ويؤسفني أن أقول: إن هذا الحفل من حفلات العقل - الذي كان محل إعجاب وتقدير خلال ثلاثة وعشرين قرنا - انتهى بما قد يسميه قاض من قضاة الشرطة في لندن «خلاعة مخلة بالآداب». وكان أركسيماكوس المحترف وفيدرس الجاد أول من عادا إلى بيتهما وهما يترنحان. أما أرستوديموس فقد خر نائما حيث كان. واستغرق في نومه طويلا، وكان الفصل فصل الشتاء حيث يطول الليل. وعندما انبثق النهار تيقظ، وكان أكثر المدعوين نياما - وكان من الطبيعي جدا عند الأثينيين البارزين أن يدثروا في عباءاتهم ويناموا على أرض غرفة الطعام - ولكنه تنبه إلى أن أجاثون وأرستوفان وسقراط كانوا ما يزالون أيقاظا، يشربون من قدح كبير ويسمرون، وعلى قدر ما استطاع أرستوديموس أن يدرك كان سقراط يرغم الآخرين على الاعتراف بأن المأساة والملهاة يتطابقان بالضرورة، ولما كان في حالة نعاس ولا يزال مخمورا لم يكن على ثقة تماما من سير النقاش؛ إلا إنه أيقن أن الكرى أخذ يداعب أجفان أرستوفان، ثم استغرق في النوم، ولما أشرق النهار تبعه أجاثون «ولما خلص سقراط منهما معا سار (يتبعه أرستوديموس) إلى الليسيوم (الندوة العلمية) حيث استحم كعادته وأنفق يومه في العمل، وفي المساء أوى إلى فراشه في بيته».
المدنية وناشروها
لم أعرف المدنية بعد، ولكني ربما جعلت التعريف أمرا لا ضرورة له، إني أتصور أن كل من تفضل علي بقراءة ما كتبت حتى الآن لا بد أن يكون قد فهم جيدا ما أعني. المدنية صفة من صفات الجماعة، وهي في أبسط صورها الصفة التي تفرق بين ما يسميه علماء الأنثروبولوجي المجتمعات «المتقدمة» وما يسمونه المجتمعات «المنحطة» أو «المتأخرة»، عندما يشرع المتوحشون في تطبيق أحكام العقل على الغريزة، وعندما يكتسبون إحساسا بدائيا بالقيم - أي عندما يميزون بين الغايات والوسائل، أو بين الوسائل المباشرة للخير والوسائل البعيدة - عندئذ يخطون الخطوة الأولى إلى أعلى. إن الخطوة الأولى نحو المدنية هي تصحيح العقل للغريزة، والخطوة الثانية هي أن يتعمد المرء التخلي عن إشباع رغباته الملحة الموقوتة في سبيل تحقيق رغبات أدق منها. إن المتوحش الجائع عندما يمسك أرنبا، يأكله توا في مكانه، أو يحمله معه بحكم غريزته إلى بيته، كما قد يفعل الثعلب، كي يأكله أشباله نيئا، وأول من حمله إلى بيته - برغم جوعه الشديد - وطهاه، كان في طريقه إلى أثينا. كان رائدا، يمكن أن نصفه عدلا كذلك بأنه أول المتدهورين. هذه حقيقة لها دلالتها، فالمدنية شيء مصطنع غير طبيعي، إن التقدم والتدهور، كلمتان يمكن أن تحل إحداهما محل الأخرى. إن كل من زود المعرفة البشرية والحس البشري، بل وأكثر من اكتفى بزيادة أسباب الراحة المادية، هؤلاء هلل لهم معاصروهم الذين استطاعوا أن يفيدوا من مكتشفاتهم واعتبروهم محسنين عليهم، ووصمهم بالانحلال كل من حالت سنه أو غباؤه أو غيرته دون الإفادة من هذه المكتشفات. ومن السخف أن نختلف اختلافا لفظيا. ولنتفق على أن عادة طهو المأكولات يمكن أن تعد خطوة نحو المدنية، كما يمكن بنفس الصدق أن تعد انحدارا من الكمال البدائي للقرد المنتصب.
