Magaalada Fadliga
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Noocyada
56
وقد وضع فولتير المغزى الذي قصد في صيغة أحكام: أن تاريخ الأحداث الكبرى في العالم لا يعدو أن يكون تاريخ جرائم، وأن العصور المظلمة فيما خبر الإنسان هي بالضبط العصور التي كانت فيها الكنيسة المسيحية أتم سيطرة على بني الإنسان، وأنه لا توجد في الغالب عصور انتشر فيها النور والمعرفة، وارتقت فيها الفنون والعلم، سوى «العصور الأربعة» السعيدة، حين خفت حدة شر الكهنوت إلى حد ما، فانطلقت العقول من عقالها بعض الانطلاق، واهتدى الناس بهدى العقل؛ هذا - بلا شك - بعض قليل مما في المقال، ولكن هذا البعض هو أهم ما كان القرن الثامن عشر مستعدا لتلقيه وحفظه، ويصف ديدرو أول أثر للكتاب في قوله: «إنه يثير في قلوب القراء مقتا شديدا للكذب والجهل والنفاق والخرافة والطغيان.»
وأما روح الشرائع لمنتسكييه، فنقده أدعى إلى تفصيل أوفى؛ إذ إن الكتاب أصابه من تعليقات شراحه من رجال القرن التاسع عشر ما مسخه وأخرجه عن معناه، وذلك يرجع إلى أنهم اختاروا منتسكييه ليدحضوا به «الفلاسفة» كما اختار الفلاسفة فنلون ليدحضوا به بوسويه، ودفع ذلك رجال القرن التاسع عشر إلى «تصوير» منتسكييه وفق ما اشتهوا، ووصفوه في طليعة أولئك المؤرخين الموضوعيين العميين الذين يهتمون أولا بالوقائع ، ويذهبون عن طريق استعمال المنهج الاستقرائي المقارن إلى «نسبية» النظم، وإلى أن العادات يشكلها المناخ والجغرافيا تشكيلا جبريا؛ وبعد فهل نستطيع أن نجد في منتسكييه ما يؤيد تصوير القرن التاسع عشر له؟ لقد سبق لنا أن أشرنا إلى أن الفلاسفة أنفسهم أخذوا على منتسكييه إسرافه في تعليل ما هو كائن فعلا، وأنه يغلب عليه الميل لإقامة الحق على الواقع، وقد سلمنا بما في هذا النقد من صحة، ونضيف إلى هذا أن الناقد يستطيع إذا تعمد أن يجد في هذا الفصل أو ذاك من روح الشرائع نصوصا يبرهن بها على ما يريد، ويرى الأستاذ فون أن «الكتب الخمسة الأخيرة» تثبت أن منتسكييه كان مثال المؤرخ الذي لا يعنى إلا بتحقيق الوقائع وتعليلها،
57
ويحتمل أن يكون هذا صحيحا بالنسبة لهذه الكتب الخمسة، ولكن أين كتب خمسة من واحد وثلاثين كتابا تكون منها المصنف جميعه؟ ولنذكر أيضا طريقة منتسكييه في التصنيف، فالفصل عنده أحيانا لا يجاوز جملة واحدة، وقد رجع الأستاذ فون نفسه فخفض عدد الكتب التي استشهد بها من خمسة إلى أربعة، فلنسلم بهذا كله، ونقول: إن منتسكييه في كتب أربعة من روح الشرائع، وفي قطع أخرى تماثلها مثال «المؤرخ الخالص» الذي لا يعنى إلا «بتحقيق الوقائع».
وبعد أن سلمنا بهذا علينا أن نأخذ في قراءة الكتاب مغفلين الفواصل التي تفصل هذا العدد الكبير من الكتب والفصول وأرقام الفواصل، ولنذكر دائما في أثناء القراءة أن الكتاب من وضع منتسكييه لا من وضع مؤرخ من رجال القرن التاسع عشر، أو دارس متخصص في علم السياسة المقارن، وأن منتسكييه كان من نبلاء القرن الثامن عشر، وأنه كان مباشرا لشئون عامة؛ «كان من أصحاب القلانس على شكل الهاون - أي من رؤساء القضاء»، وأنه كان رجلا أريبا في تصريف الشئون، وأنه كان واسع الاطلاع، وأنه فكر طويلا في مسائل الإنسان والعالم، وأنه كان يدون أفكاره وتأملاته ويأتي بما يوضحها ويدعمها من شواهد وأمثلة مناسبة، يستحضرها من مطالعاته وتجاربه، فلو قرأنا روح الشرائع على هذا النحو ، لأمكننا أن ندرك أننا لسنا بصدد رسالة متصلة منظمة في علم السياسة، «ولا جديد في ملاحظاتنا هذه، فقد قالها كل من اطلع على الكتاب»، وإنما نحن بصدد أفكار وتأملات منفصلة أو بعبارة أدق، بصدد مجموعة مقالات، وقد نخرج من قراءتنا أيضا بفكرة عن المؤلف نفسه، وهي أنه من بعض نواحيه مونتاني القرن الثامن عشر أو هو مونتاني مطعم بقليل من بيل.
58
وإذا ما أضفنا إلى مونتاني وبيل هذين «عرقا» من سخط القرن الثامن عشر على أحواله، ومن عزم القرن الثامن عشر على تقويمها حصلنا على مؤلف روح الشرائع. هذا؛ ولو عرفنا طريقة منتسكييه في جمع مادته لعجبنا من قول كوندرسيه عنه: إنه شغله ما هو كائن عما ينبغي أن يكون، فهذا القول يفيد فيما يفيد أن منتسكييه كان شديد الحرص على استيفاء مادته وتمحيصها، والواقع غير هذا؛ إذ كان الرجل يتقبل كل ما يقع بين يديه، ويستعمل كل ما يحضره من كتب الأقدمين والرحالة والروايات الشفوية، والمادة في أكثر الأحوال سطحية جدا، لم يعالجها بأي تمحيص إلا فيما ندر؛ ولذا فإن الأولى بمن يطلب مادة خليقة بالثقة أن يرجع إلى فولتير مثلا، هذا إن لم يرجع إلى جيبون، وحقيقة الأمر أن الوقائع في ذاتها لا تحظى كثيرا بعناية منتسكييه، وقيمتها في نظره تنحصر في مقدار الإيضاح الذي تملكه، فليست إذن شيئا أساسيا، وهي ليست صحيحة أو باطلة بصفة مطلقة، ولكنها إحداهما تبعا لما تتضمنه، وعلى هذا، فليس من المهم دقة المؤرخ في تدوينها، إنما المهم كيفية استعماله لها، وهذا على اعتبار أنها ممكنة الوقوع في أحوال معينة وبشروط معينة، وأنها من الوسائل التي يتخذها المؤرخ ليجعل وصفه للسياسة العامة لحكومة من الحكومات حيا واقعيا.
وليوضح بها المبادئ العامة التي ينبغي لكل حاكم أن يتبعها في أحوال معينة، وهذه الكلمة الصغيرة «ينبغي» من الكلمات الأساسية في روح الشرائع، فأينما تفتح الكتاب تجدها، مثلا «ينبغي للدين والقانون المدني أن يتجها لجعل الناس مواطنين صالحين.»
59 «قوانين الحصانة مصدرها قوانين الطبيعة، وينبغي أن تكون مطاعة عند جميع الشعوب.»
Bog aan la aqoon