Madina Fadila Cabr Tarikh
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Noocyada
W. H. Mallock «الجمهورية الجديدة» اللتين لا تدعيان أنهما تقدمان مشروعا مبرأ من الأخطاء لمجتمع كامل، وإنما تصفان نمط المجتمع الذي يتمنى المؤلفان أن يعيشا فيه. ومهما جنحت مثل هذه الروايا إلى الإغراب في الخيال، فإنها - كما قال هدسون نفسه - تؤثر في معظمنا تأثيرا رقيقا متصلا، لأنها تنبع من إحساس مشترك بيننا وهو الإحساس بالسخط على النظام السائد للأشياء، الذي يمتزج بإيمان أو أمل غامض في نظام أفضل يمكن أن يتحقق يوما ما ... (ولا يسع الواحد منا إلا أن يسأل صاحبه: ما هو حلمك أو مثلك الأعلى؟ ما هي أخبار من لا مكان؟) ومهما يشعر الإنسان بأن مجتمع «هدسون» الخالي من الجنس أو «المنزل الريفي» اللطيف ل «ماللوك» لا يجذبانه كثيرا إليهما، فهو لا يملك إلا الاعتراف بأن هذين الكاتبين اليوتوبيين ينعشان فؤاده بعض الشيء بالقياس إلى أولئك «المخلصين» الذين لا حصر لهم، والذي غص بهم طريق القرن التاسع عشر. وقد كان بودي أن أضمن هذا القسم مقتطفات من رواية بتلر (أيروهين) لأنها تسخر من أفكار عديدة يتكرر التعبير عنها في يوتوبيات القرن التاسع عشر، وبصفة خاصة فكرة الاعتقاد بأن التوسع في استخدام الآلة سيجلب السعادة للجنس البشري بطريقة آلية، ولكن «أيروهين» لا يمكن اعتبارها يوتوبيا، لأنها تنتمي، كما لاحظ ديزموند مكارثي، لنفس «فئة الروايات التي تنتمي إليها (رحلات جليفر)، وتعبر عن حضارة خيالية يلجأ إليها المؤلف لكي يتمكن من نقد حضارتنا». وقد استعضت عن الروايات السابقة ببعض المقتطفات من رواية أويجين ريشتر، «صور من المستقبل الاشتراكي»، وهي يوتوبيا هجائية خالية من أي طموحات فلسفية، وإن كانت تقدم عددا كبيرا من الاعتراضات التي تثيرها في الذهن يوتوبيات اشتراكية-الدولة.
وهناك عدد قليل من يوتوبيات القرن التاسع عشر التي يمكننا أن نقرأها اليوم دون أن نشعر بالملل التام، اللهم إلا إذا نجحت في تسليتنا بخداع مؤلفيها لأنفسهم وتصورهم أنهم مخلصو الجنس البشري. ولقد احتوت يوتوبيات عصر النهضة على ملامح عديدة جذابة، ولكن اتساع آفاق الرؤية فيها يستوجب الاحترام، أما يوتوبيات القرن السابع عشر فقد طرحت العديد من الأفكار المتطرفة، ولكنها كشفت عن عقول ساخطة نفاذة يمكننا أن نتعاطف معها. وعلى الرغم من أن الفكر الذي تعبر عنه يوتوبيات القرن التاسع عشر يعد من نواح كثيرة فكرا مألوفا لنا ، فإننا نشعر مع ذلك بأنها غريبة عنا أكثر من يوتوبيات الماضي البعيد. ومع أن هؤلاء الكتاب