من هاتين الصفتين الأوليتين - التعقل والإحساس بالقيم - يمكن أن يتفرع عدد عديد من الصفات الثانوية. تذوق الحق والجمال، والتسامح، والإخلاص العقلي، وشدة التأنق، وروح الفكاهة، وحسن الأدب، وحب الاستطلاع، وبغض الفظاظة والهمجية والمبالغة في التأكيد، والتحرر من الخرافة والحشمة المتكلفة، وقبول ما في الحياة من طيبات دون وجل، والرغبة في التعبير الذاتي تعبيرا كاملا وفي التربية الحرة، وازدراء النفعية والابتذال، أو في كلمتين اثنتين - العذوبة والنور، ولا تدرك كل المجتمعات التي تكافح في التخلص من المدنية جميع هذه الصفات، أو حتى أكثرها، وأقل من هؤلاء من يشتد في تمسكه بإحدى هذه الصفات. من أجل هذا قد تجد عددا كبيرا من المجتمعات المتمدنة وعددا قليلا جدا من المجتمعات ذات المدنية الرفيعة؛ لأن المجتمع لا يكون رفيع المدنية إلا إذا استمسك بعدد لا بأس به من صفات المدنية واشتد في تمسكه بها.
ولكن هل يمكن لوحدة غامضة كالمجتمع أن تملك أو تستمسك بصفات دقيقة كهذه؟ لا يمكن أن يكون ذلك إلا بأشد المعاني غموضا. إن المجتمعات تعبر عن نفسها في صور تتفاوت في ثباتها كما تتفاوت في وضوحها، وهذه الصور هي التي تصبح للأنثروبولوجيين والمؤرخين آثار مدنيات هذه المجتمعات. إنهم يعبرون عن أنفسهم في السلوك والعادات والتقاليد، وفي القوانين والنظم الاجتماعية والاقتصادية، ويعبرون عن أنفسهم - فوق هذا كله - في الأدب والعلم والفن الذي قدروه وشجعوه. كما يحدثوننا عن شيء من أنفسهم - بدرجة أقل وثوقا - خلال الأدب والعلم والفن الذي ربما قدروه وربما لم يقدروه، ولكنه من خلق الفنانين والمفكرين الذين أنجبوهم، ولو ضممنا ذلك كله بعضه إلى بعض أمكننا أن نؤلف - في شيء من الوثوق - رمزا واضحا لنظرة إزاء الحياة سائدة وهذه النظرة - التي تتبدى في هذه الصور التي تتفاوت في عمومها وثبوتها - هي ما نسميه المدنية.
المدنية - إذا خاطرت باستعمال استعارة لا يمكن الدفاع عنها بسهولة - هي النكهة التي تضفيها نظرة عقلية معينة على التعبير الذاتي لعصر من العصور أو مجتمع من المجتمعات. إنها اللون الذي تخلعه وجهة نظر خاصة سائدة على المظاهر الاجتماعية. من أين تأتي هذه النظرة التي تلون الحياة، وهذه النكهة التي تعطيها طعمها؟ لا شك أنها تأتي من الأفراد؛ لأن الأفراد وحدهم - كما نعلم - هم الذين لهم عقول يقفون بها موقفا معينا أو ينتقون بها وجهة نظر معينة من وجهات النظر. إن عقل الفرد هو منبع وأصل المدنية - لا جدال في ذلك، ولكن عقلا بشريا واحدا نقطة عذبة في محيط، وبقعة قرمزية واحدة على الشاطئ. إن فردا متمدنا واحدا لا يصنع المدنية. ربما لم يخل العالم من السكان المتمدنين خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، ومن المحتمل وجود واحد أو اثنين منهم في أظلم العصور - وإن لم يكن بطبيعة الحال من بين القبائل الممعنة في الهمجية والبدائية. في غربي أوروبا في القرن العاشر - ولا نستطيع أن ننحدر إلى أبعد من ذلك وإلا كنا بين قبائل فيدا وبوشمان - يصادفنا جوبرت وهو يبدو كالمتمدن ويظهر غريبا بين قومه، كما يبدو كذلك - وهو على نقيضه - الإمبراطور أوتو الثالث، الذي ربما لم يعد أن يكون متصلفا معجبا بذاته، ولا نستطيع أن نثق أنه حتى في القرن الثامن لم ينزو - مجهولين في الأديرة الهادئة - رجال ما كانوا لينبوا في بلاط لورنزو العظيم. بيد أن عصفورا واحدا من عصافير الجنة لا يخلق جو الصيف، ولا تصبح المدنية ممكنة إلا حينما ينضم عدد كاف من أفراد متمدنين بعضهم إلى بعض تتكون منهم نواة يمكن أن يشع منها الضوء وتفيض العذوبة، ومن ثم فإن ناشري المدنية هم الرجال والنساء الضالعون في المدنية الذين تتألف منهم جماعات لها من النفوذ ما يكفي للتأثير في مجموعات أكبر، وفي مجتمعات بأسرها في نهاية الأمر. إن جماعة من المتمدنين لا يصبحون ممدنين إلا حينما يمكنهم أن يؤثروا في المجتمع الذي يعيشون فيه حتى يبدأ هذا المجتمع - بعدما يكتسب ما يميز هذه الجماعة من فضائل خاصة - في إظهار هذه الفضائل في طرائق التفكير والشعور ، والنواة المتمدنة تصبح ممدنة حينما يكفي عددها ونفوذها لتلوين الجماهير، و«النواة المتمدنة» مجرد اسم محدد لعدد غير محدد من الرجال والنساء ذوي المدنية الرفيعة. وهؤلاء الرجال والنساء هم خالقو المدنية وناشروها، هم شرط لازم للتمدن لا محيص عنه.
وإنما يجب علينا أن نبحث عن نشأة المدنية والباعث عليها في عقل الإنسان، فالقوانين والعادات والأخلاق والنظم والحيل الميكانيكية، كما يتبين لنا من مجرد النظر إلى المجتمعات المتوحشة والمستعمرات البريطانية، لا تستطيع أن تخلقها. هذه الأشياء لا يمكن أن تصنع لأنها من صنع الإنسان. إنما هو العقل؛ عقل الفرد، الذي يفكر ويبدع وينفذ، وإنما هو تأثير عقول عدة، تفكر وتشعر بالعطف، التي تشكل عادة - على غير وعي منها ودون قصد - المجتمعات والعصور، ومن ثم فقد بلغنا في النهاية شيئا محددا - وذلك هو الإنسان المتمدن؛ ذلك الإنسان رجلا كان أو امرأة - نتوقع أن نجده متصفا - بطريقة أدق وأشد تهذيبا وتأكيدا - بتلك الصفات التي ذكرنا أنها من خصائص المجتمعات المتمدنة.
