Madina Fadila Cabr Tarikh
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Noocyada
وقد أصدر الملك أمرا آخر يسمح لطلاب هذا المعهد بجمع المعلومات الخاصة بعملهم: «لما حرم الملك على شعبه الإبحار إلى أي جزء لا يخضع لتاجه، وضع مع ذلك هذا القانون الذي يقضي بأن تنطلق من هذه المملكة كل اثني عشر عاما سفينتان في عدة رحلات، وأن تحمل كل من هاتين السفينتين إرسالية مكونة من ثلاثة طلاب أو إخوة من بيت سليمان، على أن تكون مهمتهم الوحيدة هي تزويدنا بمعلومات عن شئون وأحوال البلاد التي أرسلوا إليها، وبخاصة فيما يتعلق بالعلوم، والفنون، والصنائع والاختراعات التي توصل لها العالم كله، مع تكليفهم بأن يحضروا الكتب والأدوات، والنماذج من كل نوع: ويجب أن تعود السفن بعد إنزال الإخوة على شواطئ ذلك البلد، وأن يبقى هؤلاء الإخوة في الخارج حتى وصول إرسالية جديدة، ولا تحمل السفن إلا مخزون المؤن، وقدر من المال يكفي لكي يشتري الإخوة الأشياء السابقة، ومكافأة الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يستحقون أن يكافأوا. وعلي الآن أن أخبرك كيف أن البحارة العاديين يحظر عليهم أن يكتشفوا على الأرض (التي ينزلون بها) وكيف أن أولئك الذين يتحتم عليهم البقاء على الشط لأي مدة ممكنة، ينتحلون أسماء أمم أخرى، ويكتمون سر الأماكن المحددة التي تتجه إليها هذه الرحلات، والأماكن المحددة التي تتجمع فيها الإرساليات الجديدة، وغير ذلك من الظروف المحيطة بهذا العمل، ولكنني لن أسترسل (في هذه التفصيلات) التي يمكن أن تضيق بها. غير أنك ترى من هذا أننا نحرص على التبادل التجاري، لا من أجل الذهب، والفضة، أو المجوهرات، ولا من أجل الحرير، والتوابل أو أي شيء آخر يقصد به الراحة المادية، وإنما نحرص عليها إكراما لمخلوق الله الأول، الذي كان نورا، لكي يستمد النور من تقدم وازدهار كل أجزاء العالم.»
هذه هي المرة الأولى التي نجد فيها العلم محاطا بمثل هذه السرية، كما أن هذه الفقرة تتردد فيها نبرة حديثة كل الحداثة. إن علماء بنسالم يقومون بالتجسس لمصلحة دولتهم أو معهدهم، ومع أنهم يفرغون العالم من كل اختراعاته وأفكاره الجديدة فهم لا يعطون شيئا في المقابل. لم يعد العلم ملكا للجنس البشري بل لدولة خاصة. وهذا تصور مألوف اليوم، حيث يقل الحرص على حراسة الذهب والفضة عن الحرص على حماية الأسرار النووية، ولكنه كان في أيامه يمثل نوعا من القطيعة مع التقاليد العالمية التي دعا إليها أصحاب المذهب الإنساني في عصر النهضة.
ويحيط جو السرية نفسه حتى ببيت سليمان. فوصول أحد آباء المعهد إلى المدينة حدث مهم، لأن أهلها لم يروا واحدا منهم طوال الاثني عشر عاما الماضية، و«إذا كان يأتي علنا، فإن سبب مجيئه سر.»
