Magaalada Fadliga
المدينة الفاضلة عند فلاسفة القرن الثامن عشر
Noocyada
17
قبل أن يبين بالضبط أنهما - من حيث الزمان - يأتيان بعد دانتي وتوماس الأكويني، وقبل أينشتين وه. ج. ويلز،
18
ويصح أن أنسب لطريقتي هذه ميزة أخرى، هي أني إذ أدرج نيوتون وفولتير في هذا النسق التاريخي، أجاري استحسان العقل الحديث لها، والظاهر أنه يجد في انتهاجها راحته، وراحة العقل في ذاتها جديرة بأن تطلب؛ إذ إن العقل إذا ما ارتاح إلى نسق ما للأشياء، ظن أنه قد حصل على تعليلها، وهذا بالضبط ما سأحاوله، أريد أن أقدم تعليلا تاريخيا لفكر القرن الثامن عشر، ببيان اتصاله بشيء سبقه وبشيء آخر لحقه.
هذا؛ وقد اعتدنا أن نعتبر القرن الثامن عشر عصرا طابعه الطابع الحديث، والثابت فعلا أن فلاسفته أعلنوا براءتهم من خرافات الفكر المسيحي في العصور الوسطى وشعوذته، واتخذوا من هذا ما يباهون به، ونحن نميل - عادة - إلى تصديق ما نسبوه إلى أنفسهم، ولم لا نصدقهم ونحن أنفسنا نقول: إن عصرهم كان - فوق أي شيء آخر - «عصر العقل»، وإن فلاسفته كانوا لا أدريين، بل كانوا سرا ملحدين، وإنهم عكفوا على طلب المعرفة العلمية، وتمسكوا بالمنهاج العلمي، وإنهم نفروا لسحق الممقوتة (وهو الاسم الذي أطلقوه على الكنيسة المسيحية)، وإنهم البواسل المدافعون عن الحرية والمساواة والأخوة وحرية القول وكل ما تشاء؛ وهذا جميعه صحيح، بيد أني أعتقد أن هؤلاء الفلاسفة كانوا أقرب إلى العصور الوسطى، وكانوا أقل انطلاقا من أفكار نصرانية العصور الوسطى مما تصوروا هم، وما نظنه نحن فيهم، وإن كنا قد ألحقناهم بعصرنا، فأعطيناهم بذلك أكثر من حقهم (أو إن شئت أقل من حقهم)، فإن ذلك يرجع إلى أنهم يتكلمون لغة أقرب إلينا من أي لغة أخرى، وإنا لنقبل على قراءة فولتير أكثر مما نقبل على قراءة دانتي، وإنا لنتبع استدلالا لهيوم
19
أسهل مما نتبع استدلالا لتوماس الأكويني، ومع ذلك فإني أعتقد أن هذا التقدير من جانبنا لا ينفذ إلى صميم فكر هيوم وفولتير وغيرهما من كتاب القرن الثامن عشر، بقدر ما هو متعلق بصفات الفكر السطحية؛ ولذا كنا أدنى إلى أن نرضى عنهم ظرفاء ساخرين، لا جادين متعمقين، وحالهم منكرين أدعى إلى إلحاقهم بأنفسنا من حالهم مثبتين.
على أننا لو فحصنا أصول مذهبهم لتبينا عند كل خطوة أثر فكر العصور الوسطى فيه، وإن كانوا هم عن هذا التأثير غافلين، فعندما فضحوا مثالب الفلسفة المسيحية، فعلوا ذلك بمقدار من الغلو يثبت عليهم أنهم ما فتئوا بعد في غل «الخرافات» التي هم بها يستهزئون، وهم حينما طرحوا عن أنفسهم خشية الله، كانوا يحافظون على ما ينبغي للربوبية من تأدب، وحينما سخروا من فكرة خلق العالم في ستة أيام، كانوا يرون في الكون آلة بديعة التركيب صنعها الكائن الأعظم بتدبير خبير حكيم، لتكون الأرض لبني آدم مستقرا، وحينما أيقنوا أن جنة عدن أسطورة من أساطير الأقدمين كانوا يتلفتون عبر السنين، متلهفين متحسرين على أيام المروءة الرومانية في أوجها الذهبي، أو عبر البحار إلى بنسلفانيا في العالم الجديد، حيث الناس في نعيم جنة لا تشوب طهارته شائبة من دنس، وهم حينما خرجوا على سلطان الكنيسة والإنجيل كانوا يثقون ثقة ساذجة بسلطان الطبيعة والعقل، وحينما احتقروا الميتافيزيقا كانوا يعتزون بأن يسموا فلاسفة، وجردوا السماء من جنة المأوى، ولكنهم - فيما يظهر - كانوا في فعلتهم هذه عجولين؛ لأنهم بقوا على إيمانهم بخلود النفس.
ولم يهابوا الخوض في الإلحاد، ولكن على غير مسمع من أتباعهم، وذادوا عن السماحة في شئون العقيدة الدينية، ذود المستبسلين، ولكنهم لم يستطيعوا مع القسيسين صبرا إلا بشق الأنفس، وأنكروا حدوث الخوارق، ولكنهم آمنوا بقدرة الإنسان على بلوغ الكمال، وبعد أفلا تشعرون بأن هؤلاء الفلاسفة كانوا في نفس الوقت سريعي التصديق كثيري الشكوك؟ وأنهم استهواهم الوقوف عند حد ما هو مدرك إدراكا معاينا متعارفا فأضلهم، وأنهم على الرغم من مناهجهم العقلية وميولهم الإنسانية، ومن نفورهم من الشعوذة والحمية والغموض، ومن اندفاعهم نحو الشك والارتياب، ومن كونهم لا يقدسون شيئا (وإن جرى هذا في أسلوب جذاب) ومن تطاولهم بالتجديف على المقامات السامية، (وإن جرى هذا على نحو ما يجري على ألسنة الشباب النزق)، ومن مثل وعيدهم بأنهم سيستخدمون في خنق آخر الملوك أمعاء آخر القسيسين، على الرغم من كل هذا، فلا يزال في كتاباتهم من الفلسفة المسيحية أثر أكبر مما تصوره مؤلفو كتبنا التاريخية حتى الآن.
هذا هو الموضوع الذي سأحاول بسطه في المحاضرات التالية، وسيكون مما سأعنى بإظهاره أن الأفكار التي قامت عليها فلسفة القرن الثامن عشر هي في جوهرها أفكار القرن الثالث عشر، وهذا بشرط أن نحل محل الاعتبار تغييرات معينة مهمة طرأت على وجهة النظر، وأن الفلاسفة ما هدموا «المدينة الفاضلة» التي بناها القديس أوجسطين إلا ليعيدوا بناءها بما كان يحضرهم من مواد.
Bog aan la aqoon