اليوتوبيين قد حركت أقلامهم دوافع سامية، إلا أن المرء لا يسعه إلا أن «يشعر بالمرارة تجاه القرن التاسع عشر» كما شعر العجوز في «أخبار من لا مكان»، بالمرارة حتى من الحب الذي يسرف هؤلاء الكتاب اليوتوبيون في إغداقه على البشر، لأنهم يبدون أشبه بالأمهات الحنونات القلقات اللائي يقتلن أبناءهن من فرط الاهتمام والعطف، بدلا من أن يتركنهم يستمتعون بلحظة واحدة من الحرية. (1) ايتيين كابيه (1788-1856م): «رحلة إلى إيكاريا»
ربما يغفر لنا القارئ بعض الضيق والعصبية ونحن نتعامل مع كتاب يقول عنه مؤلفه: «اتخذت «رحلة إلى إيكاريا» شكل الرواية، ولكنها في الحقيقة بحث في الأخلاق، والفلسفة، والاقتصاد الاجتماعي والسياسي، وهي ثمرة جهد طويل، وبحث واسع، وتأمل متواصل. ولا يكفي قراءتها لكي تفهم فهما صحيحا، بل يجب أن تعاد قراءتها ودراستها أكثر من مرة.» ومما يزيد الأمر صعوبة أن كابيه نفسه يخبرنا أن كتابه: «مستلهم من حب خالص ومتوقد للبشرية.» ولعل العبارة الثانية أن تكون أكثر دقة من الأولى. فايتيين كابيه ينتمي إلى ذلك النمط من المصلحين الاجتماعيين الذين يتكافأ حبهم غير المحدود للبشرية مع إيمانهم بقدرتهم على إنقاذها.
ولد كابيه عام 1788م لعائلة من الطبقة العاملة، ولكنه تلقى تعليما جيدا وأصبح محاميا يتمتع بقدر من الشهرة. كان قد انجذب إلى السياسة منذ صباه، ووقف في صف المؤيدين للملكية المستنيرة. وعندما تولى لويس فيليب الملك، وكان قد علق عليه آمالا كبيرة، عين في منصب النائب العام في كورسيكا. ولكن رعونته واندفاعه صورا له أنه يمكن أن يفرض نصائحه على الملك، وسرعان ما حل عليه الغضب وفقد منصبه. وعاد إلى باريس حيث كرس نفسه للعمل في صحيفة «الشعب» التي سبق له تأسسيها وتحريرها، وفي عام 1834م تعرض للمحاكمة بسبب إحدى المقالات التي كتبها. وحكم عليه بالسجن لمدة سنتين أو النفي لمدة خمس سنوات، فاختار النفي ولجأ إلى إنجلترا.
وصل كابيه إلى لندن في شهر مايو عام 1834م وأرهقه الفراغ الذي فرضته عليه الحياة في المنفى بعد النشاط المحموم الذي مارسه كمحام وصحفي ونائب في الجمعية الوطنية. ومنعه جهله باللغة من الاتصال بالشعب الإنجليزي. وبقيت لندن بالنسبة إليه، كما يقول مؤرخ حياته ج. برودومو
J. Proudhommeaux ، «سجنا حقيقيا لمدة خمس سنوات». ولجأ، مثل غيره من مشاهير المنفيين، إلى المتحف البريطاني، حيث عكف في قاعة المطالعة على «بحوثه الواسعة» لكتابة «رحلة إلى إيكاريا». وربما كانت التسهيلات التي أتاحتها مكتبة المتحف هي المسئولة نسبيا عن افتقار كتابه إلى الأصالة.
