ولكن معلمة الفضائل لم تكن لتتركه وحيدا في محنته، ولا كان يرضيها أن تتخلى عنه بغير أن تقاسمه الآلام التي تحملها في سبيلها، وهل كان لأم العدالة أن تترك البريء المظلوم يسير وحيدا على طريق قدره؟ وهل يليق بها أن تخشى الاتهام وهو ليس جديدا عليها؟ وهل هي المرة الأولى التي تتعرض فيها الحكمة للخطر؟ ألم يكن على القدماء - حتى قبل عهد أفلاطون - أن يكافحوا الغباء مر الكفاح؟ ها هي ذي تقول له: ألم ينتصر معلمك سقراط على الموت الظالم بوقوفي إلى جانبه؟ لقد شرب السم كما تعلم، ومات قبله كثيرون في المنفى أو على يد الجلاد، أنكساجوراس اضطر إلى الفرار أمام غضب الجماهير ليموت بعيدا عن وطنه، زينون الإيلي
6
جلد وعذب وقتله الطاغية نيارخوس قتلة فظيعة، وكانيوس الرواقي أعدمه القيصر المجنون كاليجولا، وسنيكا الحكيم اضطره نيرون إلى الانتحار، وسورانوس أدى به حبه للعدالة إلى الموت ظلما، لا يدهشك إذن أن نسبح على أمواج الحياة فتتقاذفنا العواصف من هنا ومن هناك، فقد قدر علينا أن نغضب الأشرار، وأن نكون همهم الدائم في حياتنا وبعد مماتنا. إن كنت قد وعيت هذا الكلام فما الذي يدعوك إلى البكاء؟ لا تخف عني شيئا، إن كنت في حاجة إلى معونة الطبيب؛ فلا بد أن تكشف عن الجرح. ويجمع بواتيوس أطراف شجاعته فيسألها: أليس في رؤية هذا المكان ما يغني عن كل كلام؟ ألا ينطق بقسوة القدر الذي حكم به علي؟ أهذه هي ملامح وجهي حين كنت أبحث معك في أسرار الطبيعة، وكنت تعلمينني بمعونة الدائرة مسار النجوم، وتنظمين حياتي على هدي النظام السماوي؟ أهذا هو جزاء طاعتك؟ ألم تزيني لي على لسان أفلاطون
7
أن الدول التي يحكمها الفلاسفة أو التي يدرس حكامها الفلسفة هي الدول السعيدة، وأن الأشرار والمجرمين لا ينبغي لهم أن يتولوا شئونها حتى لا يهلك الأخيار والطيبون؟ لقد استمعت إلى نصحك، وحاولت أن أطبق العلم على العمل، يشهد الله وتشهدين على أنني لم أبلغ هذا المنصب إلا لحرصي على الصالح العام. وهكذا نشب النزاع بيني وبين الأشرار، وجلبت علي حرية الضمير سخط الحكام، كم من مرة ثرت على وال يغتصب مال المحروم، وحميت الفقير من استغلال الغني، وكم أنقذت الفلاحين من اللصوص الرسميين، وخففت عنهم الضرائب التي أذاقتهم الجوع. وكم جلبت على نفسي حقد رجال البلاط، وعرضتها للخطر حبا في العدل. القنصل باولينوس - الذي كاد الطفيليون من رجال البلاط يبتلعون ثروته - أنقذته من أيديهم، والقنصل ألبينوس خلصته من عقاب كان ينتظره لتهمة باطلة، وعرضت نفسي لكراهية الداهية كيبريان، ولكن من الذي وجه إلي الاتهام الذي أدى بي إلى هذا المصير؟ إنه بازيليوس الذي طرد من قبل من خدمة الملك، وأوبيليو وجاودينتيوس اللذان حكم عليهما بالنفي بسبب جرائمهما العديدة؛ فلجآ إلى معابد الآلهة هربا من العقاب. أولئك هم الذين لطخوا اسمي، وكانوا أولى الناس بأن تلطخ جباههم وينفوا من الديار. ولكن هل تريدين بعد هذا كله أن تعلمي التهمة التي وجهت إلي؟ لقد ادعوا علي أنني أردت أن أحمي المجلس «السينات»، فحلت بين المدعي وبين تقديم الأسانيد التي تثبت خيانة المجلس، ولكنني لم أفعل ذلك، وما كان لي أن أخون مبدأ سقراط فأخفي الحقيقة وأظهر الكذب. لقد نسبوا إلي رسائل مزورة يدعون أنني طالبت فيها بتحرير روما. ربما كانت إرادة الشر دليلا على عجزنا البشري، أما أن يتمكن الشرير من أن ينفذ أمام الله خيانته، فتلك هي كبيرة الكبائر، وقد يكون هذا هو الذي حدا بواحد من تلاميذك أن يسأل فيقول: «إذا كان الله موجودا، فمن أين يأتي الشر؟ ومن أين يأتي الخير لو لم يكن هناك إله؟» ولو أن الأمر اقتصر على الأشرار بطبيعتهم، لما كان في ذلك شيء، أما أن يشترك أعضاء المجلس كله في توجيه التهمة الكاذبة إلي، فذلك ما يدهشني حقا. إن هذا المجلس نفسه هو الذي طالما تصديت للدفاع عنه وتفنيد التهم الموجهة إليه. ولعلك يا معلمتي لا زلت تتذكرين دفاعي عنه عندما سعى الملك في فيرونا إلى القضاء على أعضاء المجلس جميعا؛ بسبب تهمة الخيانة التي نسبت إلى ألبينوس وحده؛ فأراد الملك أن ينسبها إلى الجميع. وها هو نفس المجلس يتهمني بالإجماع في غيابي، بينما تفصلني عنه مسافة خمسمائة ميل، دون أن يحاول الاستماع إلى دفاعي، وبأي تهمة؟ بالخيانة طمعا في منصب، وأنت التي طردت من قلبي كل مطمع في شيء أرضي، بل لم تتركي فيه مكانا للطمع، وما زلت تهمسين في سمعي كل يوم بهذه الكلمة الفيثاغورية: اتبع طريق الله! لا بل يزيدون على ذلك فيدعون أنك أنت التي دفعتني إلى ما يتهمونني به، وما دفعتني لغير التشبه بالله! ويزيد من ألمي أن الشعب - الذي طالما وقفت إلى جانبه - يصدق دعواهم، ويؤيد حرماني من أملاكي وتجريدي من مناصبي، وتنفيذ الحكم الذي ينتظرني.
قالت السيدة الجليلة: لقد رأيت دموعك فعرفت أنك منفي تعيس، ولولا ما قلته لي ما عرفت شيئا عن قضيتك، غير أنك وإن كنت بعيدا عن الوطن، فأنت لم تنف، وإنما نفيت نفسك بنفسك، وضللت الطريق بإرادتك. ألم أعلمك أن الحرية في أن يمسك المرء بزمام نفسه، ويطيع الحق والقانون بمشيئته؟ ألم أجعل لك وطنا لا نفي منه؛ لأنه لا أسوار له ولا أبواب؟ إن وجودك في هذا المكان لا يحزنني بقدر ما تحزنني رؤيتك على هذه الحال. إن مرارة الألم تمزقك، والعواطف تعصف بك، وهذا ما يجعلني أسقيك الدواء قطرة فقطرة. وتسأل السيدة: هل ترى أن هذا العالم تحكمه الصدفة؟ أم تعتقد أن هناك نوعا من التدبير يتحكم فيه؟ فيجيب السجين: حاشاي أن يخطر لي ذلك على بال! إنما أومن بأن الخالق يسهر على خلقه؛ وتهتف السيدة قائلة: ما أعجب أن يصيبك المرض مع هذا الرأي السليم! وما دمت لا تشك في أن الله هو الذي يدبر العالم، فهل تستطيع أن تقول لي ما هي المبادئ الأساسية التي تدبره؟ ويعجز السجين عن الجواب، فتعود إلى السؤال: هل تتذكر الغاية الأخيرة من الطبيعة؟ - كنت أعرفها ، ولكن الحزن أثلم ذاكرتي. - ألست تعرف أصل الأشياء جميعا؟ - قلت: إنه هو الله. - فهل يجوز أن تعرف الأصل وتجهل الغاية؟ هل أنت واثق من أنك إنسان؟ - وكيف لا أعرف؟ - فهل تشرح لي ما هو الإنسان؟ - إن كنت تقصدين به الكائن العاقل الفاني فأنا أعرفه. - ألا تعرف أيضا أنك شيء آخر؟ - لا. - إذن فلم تعد تعرف من أنت، هذه هي علة مرضك الحقيقية، فلأنك نسيت نفسك رحت تشكو من أنك منفي مجرد من أملاكك، ولأنك لم تعد تعرف الغاية الأخيرة، ظننت أن التافهين وسيئي السمعة هم الأقوياء والسعداء، ولأنك نسيت الأفكار التي تدبر العالم فقد توهمت أن الأقدار تترنح هنا وهناك بغير تدبير، ولكن ما دمت تؤمن بأن حكمة الله لا الصدفة العشواء هي التي تدبر الكون، فلا شك أن شفاءك غير مستحيل.
أتريد أن تنظر نظرة صحيحة
وتعرف الحقيقة؟
فسر في طريقك
بخطى عاقلة،
Bog aan la aqoon