغير منها شيئا أو نقدم فيها على شيء، وكامي بذلك يجعل نفسه سجينا للتاريخ، أو خارجا عن مجرى التاريخ، ويحكم على نفسه بما حكم به على الشيوعيين والوجوديين، وهو بذلك أيضا يسلخ نفسه من مجرى التاريخ، ويضع نفسه على قمة وحيدة ليتأمله من بعيد، مع أننا مهما خرجنا عن التاريخ - لإعطائه هدفا أو غاية - فنحن دائما نعيش فيه، وإذا كان التاريخ يصنعنا، فنحن كذلك نصنعه على الدوام. •••
Bog aan la aqoon