إن الشخص المتمدن من جميع الوجوه يود في كل لحظة أن يتابع العقل في أسحق الجحور والزوايا، بينما استجابته الغريزية للحياة تتكيف دائما بالذوق. إن الحياة للشخص المتمدن - رجلا كان أو امرأة - ليست مسألة ضرورة فحسب، إنما هي - إلى حد ما - مسألة اختيار. إنه إذا أمسك بالأرنب، سيطر على نفسه في القرار الذي يصدره عن الكيفية والزمان والمكان الذي يأكل فيه هذا الأرنب. الرجل المتمدن متصنع بالضرورة، ومن التصنيع أن تنظف أسنانك وأن تقول «من فضلك» و«شكرا»، ومن غير الطبيعي ألا تصرع رجلا تغاضبه وهو أضعف منك، ولكن لا تشك أيها القارئ في أني أحاول أن أبرهن على أن الرجل المتمدن هو الرجل الطيب. خير الرجال - إن كان للخير معنى - من يطيق خير الحالات العقلية ويستمتع بها أطول وقت ممكن . يجب علينا أن نبحث عن القديسين في عالم المدنية بين الفنانين والفلاسفة والمتصوفين، لما عندهم من قدرة لا تحد على الاستمتاع بالتأمل والخلق. إن العقل يؤكد للمتمدن إن في هذا يكون خير الأمور، وإن كان الذوق المنحرف قد يهمس قائلا إن خير الأمور لا يتنوع، ومن الأمور الكثير بالطيب مما لا يبلغ أقصى حد للخير فلا يصلح للاستمتاع به. إن الكمال لا يتسع للعوامل التي لا تبلغ الذروة، والمثل الأعلى هو لحظة من لحظات الكمال تستمر إلى ما لا نهاية - إنه أفضل الخير دائما. إنه الشمس المشرقة دائما في السماء؛ إلا إن المرء قد يكون بالغ المدنية بالرغم من أنه يحب ظلال المساء والليالي التي تسطع فيها النجوم، بل ويحب المطر والثلج مما يحمله على أن يزيد من اشتعال ناره. إن المثل الأعلى شيء دائم فريد؛ وقد يجد الرجل الضالع في المدنية نفسه أحيانا على شيء من القلق في نعيم السماء المقيم.
أرجو ألا يفهم أني أقول إن الفنان والفيلسوف والمتصوف لا يمكن أن يكون رفيع المدنية. إنما أقول إن الشخص كامل المدنية لا يمكن أن يكون من النوع الذي ينظر بعين واحدة. لم يكن القديس فرانس، ولا دانتي، أو بليك، أو سزان، أو دستوفسكي، كامل المدنية، ولا يمكن أن يكون كذلك بكل عمله وما يتعلق به، بل إن أفلاطون نفسه، حينما يحلق في سمائه - كما يفعل في «الجمهورية» - ينصرف عن إحساسه بالقيم. إن الرجل الضالع في المدنية أشمل تقديرا من أن يفقد إحساسه بكل شيء سوي موضوع الساعة في أكثر الأحيان أو لفترة طويلة حتى إن كان موضوعه
O Altitudo - ولا ننسى أن لتعدد الجوانب مثالبه كما أن له مزاياه. الرجل الضالع في المدنية مقدر فوق كل شيء. إنه يكتسب في اتساع المدى والتنوع، ولكنه يخسر في جانب الغزارة، والغزارة - كما يزعم الفلاسفة - هي خير الأمور. فإن كان فنانا كان - فيما أظن - ذلك الجانب منه الذي لا ينكب في حماسة شديدة على التعبير الذاتي - ذلك التعبير الذاتي الذي يكاد أن يبلغ تقرير الذات فيبدو خطره - أقول: كان هذا الجانب هو أرقى جوانبه مدنية، (ومع ذلك فإن هذه القدرة على التقدير عند المتمدن، هذه العادة المثقفة عادة نقد الذات، قدمت لنا كل لون من ألوان الفن، من هوراس، إلى بوب، ومريمي، بل وملتن، ومانتجنا، وبوسان، ورن إلخ ...)، ومهما يكن من أمر فإن الرجل المتمدن شديد الحساسية للمؤثرات الجمالية، ولهذه المؤثرات التي ليست من نوع واحد فحسب. إنه ينتقي منها. إنه يميز في تقديره للتجارب الجمالية الجديدة ويتقبلها دائما. وبرغم هذا، وبالرغم من أنه لا بد أن يكون معنيا كل العناية بالجمال والحق والمعرفة، ممتلئ النفس بعرفان الجميل والتقدير الطبيعي للتعبير الجميل عن النفس، فليس من شك في أنه أدق من الفنانين والمفكرين، والعلماء المحترفين، شعورا بأن هناك أمورا أخرى في الحياة تستحق منه اهتماما لا يقل عن اهتمامه بهذه الأمور شدة وحماسة.
Bog aan la aqoon