صحيح أن الأب الأعلى لبيت سليمان يستقبل أحد زوار المدينة ويعطيه وصفا مطولا عن الثروات التي يضمها بيت سليمان يختتمه بقوله: «باركك الرب يا بني، وبارك الرب هذا التقرير الذي قدمته لك. إنني أجيز لك نشره، وذلك لخير الأمم الأخرى، لأننا نعيش بالقرب من قلب الرب، وأرضنا غير معروفة.» ويتضح من التقرير أنه لا يفشي أي سر، وأنه يقصد التأثير في ضيفه أكثر مما يقصد مساعدته على فهم أسلوب العمل في تلك المؤسسة. وقد رأينا في مدينة المسيحيين كيف كان الزائر يطاف به حول المعهد أو المدرسة ولا يكتم عنه شيء، بحيث نفهم من ذلك أنه كان يستطيع أن يوجه ما يشاء من الأسئلة. أما هنا فنحس بأننا في عرض كبير، وأن رجل الاستعراض خارج الخيمة يثير فضولنا بوصف خلاب وباهر الألوان لما يحدث في الداخل، ولكن من المحظور علينا أن نختلس النظر من خلال شق في الستارة ... ويا لبيكون من رجل استعراض بارع. إن الاختراعات توصف بغير نظام ولا منهج، ولكن لهدف واحد هو إثارة الدهشة في نفس القارئ. ولقد اندهش الكثيرون بالفعل، وتحدثوا عن رؤيته التنبئية الخارقة للعادة، غير أن معظم الاختراعات التي يصفها كأعمال تم إنجازها كانت قد شغلت انتباه فلاسفة وعلماء عصر النهضة، بجانب الكثيرين الذين سبقوهم بفترة طويلة. ونذكر على سبيل المثال محاولة اختراع آلة طائرة قام بها حوالي عام 880م العالم الأندلسي أبو القاسم عباس بن فرناس،
61
وكذلك ليوناردو دافنشي الذي اشتهر بإبداعه لتصميم غواصة. وقد ذكر (مؤرخ عصر النهضة) يعقوب بوخارت أن ليون باتيستا ألبرتي في القرن الخامس عشر، «أثار الإعجاب الشديد بآلة التصوير الغامضة (أو الغرفة المظلمة) التي بين من خلالها كيف تطلع النجوم والقمر فوق تل صخري، وكيف تغوص مناظر طبيعية شاسعة مع جبال وخلجان في منظور معتم، وتنطق مسرعة على سطح الماء في الظل أو في ضوء الشمس المشرقة.» أما المكتبات، وحدائق النباتات، وحتى حدائق الحيوانات، فضلا عن إرسال الوكلاء لجمع المخطوطات من البلاد الأجنبية، فقد كانت كلها تعبيرا عن سمات عصر النهضة في إيطاليا.
ومما يزيد أطلنطا الجديدة تشويقا للقارئ الحديث أنها تهتم غاية الاهتمام بالتطبيق العملي - بل الصناعي - للاكتشافات العلمية. ووصف بيكون للمنتجات الغذائية البديلة والمواد المصنعة ربما يدفئ قلوب العديد من علماء الصناعة المعاصرين: «لدينا كهوف واسعة وعميقة على مسافات مختلفة في باطن الأرض، ينحدر أعمقها مقدار ستمائة قدم، وبعضها محفور تحت تلال وجبال عظيمة، بحيث إنك لو حسبت عمق التل، وعمق الكهف معا، لتجاوز عمق بعضها ثلاثة أميال. وقد وجدنا أن عمق التل مساو لعمق الكهف إذا قسناه من السطح، وكلاهما بعيد عن الشمس وأشعة السماء والهواء الطلق. ومن هنا نطلق على هذه الكهوف اسم الإقليم المنخفض، ونستخدمها في كل عمليات التخمير والتجفيف، والتبريد، وحفظ الأجساد (من التلف)، كما نستفيد منها كذلك في تقليد المناجم الطبيعية وإنتاج المعادن الصناعية الجديدة، وذلك عن طريق تركيبات ومواد نستعملها ونخزنها هناك لعدة سنوات.
ولدينا كذلك بيوت للعطور، ألحقنا بها معامل لاختبار الذوق. ونحن نستخرج عددا من الروائح التي تبدو غريبة، فننتج بعض الروائح التي نستخلصها من مركبات مختلفة عن عناصرها الأصلية، كما نقوم أيضا بعمليات متنوعة لاصطناع الأذواق أيضا، لدرجة أنها تخدع ذوق أي إنسان ... وفي هذا البيت أيضا مبنى مخصص للفواكه المحفوظة، حيث نصنع كل أنواع الحلوى الجافة والرطبة، وأصناف النبيذ المختلفة، والألبان، والمرق، والسلطات، وذلك بتنوع شديد يفوق ما لديكم منها.»
ويشير بيكون إلى اكتشافات أخرى مثل الحركة الدائمة، وأنواع الإكسير الذي يطيل العمر، والتولد التلقائي الذي شغل الكيميائيين والفلاسفة لعدة قرون ولم يتخلوا عنه إلا عندما تبين أنه يستند إلى تصور خاطئ للعلم.
ويعتمد تنظيم البحث العلمي على التقسيم الصارم للعمل: «أما عن وظائف الباحثين عندنا، فلدينا اثنا عشر باحثا يبحرون للبلاد الأجنبية تحت أسماء الدول الأخرى (لأننا نخفي اسم بلدنا)، ويجلبون لنا الكتب وملخصات البحوث، ونماذج التجارب العلمية التي تمت في جهات أخرى، وهؤلاء نطلق عليهم اسم تجار النور.
Bog aan la aqoon