حفظت الملاحظات التي جمعها كابيه للاعتماد عليها في كتابة يوتوبياه وملأت ألف صفحة صغيرة؛ ولذلك فلا محل للسؤال عن «الأصول» التي رجع إليها كما يحدث في معظم الحالات. وقد أقبل على العمل بذمة وهمة عالية، وإذا لم يكن قد استطاع دائما أن يقرأ النصوص الأصلية، فقد اطلع على الأقل على تحليلات لمعظم اليوتوبيات، وعكف على دراسة الأوقيانوسة لهارنجتون، وعلى يوتوبيا مور قبل كل شيء. وإذا كان لنا أن نصدقه، فإن قراءته لمور هي التي وجهته لدراسة نظام مشاعية السلع وما إن اكتشف أن «السبب في رذائل الجنس البشري وتعاسته يكمن في التنظيم السيئ للمجتمع، وأن الرذيلة الأساسية التي يقوم عليها هذا التنظيم هي عدم المساواة»، حتى بدأ يبحث بحثا منهجيا عن المفكرين والفلاسفة والأنبياء أو الحركات السابقة التي عبرت عن وجهة نظر مشابهة. واكتشف أن هناك عددا كبيرا من حلفائه في الرأي، وأنهم لا يقتصرون على الكتاب اليوتوبيين، بل يضمون «السيد المسيح، وآباء الكنيسة، والمسيحيين الأوائل، وحركة الإصلاح الديني، وفلاسفة القرن الثامن عشر، والثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، والتقدم العلمي، وأنهم جميعا يدعون إلى المساواة والإخاء بين البشر والأمم».
تأثر كابيه تأثرا قويا، وبشكل مباشر وغير مباشر - على الرغم من عدم اعترافه بهذا - بالأفكار الشيوعية لأتباع بابيف. وكان قد قرأ كتب فيليب بوناروتي حول «مؤامرة المساواة أو مؤامرة بابيف» الذي ظهر في عام 1828م. ورغم أن هذا الكتاب لم يشده كثيرا في ذلك الوقت، إلا أنه استعار بشكل غير واع عددا كبيرا من الأفكار التي ألهمت الحركة البابوفية. أضف إلى هذا أن مشرع إقامة مجتمع المساواة و«المشاعية القومية الكبرى في استهلاك الثروة»، وتسليم جميع السلطات الإدارية لدولة مركزية، وجعل الإرادة العامة للمجتمع هي صاحبة السيادة، وهو المشروع الذي دعا إليه بابيف ورفاقه، قد أثر تأثيرا كبيرا في الفكر الاشتراكي في النصف الأول من القرن التاسع عشر في فرنسا.
لقد اهتمت النزعة الاشتراكية الفرنسية بشكل أساسي، كما أوضح دافيد تومسون في كتابه عن «مؤامرة بابيف»، بتحقيق المساواة الكاملة بين الناس، وكانت في سبيل هذا الهدف على استعداد للتضحية بحرية الفرد (على مذبح) الدولة. وبينما حاول حتى أكبر أنصار المساواة في إنجلترا، وهو جيرارد ونستنلي، أن يوفق بين المساواة وبين التمتع بدرجة عالية من الاستقلال الشخصي، وأن يختزل اختصاصات الدولة إلى الحد الأدنى، فقد أسندت إلى الدولة في فرنسا مهمة تأسيس «المشاعية القومية الكبرى في الثروة» التي ستضمن تحقيق المساواة بين جميع المواطنين. ومع أن كلمات مثل مشاعية الثروة، والمساواة، والإخاء، تتكرر بصورة مستمرة في كتابات البابوفيين، كما تكررت بعد ذلك في كتابات كابيه، إلا أن كلمات الحرية والحقوق الفردية لا تذكر فيها على الإطلاق، كما أنها تتجاهل تماما إمكانية الصراع بين مصالح الدولة ومصالح الفرد.
وإذا كان هناك اختلاف طفيف بين البرنامج العلمي لإعادة البناء الاشتراكي كما دعا إليه البابوفيون وبين البرنامج الذي وضعه كابيه، فإنهما يختلفان اختلافا كاملا حول وسيلة إقامة نظامها الشيوعي. فبينما أراد بابيف أن يقلب الحكومة بالقوة بمساعدة حزب منظم تنظيما جيدا، اعتقد كابيه أن «مشاعية السلع يمكن أن تتحقق بسهولة بمجرد أن تتبناها الأمة أو حكومتها ... وهذه المشاعية لا يمكن إقامتها كما تصور بابيف عن طريق التآمر والعنف، بل بالمناقشة والدعاية والإقناع وقوة الرأي العام.»
Bog aan la aqoon