ولأني لم أجد في ملامحه الطيبة أو التي تبدو كذلك أي إشارة تؤكد صدقه أو تنفيه فقد سكت، ولم أشأ أن أجادل.
نحن إذن كوفد ثقافي عربي، لسنا فقط ديكور عدالة.
ولكن نجيء لأن مصلحة اليهود في المدى الطويل تقتضي هذا المجيء.
وهكذا عرفت حقيقة أخرى عن الشخصية الألمانية، أن تركيب الشخصية القهرية يحتم أن يكون إيمان الشخص كاملا بالجهاز الذي يحركه وبالبروغرام الذي يغذيه، وإيمان الشخصية الألمانية بقدرتها إيمان يبلغ حد العبط أحيانا، أو بالضبط حد الغباء. إن الغباء الألماني المشهور ليس هو الغباء نتيجة قلة الذكاء أو الحيلة، ولكنه نتيجة لتولي الشخصية الألمانية نفسها مهمة إلغاء كل قدرات العقل التلقائية على التصرف؛ فهم لا يعترفون أبدا بما يسمى لدينا فكرة اللحظة أو وحي الساعة، ما لم تكن الفكرة قد نشأت ونوقشت واطمأن الشخص تماما إلى سلامتها بحيث يركبها في عقله وتصبح جزءا من برنامج هذا الجهل العقلي الإلكتروني، فإنه أبدا لا يمكن أن يحفل بها أو ينفذها، لقد اختصروا وظائف كثيرة من وظائف العقل، بحيث لم يعد له إلا وظيفة أن يناقش ويقتنع أو يقنع، وحاولوا بالنظام المطبق والقانون أن يجنبوا إنسانهم حاجته إلى التصرف الفردي أو المبتكر أو التلقائي، وهكذا فإنه رغم دقة نظام المرور مثلا وصرامته فحوادث المرور هناك في ألمانيا أكثر منها في بلادنا العربية، السائق العربي باستطاعته إذا لمح الخطر أن يتصرف، ربما حسبما تعلم أو تعود، وربما يبتكر التصرف نفسه ابتكارا، السائق الألماني إذا رأى الخطر ماثلا ولم يكن لديه فيما يعرفه من نظام وقوانين للطريقة التي لا بد عليه اتباعها لمواجهة ذلك الخطر فإنه لا يقدم على أي تصرف بالمرة، ويظل ماضيا إلى الخطر حتى الكارثة ... كأنه بطل تراجيدي وليس إنسانا من أهم ملكاته قدرته على التصرف اللحظي المبتكر.
ذلك الاختناق
وجاءت ليلة الندوة الثقافية التي كنا قد دعينا إليها في برلين، وكان علي بعد قراءة أعمالي أن ألقي كلمة.
كنت أعلم أني هنا في فم الأسد، وأنه نفس الجمهور الذي أحاط بنا من أول لحظة لوصولنا وكأنما ليكون حزاما أو حائطا آخر لبرلين، ازداد عدده حتى قارب المائة هذا صحيح، ولكن النوع أبدا لم يتغير. إنه جمهور مختار ومنتقى بعناية بحيث كلماتنا إن نفذت فإنما تنفذ إلى أدمغة مطعمة تماما ضد أي نفاذ، أو تنفذ إلى أدمغة نحن بغير حاجة إليها لأنها أدمغة غير محايدة.
ومع هذا فقد كان لا بد أن أواجههم بالحقيقة، كيف يصنعون بمجيئنا مسرحية جيدة الإخراج كعادة الألمان، مختارة الجمهور بحيث ينتقى دور الجمهور، عرضها يتم سرا حتى لا يتسرب خبرها إلى المواطن الألماني العادي، ونحن لا نعرف أيضا كيف تتسرب، فجمهورنا هو حراسنا، واختلط الحابل بالنابل، والمعالم تاهت: الألماني الإنجيلي البروتستانتي يحدثك وكأنه مصري، والمصري وكأنه إنجيلي، والعرب كل في طريقه، وكل فقد الثقة في الآخر، وكل يكيل الاتهامات للآخر، وعليك في النهاية أن تختار حزبا من أحزاب، أو أي مخابرات تشاء، وتتهم به غيرك أو يتهمك غيرك به.
قلت الحقيقة هذا صحيح، كل الحقيقة، بادئا بأني لم أقبل المجيء إلا بناء على الخطاب الذي أرسله الطلبة المصريون ولولاه ما جئنا.
قلت كيف أحس لأول مرة في حياتي أني أختنق اختناقا حقيقيا في برلين «الحرة» وأن دكتاتورية إكسيل شبر نجر (أكبر صحفي ألماني صهيوني) أبشع ألف مرة من دكتاتورية الساذج الجعجاع عويلز، حتى يسارك يا «برلين» لا يثلج القلب: «33» منظمة يسارية تتطاحن وتتحارب، ما أسعد اليمين بهذا اليسار إذن، وما أذكى المخابرات الأمريكية! وهي بعد لم تعد تتنكر في أحزاب الرجعية والعمالة المكشوفة، ولكن ما دام اليسار هو المودة بعد ثورة الشباب عام 68 فليكن التنكر يساريا متقنا، وليكن داعرا أيضا، ولتقم جامعة برلين «الحرة» معرضا هدفه إقناعك بالماركسية والشيوعية وبالصورة واللوحة والتجسيم ... معرضا لا يزوره أحد، ولتمول حكومة برلين مسرحا يعرض أعمال «برخت» و«جوركي» لتبدو زاهية المكانة، وليتولى العمال دور الرجعية بحيث - كما ذكر لي طالب يساري حين سألته ما رأى العمال حين يذهبون إليهم ليعلموهم الماركسية (نظرية الطبقة العاملة ذاتها) - يضربون هؤلاء الطلبة وبعنف يلعنونهم؛ إذ لقنتهم صحافة شبرنجران الشيوعية إذا جاءت ستجردهم من كل «المكاسب» أو التأمينات والتوابل الرأسمالية.
Bog aan la aqoon